أسباب الهجرة:
1- صدع رسول الله- صلى الله عليه وسلم - بالدعوة وأنذر قومهº فاشتد الأذى والاضطهاد على المستضعفين من المؤمنين في مكة، ففكر النبي - صلى الله عليه وسلم - في الهجرة إلى المدينة، وقد جاء التصريح بهذا السبب في قول بلال وأبي بكر و غيرهما، بل كان ذلك هو السبب في الهجرة إلى الحبشة قبل الهجرة إلى المدينة.
2- وكان من أسباب الهجرة كذلك رغبة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الانتقال إلى أرض يجد فيها المأوى لأصحابه والنصرة لدعوته، ولتكون منطلقاً للطموحات الكبيرة لدعوة الإسلام في الأرض.
3- تأمين المستضعفين من المؤمنين من الفتن بإيجاد دار يهاجرون إليها فراراً بدينهم.
4- كان لا بد من وجود قوة تحمي الدعوة في بداية الطريق لتمضي إلى أهدافها، وكان لا بد من دولة تؤسس تلك القوة المأمولة، فكان لا بد من أرض تقوم عليها الدولة.
أوفد النبي - صلى الله عليه وسلم - بين يدي هجرته بعض النبلاء من أصحابه الكرام لتهيئة المهجر لاستقبال النبي - صلى الله عليه وسلم -، والقيام بالدعوة لإضافة أنصار جدد يشاركون في تحمّل تبعة هذه الخطوة الخطيرة، وكان من رواد هذه الطلائع مصعب بن عمير وعبد الله بن أم مكتوم كما ذكر البخاري، كما كان من أوائلها كذلك أبو سلمة بن عبد الأسد كما جزم ابن إسحاق.
صدق المهاجرين الأولين وحسن بلائهم:
انطلق المؤمنون مهاجرين جماعات ووحدانا، وقد تعرض كثير منهم للأذى والبلاء حال هجرته، وكان ممن تعرضوا للبلاء أم سلمة التي منعها أهلها من الهجرة مع زوجها، ونزع أهل زوجها ابنها منها فتجاذبوه حتى خلعوا ذراعه، فهاجر أبو سلمة وحده، وبقيت أم سلمة في أحزانها على فراق زوجها وولدها حتى استرجعت بعد مدة ولدها، ولحقت بزوجها وتمت لها هجرتها.
كما وقع لصهيب أن أمسكه المشركون حين خرج مهاجراً وخيروه بين ماله وبين السماح له بالهجرة، فاختار الهجرة وشرى نفسه ابتغاء مرضاة الله كما هو شأن كل مهاجر صادق فربح بيعه.
وهاجر عمر سراً أخذاً بأسباب الحيطة والحذر، واستبقى النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر الصديق ليصحبه في هجرته حسب الخطة التي رعاها الله، فقد سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - جبريل: من يهاجر معي؟ قال جبريل أبو بكر الصديق، كما روى الحاكم في مستدركه عن علي وصححه، ووافقه الذهبي.
أحس المشركون في مكة بخطر تلك الهجرات المتتابعة لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفطنوا إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لابد أن يلحق بهم، وأنهم هناك في دار هجرتهم سيقوى أمرهم، وتقوم لهم دولة، وتحصل لهم شوكة، ففكروا على الفور في التخلص من النبي - صلى الله عليه وسلم -.
واجتمعوا في دار الندوة للتشاور في تفاصيل الخطة، واستعرضوا الاقتراحات التي كان أهمهاº القتل أو السجن أو الطرد من مكة، وتبدى لهم الشيطان في صورة شيخ نجدي فشاركهم المشورة، فسمعوا له، فخذلهم عن فكرة السجن وفكرة الطرد، فاقترح أبو جهل قتله فأيده الشيخ النجدي، فاتفقوا على أن يجمعوا من كل قبيلة فتى شاباً نسيباً فيضربوا جميعاً محمداً ضربة رجل واحد فيتفرق دمه في القبائل، فتعجز بنو عبد مناف عن حرب قومهم جميعاً فيرضوا بالدية، وانفض المجلس على هذا العزم.
أعلم الله - تعالى - نبيه - صلى الله عليه وسلم - بخبر هذا الاجتماع، فأمر علياً بالمبيت في فراشه، لإيهام المشركين بأن النائم هو النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أمره أن يتخلف عنه ليرد الودائع والأمانات التي كانت عنده للمشركين، وتسلل - صلى الله عليه وسلم - إلى بيت أبي بكر في وقت الظهيرة، وهو وقت هدأة الرِّجل، وقلة المارة، وذلك لبحث آخر الترتيبات لرحلة الهجرة.
كان أبو بكر قد أعد للرحلة راحلتين، فقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - إحداهما بثمنها، واتفقا على أن يخرجا ليلاً إلى غار ثور، وأن يمكثا فيه ثلاثة أيام حتى يهدأ الطلب، واستأجرا مرشداً ذا خبرة بالطرق، وهو عبد الله بن أرقد أو أريقط وكان على دين قومه وزودتهما أسماء بنت أبي بكر بزاد، وكان عبد الله بن أبي بكر يأتيهما في الليل في الغار ومعه الأخبار، ويعود إلى مكة قبل الفجر فيصبح بين الناس إذ كان لا بد من التعرف على أسرار العدو لمتابعة تنفيذ الخطة على ضوء الخبرة بالواقع لا على المجازفة والمغامرة، وكان عامر بن فهيرة مولى
أبي بكر يرعى غنمه في النهار ثم يدنو بها في الليل من الغار ليشربا من ألبانها وليعفي بأقدامها آثار أقدام عبد الله بن أبي بكر.
واجتمع القوم على باب النبي - صلى الله عليه وسلم - ينتظرونه ليخرج لينفذوا خطتهم، لكنهم سقط في أيديهم حين اكتشفوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد خرج دون أن يروه، وحق فيهم قول الله - تعالى -: (وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون).
في الغار:
وبقي النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه في الغار ثلاثة أيام تجلّت خلالها قوة ثقة النبي - صلى الله عليه وسلم - في ربه وحسن توكّله عليه حين كان يهدئ من قلق أبي بكر خوفاً على النبي، ويقول له: \"يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما: ويقول ما حكاه القرآن: لا تحزنº إن الله معنا\". وحين هدأ الطلب، وجاءهما الدليل، انطلقوا إلى المدينة عن طريق الساحل.
معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - في رحلة الهجرة:
أعلنت قريش عن جائزة كبيرةº مائة من الإبل، لمن يأتي بمحمد حياً أو ميتاً، وتسابق الناس في البحث أملاً في الحصول على تلك الجائزة، وكان من هؤلاء سراقة بن مالك الذي أدرك الركب الكريم، فلما دنا منهم ساخت قوائم فرسه في الرمال، فعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد منعه الله من أعدائه، فطلب الأمان وعاهد النبي على كتمان خبره، ووفّى بذلك فلم يخبر قريشاً بالأمر، ثم إنه أسلم بعد حنين والطائف.
بركات النبي - صلى الله عليه وسلم - في رحلة الهجرة:
وكان من بركة النبي - صلى الله عليه وسلم - في تلك الرحلة أن مروا بخيمة أم معبد، ولم تكن شاتها ذات درّ، فمسح النبي - صلى الله عليه وسلم - على ضرعها، ودعا الله فدرت كأحسن ما تكون الشاة الحلوب فشربوا حتى ارتووا، ثم انطلقوا في طريقهم.
وحين دنت قافلة الهدى من المدينة خرج أهل المدينةº رجالهم ونساؤهم وأطفالهم يتلقونه مرحبين فرحين بقدوم المصطفى - صلى الله عليه وسلم -.
ولما بلغ الركب الطيب قباء أقام بها ليال أسس فيها مسجد قباء، ثم دخل المدينة وسار في دروبها حتى بركت ناقته أمام دار أبي أيوب الأنصاري، فأمر ببناء المسجد في الموضع الذي بركت فيه الناقة، واستضاف أبو أيوب الأنصاري رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في داره شهراً ريثما تم بناء المسجد النبوي وبعض الحجرات بجواره.
ثانياً: الدروس والعبر المستفادة من الهجرة:
1- الحزم البالغ، والحس الأمني العالي لدى النبي، حيث تحرك في الوقت المناسب، دونما تأخير، وذلك حين علم بعزم قريش على تبييته، واختيار الوقت المناسب للذهاب إلى بيت أبي بكر، وهو وقت القيلولة، وسؤاله حين دخل إلى البيت: من عندك؟
2 - الأخذ بما أمكن من الأسباب، كإشغال المتربصين بنائم في الفراش حتى يتسنى للنبي التحرك في أمن - إعداد أبي بكر للراحلتين مسبقاً الخروج من خوخة لأبي بكر في ظهر بيته الاتفاق مع المرشد مع التأكد من كونه مأموناً - تكليف عبد الله بن أبي بكر وأخته أسماء وعبد الله بن فهيرة الراعي بمهامهم اختيار غار ثور للاختباء فيه ثلاثاً لكونه في غير جهة الانطلاق إلى المدينة، ولكون الطريق إلى مكة مرصوداً بالفرسان المتربصين.
3- السرية التي أحاطت الخطة حتى النجاح دليل على أهميتها في كل عمل يكتنفه الصراع مع الكفار أو المنافقين.
4- بيان فضل أبي بكر باختيار النبي له دون غيره، فكان هذا الاختيار من أعظم التوفيق للنبي الكريم، كما كان فيه الإشارة إلى تأييد الله - عز وجل - لنبيه وحسن رعايته - سبحانه - لتلك الخطوات المباركة في رحلة الهجرة، وهي منقبة عظيمة لأبي بكر سجلها القرآن الكريم منوهاً بما كان عليه - رضي الله عنه - من الحب للنبي والخوف عليه وتفديته بنفسه، ولقد علمت أمة الإسلام أنه أفضل الأمة بعد نبيها - صلى الله عليه وسلم -.
5- فدائية علي -رضي الله عنه- بمبيته في فراش النبي، وهو يعلم بالأمر تدل على أن التربية الإيمانية هي وحدها الجديرة بتقديم مثل هذه النماذج الرفيعة في الجندية والشهامة والرجولة.
6- في تكليف النبي - صلى الله عليه وسلم - علياً برد الأمانات التي عنده للمشركين دليل على أن القيم الأخلاقية لا تهتز في منظور الإسلام تحت أي ظرف من الظروف مهما كانت شدته وقسوته.
7 - في ائتمان المشركين للنبي - صلى الله عليه وسلم - على أماناتهم رغم جحودهم لدعوته ما يؤكد أن الداعية والمصلح بإمكانه أن يؤسس أرضية طيبة من الثقة والاحترام لدى المدعو تهيئه فيما بعد لتقبل الدعوة، وهو ما كان من قريش حيث دخلوا جميعاً في الإسلام.
8- في استئجار ابن أريقط المشرك للدلالة على الطريق جواز الاستفادة من خبرات المشركين إذا أمن غدرهم، مع النظر الدقيق في قاعدة المصالح والمفاسد.
9- كان بيت أبي بكر نموذجاً فذاً لبيوت الدعوة، فأبو بكر يعرف مهامه فيقوم بها على أكمل وجه، فيقدم رغبته الشديدة على الصحبة، ويبذل ماله (بشراء الراحلتين)، ويجنّد ابنه وابنته وراعيه لإنجاح أدوار الرحلة ثم يبذل نفسه بالقيام بتلك الصحبة.
10- إذا تمكن الإيمان من النفس وخالطت بشاشته القلوب أرخص المؤمن كل شيء في سبيل عقيدته، فهذا أبو بكر لم يقل: أجنب أبنائي الأخطار، لا سيما البنات، بل تجلى صدق إيمانه في كل خطوة من خطوات الرحلة، فكانت نصرة الدين أعلى وأغلى عنده من النفس والولد والمال، وبمثل هذا الصدق تنجح الدعوات وتنتصر.
11- ومن دروس الهجرة أن نصرة الدين يجب أن تكون أعلى من كل اعتبار، فالوطن العزيز على النفس جِبِلّة، يتركه المؤمن حين يعتقد أن في تركه نصرة لعقيدته ورفعاً لرايته، فقد ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة وهي أحب البقاع إليه لما خشي على أصحابه الفتنة، ولما أراد أن يؤسس للإسلام دولة.
12- ثبوت كثير من معجزات النبي في هذه الرحلة، فمنها ما غشّى أبصار المشركين حين خروجه من داره من بين أيديهم، ومنها ما كان من شاة أم معبد من درّ اللبن لمّا مسح عليها ودعا، وما كان من شأن سراقة وفرسه عند الطلب.
13- توقير أبي أيوب للرسول - صلى الله عليه وسلم - ورعاية حقه حيث شق عليه أن يسكن في الدور العلوي من البيت والنبي - صلى الله عليه وسلم - في الدور الأرضي، ففيه منقبة لأبي أيوب ودليل على وفور عقله وصدق إيمانه.
14- جواز التبرك بآثار النبي - صلى الله عليه وسلم -º فقد تبرّك أبو أيوب وزوجه بآثاره - صلى الله عليه وسلم -، وهكذا كان سائر الصحابة يتبركون بوضوئه وشعره ومماسة جسده الشريف في حياته كما كانوا يتبرّكون بآثاره بعد مماته فقد ثبت أن أسماء بنت أبي بكر كان عندها طيلسانة للنبي - صلى الله عليه وسلم - كانت تخرجها للمريض يلبسها تبركاً واستشفاءً، على أن هذا مخصوص بالنبي - صلى الله عليه وسلم -لا يتعداه إلى غيره لما جعل الله - تعالى - من البركة في جسده ما لم يجعله في غيره.
15 - وجوب الهجرة على من يخشى على دينه في أرضه ويقدر عليها، وقد نعى الله - تعالى -على من فرّطوا في الدين وتعلّلوا بالاستضعاف قال - تعالى -: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً)، أما قوله - صلى الله عليه وسلم - \"لا هجرة بعد الفتح\" فمعناه أنه لا هجرة واجبة من مكة إلى المدينة بعد فتح مكة، ولكن جهاد ونية، وذلك أن الأسباب التي كانت موجبة للهجرة وهي الفتنة قد انتفت.
16- المسجد هو الركيزة الأولى لبناء الدولة المسلمة، فالصلاة خير موضوع، فكان المسجد أول مشروع أسسه النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد وصوله إلى المدينة.
17- وفي الهجرة مشروعية فرار المسلم بدينه والاختباء من الطغاة والظالمين، وأن ذلك لا ينافي الإيمان، وقد هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه سراً واختبآ في الغار، وهاجر عمر سراً، وقد فرّ موسى - عليه السلام - وهو من أولي العزم - من فرعون وقومه، وفر أهل الكهف من ملكهم الكافر، واختبأ الإمام أحمد لما طلب في أول الأمر أيام المحنة.
18- ومن دروس الهجرة أن الأحسن في الحروب غير النظامية - وقت يقظة العدو الكمون.
19- أن الأدب مقدم على الامتثال، فقد بقي النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدور الأرضي من بيت أبي أيوب، فثبت بإقراره - صلى الله عليه وسلم - أن يسكن أحد فوقه مشروعية ذلك، ولو كان ذلك لا يجوز لبين لأبي أيوبº إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة كما هو مقرّر في علم الأصول، فكان هذا يكفي أبا أيوب إلا أن عظيم توقيره للنبي - صلى الله عليه وسلم - وصدق إيمانه ورهافة حسه أبت عليه إلا أن ينزل هو وزوجه لينتقل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الدور الأعلى، فقدم الأدب على الامتثال للحكم بمشروعية تلك الحال.
20- مشروعية المعاريض عند الحاجة إليهاº ففيها مندوحة عن الكذب وسائر ألوان التمويه والتعمية بقدر الحاجة فحسب، فقد قال أبو بكر لمن سأله عن الرجل الذي معه:هذا يهديني الطريق، يقصد الهداية إلى الحق، ويفهم السائل أنه خبير بالطرق والدروب في السفر، وكان ذلك كافياً في مثل تلك الحال.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد