الوحي وتبليغ الرسالة


  

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من بعث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن استن بسنته واهتدى بهديه واقتفى أثره وسار على نهجه إلى يوم الدين. أما بعد:

 

الوحي وتبليغ الرسالة

ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في تعبده وتحنثه ينتظر النبوة أو يترقبها، بل لم تكن تخطر على باله كما ذكر الله - تعالى - في كتابه حيث قال: {وَكَذَلِكَ أَوحَينَا إِلَيكَ رُوحاً مِن أَمرِنَا مَا كُنتَ تَدرِي مَا الكِتَابُ وَلا الأِيمَانُ وَلَكِن جَعَلنَاهُ نُوراً نَهدِي بِهِ مَن نَشَاءُ مِن عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهدِي إِلَى صِرَاطٍ, مُستَقِيمٍ,} (الشورى: 52).

وقال - سبحانه -: {وَمَا كُنتَ تَرجُو أَن يُلقَى إِلَيكَ الكِتَابُ إِلَّا رَحمَةً مِن رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلكَافِرِينَ} (القصص: 86).

بعث - صلى الله عليه وسلم - وعمره أربعون سنةً كما في الصحيحين عن ابن عباس أنه قال: «أنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن أربعين سنةً، فمكث بمكة ثلاث عشرة سنةً، ثم أمر بالهجرة فهاجر إلى المدينة، فمكث بها عشر سنين، ثم توفي - صلى الله عليه وسلم -» (الفتح 7199، 267).

وكان ذلك في شهر رمضان المبارك كما في رواية البخاري في كتاب بدء الوحي. وقد جاور في الغار تلك السنة شهراً كاملاً كما ورد في صحيح مسلم.

أخرج البخاري ومسلم عن عائشة - رضي الله عنها - في ذكر بدء الوحي قالت: «أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم (وفي رواية أخرى «الصادقة»)، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح».

ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء فيتحنّث فيه - وهو التعبد الليالي ذوات العدد - قبل أن ينـزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها. حتى جاءه الحق وهو في غار حراء.

فجاءه الملك فقال: اقرأ. فقال: ما أنا بقارئ. قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني. فقال: اقرأ. قلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني. فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: {اقرَأ بِاسمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الأِنسَانَ مِن عَلَقٍ,. اقرَأ وَرَبٌّكَ الأَكرَمُ}.

فرجع بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد - رضي الله عنها -، فقال: زملوني زملوني. فزملوه حتى ذهب عنه الروع. فقال لخديجة - وأخبرها الخبر - لقد خشيت على نفسي (أي: من الموت أو المرض أو دوام المرض).

فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبداً. إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.

فانطلقت به خديجة حتى أتت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة. وكان امرءاً قد تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب. وكان شيخاً كبيراً قد عمي.

فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبر ما رأى. فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى يا ليتني فيها جذعاً، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو مخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً. ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي».

وَقِف أخي مع كلمة: «وفجأه الوحي» لتعلم كيف تحمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو في حال عزلته وتحنّثه وخلوته فيدخل عليه شخص غريب بصورة عجيبة ثم يضمه إليه ويقول إقرأ. لاشك أنه بقي خائفاً وهو علامة على ثباته - صلى الله عليه وسلم -. وهكذا من تحمل هذا الدين ينبغي له أن يصبر ويعلم أنه لم يصل إليه إلا بعد تعب ونصب قاسى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصنافاً من العنت والتعب.

فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعالج من التنـزيل شدةً، وكان يأتيه في اليوم الشاتي فيتفصّد جبينه عرقاً، وقد كادت رِجل زيد بن حارثة أن ترتض لما نزل الوحي ورأسه على رجله.

وفي مسلم عن عبادة بن الصامت: «كان إذا نزل عليه الوحي كرب لذلك وتربد وجهه وغمض عينيه».

 

تبليغ الرسالة:

وقد أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة وتبليغ ما أنزل إليه فبدأ بدعوة من يثق به سراً عن سماع المشركين، ومكث على هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث سنين مسراً بالدعوة منذ أرسله الله حتى بادأ قومه بالدعوة، يدعو سراً من يثق به من بني قومه، حيث لم يأمره الله - تعالى -بالجهر بالدعوة والصدع بها.

 

وكان المسلمون جميعاً يكتمون إسلامهم ويخفونه عن أقوامهم وأهليهم. روى البخاري عن ابن عباس قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للمقداد: «إذا كان رجل ممن يخفي إيمانه مع قوم كفار فأظهر إيمانه فقتلته، فكذلك كنت أنت تخفي إيمانك بمكة من قبل» (الفتح 21781 ح 6686).

 

ولسرية الدعوة حكم عظيمة وفيها دروس وعظات ومنها:

1- التخفيف على الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى لا يواجه العدوّ وحده من أول يوم مع فقدان الناصر.

2- استطاع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذه الفترة أن يستقطب أتباعاً وأنصاراً للدعوة تمكن من تربيتهم والعناية بهم فكانوا خير عون وسند له بعد الجهر بالدعوة، وهم الذين قامت عليهم الدعوة إلى الإسلام، فكانوا هم البنية الأساسية والقاعدة الصلبة والعمود الفقري للدعوة إلى دين الله - عز وجل -.

3- إن الإسرار بالدعوة أمر مرحلي واستثنائي لظروف وملابسات خاصة هي ظروف بداية الدعوة.

وعلى هذا فإن الإسرار بالدعوة كلها بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - مخالف للأصل الثابت المستقر، فلا يجوز اللجوء إليه إلا عند الضرورة، أما الإسرار بما سوى ذلك من الوسائل والخطط والتفصيلات فهو أمر مصلحي خاضع للنظر والاجتهاد إذ لا يترتب عليه كتمان للدين، ولا سكوت عن حق، ولا يتعلق به بيان وإبلاغ.

ولهذا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بعد أن صدع بالدعوة وأنذر الناس وأعلن النبوة ظلّ يخفي أشياء كثيرة لا تؤثر على مهمة البلاغ والبيان، كعدد أتباعه، وأين يجتمع بهم؟ وما هي الخطط التي يتخذونها إزاء الكيد الجاهلي، ومن أمثلة ذلك قصة الهجرة، وقصة أبي ذر وعمرو بن عبسة.

وصلّ اللّهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply