بسم الله الرحمن الرحيم
ويتتابع اللقاء تلو اللقاء، وتتابع المواقف التربوية التي تتحفنا بها تلك المرأة العظيمة: خديجة - رضي الله عنها -، هذه المرأة الجليلة التي كانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير عون في أموره كلها..وقد قدمت في سبيل ذلك كل ما تستطيعه من خدمة بالنفس والمال والرأي السديد، وتمكنت بذكائها وفطرتها من تثبيت رسول الله - عليه الصلاة والسلام - في المواقف العصيبة..فهلم بنا نستعرض ذلك ونستقي منه أروع الدروس وأعظم الفوائد.
سارت الحياة الزوجية هانئة سعيدة موفقة في هذا البيت المبارك.. ومضت الأعوام تلو الأعوام والأمور مستقرة عند هذين الزوجين.. حتى بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سن الأربعين فحبب إليه الخلاء، فكان يتعبد في غار حراء الليالي ذوات العدد، كما روت ذلك عائشة - رضي الله عنها - إذ قالت: \'وحبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه ـ وهو التعبد ـ الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ثم رجع إلى خديجة فيتزود لمثلها\'. لقد أعانت خديجة زوجها على حياته الطاهرة العفيفة البعيدة عن الأوثان والخمر والمجون، وكانت له سندًا في حياة التجرد والتأمل والبعد عن الصخب والضوضاء... وهي لم تمانع تحنثه هذا، ولم تعارضه فقد كانت تعد له الزاد كل عام ليقضي شهر رمضان في غار حراء، وقد تخرج بنفسها لتحمل له الغذاء وتطمئن عليه، فقد روي أنها خرجت تلتمس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأعلى مكة ومعها غذاؤه فلقيها جبريل في صورة رجل فسألها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فهابته وخشيت أن يكون بعض من يريد أن يغتاله.. فلما ذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: هو جبريل وقد أمرني أن أقرأ عليك السلام وأبشرك ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب.. ولو أنها تركت الأمر لعاطفتها الأنثوية لما رضيت ـ كأي امرأة ـ أن يبتعد عنها زوجها ليلة فكيف بالليالي العديدة؟ لقد صبرت واحتملت مفارقته لها ما دام هذا يعجبه ويريحه، فهي تحب كل ما يحبه رسول الله - عليه الصلاة والسلام - ويهواه.. كما أنها لم تدع للشكوك طريقًا إليها، فلم تظن أنه إنما فعل ذلك هربًا من بيته ومسؤولياته أو كرهًا لها وبحثًا عن غيرها، إضافة إلى أنها وفرت له الجو الهادئ والراحة التامة ولم تشعره بأي ضيق أو ضجر من حالته هذه فما دام سعيدًا بخلوته تلك فهي راضية هانئة سعيدة.. ولكنها كانت تقلق عليه إذا تأخر وتخشى أن يقع له أي مكروه فكانت ترسل غلمانها وخدمها للبحث عنه - صلى الله عليه وسلم -، وقد بلغ من شدة حبها لرسول الله - عليه الصلاة والسلام - وحب ما يحبه أنها خرجت مرة معه إلى غار حراء وصحبته في خلوته تلك، إن موقف خديجة السابق هذا هو ما ينبغي أن تسلكه كل زوجة في إعانتها لزوجها وتأييدها له.. فالزوجة الصالحة الراشدة هي خير سند لزوجها بإعانته على ما يحمله من رسالة أو دعوةº فتهيئ له الجو المناسب والرعاية التامة وتحذر من أن تلحق بزوجها أي أذى بإفشاء سره، وتصبر على ما قد يلحق بها نتيجة لانشغاله عنها وتحتسب ذلك كله عند الله - تعالى -.
بدأت تباشير النبوة وإرهاصاتها تظهر في حياته - صلى الله عليه وسلم -، فقد روي أنه كان - عليه السلام - لا يمر بشجر ولا حجر إلا يقول له: السلام عليك يا رسول الله.. فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتلفت عن يمنيه وشماله فلا يرى أحدًا وقد روى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لخديجة بعضًا من ذلك، فمثل هذه الحوادث الغريبة أثارت في رسول الله - عليه الصلاة والسلام - الخوف والقلق والهلع، فقامت - رضي الله عنها - ـ وهي أقرب الناس إليه ـ بطمأنته والتخفيف عنه وتهدئته بما آتاها الله من عقل وحكمة ورأي صائب، فكانت له نعم السند والملجأ والمعين.. روى ابن سعد عن هشام عن عروة عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يا خديجة إني أرى ضوءًا وأسمع صوتًا ولقد خشيت أن أكون كاهنًا.. قالت: إنك تصدق الحديث وتؤدي الأمانة وتصل الرحم، وفي إحدى الروايات أنه قال لها: وإني أخشى أن يكون بي جنّ فقالت له: لم يكن الله ليفعل بك يابن عبد الله ثم تتابعت الإرهاصات.
فكان رسول الله - عليه الصلاة والسلام - لا يرى رؤيا إلا كانت مثل فلق الصبح كما روت ذلك أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -.
وكلما رأى رؤيا قصها على زوجته الحبيبة والتي بدورها كانت تبشره بالخير وتفسرها له التفسير الطيب المفرح.. فقد روي أنه رأى في منامه أن سقف بيته ينزع منه خشبة ويدخل فيه سلم من فضة ثم ينزل منه رجلان فأراد الاستغاثة فمنع من الكلام فقعدا إليه فأدخل أحدهما يده في جنبه فنزع ضلعين منه فأدخل يده في جوفه ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجد بردها، فأخرج قلبه فوضعه على كفه وقال لصاحبه: نعم القلب، قلب صالح، فطهر قلبه وغسله ثم أدخله مكانه ورد الضلعين ثم ارتفعا ورفعا سلمهما فإذا السقف كما هو.. وقد روى - صلى الله عليه وسلم - ذلك لخديجة فقالت له: أبشر فإن الله لا يصنع بك إلا خيرًا.. هذا خير فأبشر.
لله درك يا حبيبة رسول الله ما أحكمك وما أرجح عقلك، لقد أحسنت بتأويلك هذا لتلك الرؤيا فهدأت من روع زوجك وخففت من قلقه فساعدت في تثبيته وتقويته فهي البشارة والخير وليس الخوف والهلع فجزاك الله كل خير..
واستمرت البشارات تتوالى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توطئة لنبوته، واستمرت خديجة تحمل دور الزوجة المساندة المعينة لزوجها المثبتة له المخففة عنه كل خوف وهلع وقلق... وفي إحدى الليالي أسمعه جبريل صوته مسلمًا: السلام عليكم، فعاد رسول الله - عليه السلام - إلى خديجة مسرعًا فأخبرها بما حدث فقالت: أبشر فإن السلام خير. وروي أنه خرج من عند خديجة ثم عاد فأخبرها أنه رأى قد شق بطنه ثم طهر قلبه وغسل ثم أعيد كما كان فقالت: هذا والله خير فأبشر.
وفي إحدى الليالي من رمضان وعلى وجه التحديد يوم الاثنين الحادي والعشرين من رمضان من العام الأربعين لميلاده - عليه السلام - وفي أثناء تحنثه وتعبده - صلى الله عليه وسلم - في غار حراء نزل أمين الرسالة السماوية جبريل - عليه السلام - ناشرًا نوره السماوي على غار حراء والتقى بمحمد الأمين - عليه الصلاة والسلام - قائلاً: اقرأ.. فرد رسول الله - عليه السلام - بكل عفوية: لست بقارئ.. فرسول الله - عليه الصلاة والسلام - كان أميًا لم يتعلم القراءة والكتابة. فأخذه جبريل وضمه إليه فكان التقاء الأمينين أمين السماء وأمين الأرض وقد كانت ضمته قوية حتى إنه قد أجهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بلغ منه الجهد ثم أرسله فقال له: اقرأ. فقال: لست بقارئ: ثلاثًا ثم قال له: {اقرَأ بِاسمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الإِنسَانَ مِن عَلَقٍ,، اقرَأ وَرَبٌّكَ الأَكرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ، عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَم يَعلَم}[العلق: من 1 ـ 5]، فرجع بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترجف بوادره فأخبر بذلك خديجة وقال: قد خشيت على عقلي فثبّتته وقالت: أبشر، كلا والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتُقري الضيف وتعين على نوائب الحق.. تصديقًا وتثبيتًا وإعانة على الحق فهي أول صديق له - رضي الله عنها -.
ثم إنها - رضي الله عنها - انطلقت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل وكان قد تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني وكان شيخًا قد عمي، فلما أخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما رآه في الغار قال له ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى يا ليتني فيها جَذَع أكون حيًا حين يخرجك قومك.. قال محمد - صلى الله عليه وسلم -: أو مخرجيّ هم؟ قال: نعم، لم يأت أحد بما جئت به إلا عودي وأوذي وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا.. ثم لم يلبث ورقة أن توفي.. وبهذا تبيّن لنا بشكل واضح جليّ حكمة خديجة وفطنتها وحسن تصرفها ورجاحة عقلها وسلامة فطرتها، إذ أنها لم تكتف - رضي الله عنها - بتثبيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطمأنته وتهدئته وإيناسه بكلام منطقي جميل بليغ، بل سارعت بإعطائه تثبيتًا من نوع آخر عن طريق ابن عمها ورقة والذي بدوره أخبره بأنه سيكون نبي هذه الأمة ليطمئن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتهدأ نفسه لما يراه ويحصل له من أحداث ومواقف.. لقد كانت من أعرف الناس بأخلاق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمكانها منه وعشرتها له وإطلاعها على السر والعلانية، وقد رأت من أخلاق رسول الله - عليه الصلاة والسلام - وشمائله ما يؤكد أنه الرجل الموفق والمؤيد من الله المصطفى من خلقه، المرضي في سيرته وسلوكه وأنه مَن كانت هذه أخلاقه وسيرته لا يخاف عليه لمّة من الشيطان أو أن يكون به مسّ من الجن، وأن ذلك يتنافى مع ما عرفته من حكمة الله ورأفته في خلقه فقالت في ثقة وإيمان وتوكيد: \'والله لا يخزيك الله أبدا.. \'.. لقد استدلت بما فيه من الصفات الفاضلة والأخلاق والشيم على أن مّن كان كذلك لا يخزى أبدًا، فعلمت بكمال عقلها وفطرتها أن الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة والشيم الشريفة تناسب أشكالها من كرامة الله وتأييده وإحسانه ولا تناسب الخزي والخذلان، وإنما يناسبه أضدادها فمَن ركّبه الله على أحسن الصفات والأخلاق والأعمال إنما يليق به كرامة الله وإتمام نعمته عليه، ومَن ركّبه على أقبح الصفات وأسوأ الأخلاق والأعمال إنما يليق به ما يناسبها.. وبهذا العقل والصديقة استحقت أن يرسل إليها ربها السلام مع رسوليه جبريل - عليه السلام - ومحمد - صلى الله عليه وسلم -.
لما لاحظت خديجة قلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخوفه من الوحي أقنعته ـ وهي الزوجة المحبة لزوجها المساندة له في رسالته ـ أن هذا الذي يأتيه ما هو إلا ملك وليس بشيطان فكيف كان ذلك؟ وما هي قصة المقاطعة وشعب أبي طالب؟ والمصاعب التي مرت بخديجة - رضي الله عنها - والتي أتعبتها فأدت بعد ذلك لوفاتها؟ وكيف تركت خديجة في قلب زوجها حزنًا عظيمًا وفراغًا كبيرًا بوفاتها رضوان الله عليها؟.. كل هذا وغيرها من أحداث ومواقف تنتظركم في الحلقة القادمة.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد