قراءة في كتاب العلمانية ( 1 )


بسم الله الرحمن الرحيم

 

نادرة تلك الكتب التي تستوعب أجزاء البحث الذي تتناوله، وأقل منها أن يكون مع الاستيعاب العمق والجدة والأصالة والتحقيق، وأندر النادر أن تجمع مع كل ذلك الإمتاعَ والأسلوب الأدبي الرصين، من تلك الكتب التي تستولي على القارئ المثقف الجاد، وتحرك عقله، وتدفعه للنظر المتعمق في القضايا المعروضة كتاب العلمانية للدكتور سفر بن عبد الرحمن الحوالي.

 

المقدمة:

قدم المؤلف للكتاب بمقدمة بين فيها أن الإسلام هو أعظم منن الله على البشرية عامة وعلى أمة الإسلام خاصة، وأن كلمة لا إله إلا الله هي روح هذه الأمة وسر وجودها ومنبع حياتـها وأن الأمة بقيت ردحا من عمرها تتبوأ منـزلة عالية بين الأمم حين كانت تدرك معنى هذه الكلمة وتعمل بمقتضاها.

ثم بدأ نور هذه الكلمة في الخفوت فبدأ شأن الأمة في الهبوط حيث ظلت تفقد من ذاتيتها وأصالتها بمقدار ما تفقد من نور هذه الكلمة في علاقة مطردة تؤكد سنة من سنن الله لم تتبدل على مدار التاريخ.

وكان من أعراض هذا المرض المدمرº " فقدان الذات": الانبهارُ القاتل بالأمم الأخرى والاستمداد غير الواعي من مناهجها ونظمها وقيمها.

وكان مما زاد هذا المرض خطورة الجهل بحقيقته وعدم إدراك أسبابه فكان التشخيص الخاطئ سببا في العلاج الخاطئ الذي أدى إلى مضاعفات جديدة.

لقد تصور البعض أن هذا الداء يمكن علاجه بترقيعات نتلقاها من الكفار الذين أسموهم العالم المتحضر!.

كانت قابليتنا للذوبان مبرراً للحرب الشرسة التي شنها الغزاة على أفكارنا وأخلاقنا، حيث طمعوا في القضاء على مقومات وجودنا قضاء تاماً، فأقبلت طلائع ذلك الغزو الفكري تحمل شعارات متباينة الاتجاهاتº عليها من البهرجة والبريق ما يكفي لتضليل أمة منبهرة مهزوزة.

جاءت الاشتراكية والقومية والديمقراطية وفلسفة التطور واللادينية وغيرها من المسميات والشعارات، وتغلغلت هذه الأوبئة في العقول والقلوب التي فقدت رصيدها من "لا إله إلا الله" أو كادت، ونشأ على ذلك فلول ممسوخة أخذت على عاتقها إكمال عملية المسخ لباقي الأمة، وتعبيد الشعوب المسلمة للغرب، والإجهاز على منابع الحياة والقوة الكامنة في دينها.

لكن الله - تعالى - تدارك الأمة برحمته، فأنبت من بين هذا الركام والظلام رجالاً صادقين، وأطلت من بين النيام والأموات صحوة جهادية أصيلة طلبت الهداية والعلاج من كتاب الله - تعالى - وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فعادت إلى صفاء العقيدة، وسلامة المنهج، ولمحت ما في المناهج الموجودة من انحراف وضلال، فلفظت سموم الغزو الفكري الذي كاد أن يقضي عليها، وانتبهت إلى ما يروج في ساحاتنا الفكرية من مذاهب هدامة، كان منها مذهب العلمانية الذي كانت سحابة كثيفة من الضبابية تغشاه وتعمي حقيقته عن المثقفين فضلاً عن العامة، مما جعل أسهمها لا تزال مرتفعة في أسواقنا سواء باسمها الصريح، أو تحت شعار الديمقراطية أو شعار " الدين لله والوطن للجميع، أو غير ذلك من الشعارات.

كان هذا أحد الأسباب التي حدت بالمؤلف أن يتناول العلمانية بتلك الدراسة الجادة العميقة الموسعة، وكان السبب الثاني هو أن موضوع العلمانية المتمثل في عزل الدين عن توجيه الحياة يصادم مفهوم لا إله إلا الله، ومع ذلك نجده موجوداً في كافة مناحي الحياة في مجتمعات المسلمين مما يستلزم كشف الزيف الذي يلفه ويخفي حقيقته عن المسلمين.

 

ثم عرف المؤلف بالعلمانية وبين الخطأ في ترجمة الكلمة الإنجليزيةsecularism بالعلمانية، وأن هذه الكلمة لا صلة لها بالعلم، وأن الترجمة الصحيحة للكلمة هي اللادينية، ثم أيد ذلك بإيراد عدة تعريفات من دوائر المعارف الأجنبية للعلمانية، كلها تؤكد أن معنى ال (secularism) في بيئتها التي نشأت فيها: الروح الدنيوية، أو الاتجاهات الدنيوية، أو الحركة المضادة للديانة المسيحية، وأنـها نظام من المبادئ والتطبيقات يرفض أي شكل من أشكال الإيمان والعبادة، وأن الدين لا دخل له في شئون الدولة، ولا سياسات الحكومة، وخاصة التربية العامة، وأنـها دنيوية مادية لا تقبل المفاهيم التي تتعلق بالدين والروحانية، فالتربية التي تعتمدها لا دينية، فالدين في معنى هذا المذهب لا ينبغي أن يكون أساساً للأخلاق والتربية، ويقدم المستشرق " أربري " في كتابه (الدين في الشرق الأوسط) نموذجاً لأهم معاني العلمانية وهو فصل الدين عن الدولة بالجمهورية التركية، ثم يعلق المؤلف على العبارة المشهورة في وصف العلمانية " فصل الدين عن الدولة " بأنـها تعريف غير دقيق وأن مدلولها الصحيح هو إقامة الحياة على غير الدين، فالإسلام والعلمانية - أي اللادينية - نقيضان لا يجتمعان.

 

قسم المؤلف الموضوع إلى خمسة أبواب:

الباب الأول دين أوربا أو المسيحية بين التحريف والابتداع:

وفيه فصلان: الأول: التحريف: تكلم فيه أولاً عن تحريف العقيدة (قضية الألوهية تحريف الأناجيل) - تحريف الأناجيل.

وثانياً عن تحريف الشريعة، وفصل الدين عن الدولة.

والفصل الثاني: البدع المستحدثة في الدين النصراني.

تكلم في هذا الباب عن دين أوربا النصرانية الذي انحرفت عنه إلى اللادينية، وأثبت ما اعترى النصرانية من تحريف وتبديل، وأنه لم يعد يمثل دين الله الحق لا في العقيدة ولا في الشريعة، بل تحول إلى مجموعة من الخرافات والبدع تولت الكنيسة كبر تسويقها وترويجها وإيهام الناس أن ذلك هو الدين النصراني، وكان هذا التحريف الذي أصاب الدين النصراني على يد القساوسة الكذبة هو السبب الممهد للعلمانية، حيث طغت الكنيسة ودوخت أتباعها في خرافات يرفضها العقل وتمجها الفطرة، فقد وقع أولاً تحريف العقيدة، وتحريف الأناجيل التي بلغت سبعين إنجيلاً كلها شاهدة على أنـها محرفة، يكذب بعضها بعضاً، هذا فوق مائة وعشرين رسولاً منهم من ألّف أناجيل ومنهم من كتب رسائل، وفرق وطوائف تزيد على الحصر تختلف في قضايا أساسية بالغة الأهمية.

 ولقد كان انعقاد مجمع نيقية الشهير في عام 325م يمثل معلماً من معالم التاريخ البارزة، وشاهداً على أن النصرانية قد حرفت وبدلت وفقد الناس الثقة في حقيتها وقدسيتها.

وبعد تحريف الأناجيل، جاء تحريف الشريعة، وكان من أولى فصول هذا التحريف فصل الدين عن الدولة.

بين المؤلف أن الشريعة النصرانية لم يكتب لها التطبيق على المستوى العام، وذلك لسببين متلازمين:

الأول أن الشريعة النصرانية لم تقم لها دولة تتبناها وتقيمها في الأرض، فقد توفى الله عيسى - عليه السلام - ورفعه إليه وهو لم يزل في مرحلة الدعوة التي تشبه حال الدين الإسلامي قبل الهجرة.

والسبب الثاني: أن المسيح - عليه السلام - بعث إلى قوم قساة تسيطر عليهم إمبراطورية وثنية عاتية، اضطهدت المؤمنين من أتباع المسيح وعذبتهم، فانحسر تطبيق الشريعة في أضيق نطاق بسبب هذا العداء الشديد.

وكان لليهود اليد الطولى في إلحاق الأذى بالمؤمنين بتعاليم المسيح - عليه السلام -، فلا يخفى أمر شاؤل الطرسوسي أو بولس (رسول الأمم)! وخداعه باعتناق المسيحية وقيامه بغزوها من الداخل تماماً كما قصد عبد الله بن سبأ غزو الإسلام من الداخل. فكان بولس المفسد الأول والأكبر بجدارة لتعاليم المسيح - عليه السلام -.

قام شاول هذا بإصداره تعليمات مناقضة لتعليمات المسيح مما أحدث في الناس بلبلة وفتنة، فوقعوا بذلك في بلاء عظيم، كما أنه مزج الدين الذي جاء به المسيح - عليه السلام - بالوثنيات القائمة آنذاك.

ثم ما كان من الاضطهاد الشديد الذي أوقعه أباطرة الرومان - وعلى رأسهم نيرون - بأتباع المسيح - عليه السلام -، حيث تقشعر الأبدان من ذكر فظائعهم وجرائمهم.

ثم جاء عام 325 م الذي يمثل عام النصر الحاسم على أعداء المسيح حيث ظفرت الكنيسة بالإمبراطور وأدخلته في الدين المسيحي، لكن الكنيسة لم تنتفع بـهذا التزاوج بين القصر والكنيسة بما يعود بالخير على الناس في دينهم، بل كان ارتباطها بالإمبراطور ارتباط مصلحة لا يمت إلى الإيمان بصلةº فبقيت الوثنية متجذرة في نفوس الناس تغطيها غلالة رقيقة من الصبغة المسيحية، ولهذا عجزت الكنيسة عن إقامة الحياة على أسس متينة من الإيمان.

وفتح الباب للخرافات والأساطير والتقاليد الوثنية، وامتزج كل ذلك بروايات الأناجيل وآراء المجامع المقدسة، وتلاقحت الشريعة والقانون الروماني فأصبحت المسيحية ديانة تركيبية أو بوتقة انصهرت فيها عقائد وخرافات وآراء متباينة شكلت ديناً غير متسق ولا متناسق.

ثم بدأت الكنيسة في إصدار نصوص مكذوبة تبرر بـها للناس ذلك المنحى الجديد الذي اتخذته بعد هذا التزاوج المقيت بين الكنيسة وقيصر.

وكان من أهم هذه الأقوال القول المنسوب زوراً للمسيح: أعط ما لقيصر لقيصر، وما لله لله ". فلقد ظل هذا القول شعاراً ترفعه الكنيسة كلما عنّ لها أن تتمرد على شرع الله.

ثم بين المؤلف أن هذه العبارة المنسوبة للمسيح في إنجيل متى تبين أن الأناجيل التي بأيديهم لا تثبت أمام البحث العلمي، وأنـها لا قيمة علمية تاريخية لها، فكلها ظنية الثبوت ظنية الدلالة، فكيف يحتج بـهذه الظنيات على مسألة بالغة الخطورة كهذه.

ويعني مسألة أن يوافق المسيح على أن يجعل قيصر شريكاً لله - تعالى - في التوجه إليه بالعمل، وإيقاع الناس في شرك الطاعة والاتباع.

ثم يتنـزل المؤلف جدلاً ويفترض أن المسيح - عليه السلام - تفوه بـهذه الكلمة، ويتساءل: هل يعني ذلك أن نفهم من العبارة ما فهمته الكنيسة من ظاهرها؟، ونتخذ من فهمنا هذا قاعدة هي أعظم القواعد الكنسية العملية على الإطلاق؟.

ثم يعرض المؤلف العبارة التي استلوها من إنجيل متى، ويتتبع السياق لفهمها في إطارها فهماً صحيحاً على افتراض صحة ثبوتـها.

ونص القصة: "ذهب الفريسيون وتشاوروا لكي يصطادوه بكلمة، فأرسلوا إليه تلاميذهم قائلين: يا معلم، إنك صادق وتعلم طريق الله، بالحق ولا تبالي بأحد، فقل لنا: أيجوز أن تعطى جزية لقيصر أم لا؟ فعلم يسوع خبثهم وقال: لماذا تجربونني يا مراؤون، أروني معاملة الجزية، فقدموا له ديناراً، فقال لهم: لمن هذه الصورة والكتابة؟ قالوا له: لقيصر، فقال لهم أعطوا إذن ما لقيصر لقيصر وما لله لله، فلما سمعوا تعجبوا وتركوه"اهـ

وهكذا شأن أعداء الرسل وخصوم الإيمان في كل زمان، يسعون في الإيقاع بالمؤمنين، ويحاولون إثارة السلاطين عليهم بما يدركون من افتراق طريق الإيمان وطريق السلطان، يفعلون ذلك لحرمان أهل الإيمان من الاستفادة من هدوء الحال لتمضي الدعوة في خطة تكوين طلائع الإيمان وتربيتهم لحمل الأمانة وتبليغ الرسالة، ونشر هدايتها في الناس.

ويعلق المؤلف على هذه القصة فيقول: كان المسيح - عليه السلام - وأتباعه قلة مضطهدة تتبنى دعوة جديدة ناشئة، فلم يكن في مقدورها أن تصطدم بالامبراطورية الطاغية وتواجهها بعداوة سافرة، ولم تكن هذه المواجهة مطلوبة منها وهي لا تزال في طور الدعوة - يقابل ذلك في الإسلام فترة ما قبل فرض الجهاد - وهذا الطور يقتضي الالتزام بمبدأ " كفوا أيديكم " كيلا يستثار عدو باطش فيفتك بالدعوة في مهدها.

ثم يقول: فالمسيح - عليه السلام - لو صحت العبارة - وافق على إجراء مؤقت تقتضيه ضرورة الواقع وطبيعة الدعوة المرحلية.

ثم أشار إلى نظائر ذلك في مراحل الدعوة في السيرة النبوية.

ويمضي المؤلف في استعراض ما عمدت إليه الكنيسة الزائغة من عبارات موهمة تنسبها الأناجيل إلى المسيح، وهي عبارات قيلت مجازاً أو رددت في ظروف مؤقتة وملابسات خاصة، وإنما قصدت الكنيسة أن تقرر بـهذه العبارات قواعد أصولية تؤسس عليها دينها المحرف دون مراعاة لمنطق الاستدلال ومقتضى التحقيق العلمي.

وكان من هذه العبارات التي نسبوها إلى المسيح - عليه السلام - أيضاً: "مملكتي ليست من هذا العالم"

وأشاعت الكنيسة المفهوم الذي تريده لهذه العبارة وهو: الدنيا والآخرة ضرتان متناحرتان وضدان لا يجتمعان، الدنيا مملكة الشيطان ومحط الشرور والآثام، وأن سعي الإنسان فيها للسعادة والتمتع بخيراتـها دنس يحرمه من ملكوت الله في الآخرة، وهو مفهوم يتيح للمفسدين من القساوسة والقياصرة الطغاة أن يعبثوا بالحياة ما شاءوا دون أن يعترض طريقهم أحد، وما كان المسيح - عليه السلام - أن يتكلم بمثل هذه العبارة التي هي أقرب إلى النظرة البوذية الوثنية للحياة من نظرة رسول كلفه الله بدعوة الناس لعبادة الله وتحذيرهم من اتباع الأهواء، وما كان هذا المفهوم الذي روجوه للعبارة أن يخطر ببال أحد رسل الله الذين جاءوا لتغيير الواقع الجاهلي المنحرف، وإقامة واقع جديد تحكمه الشريعة المنـزلة.

ثم أفرد المؤلف فصلاً عن البدع المستحدثة في الدين النصراني، فعد منها رجال الدين (الإكليروس)، ورفض التعليل الجاهلي لظهور طبقة رجال الدين بأنه مجرد تطور بشري ديني اجتماعي وأنه مر بثلاث مراحل: مرحلة السحر والخرافة - ومرحلة الدين - ومرحلة العلم. وأن الإنسان حين انتقل إلى مرحلة الدين بقيت فيه رواسب موروثة عن المرحلة الأولى من أبرزها طبقة رجال الدين الذين ليسوا سوى امتداد للسحرة والكهان، فيبين المؤلف أن هذا التفسير مرفوض، وأن التصور الإسلامي للتاريخ ينظر إلى الحياة البشرية على أنـها خطان متوازيان: خط مشرق يمثل البشرية حين تـهتدي إلى الله وتسلك طريق الأنبياء الذين يتعاقبون لردها إلى جادة الطريق، وخط آخر مظلم يمثل حزب الشيطان وفترات الضلال الذي طرأ على البشرية بعد أن كانت أمة واحدة على الإيمان، والسمة العامة للتاريخ هي الصراع بين الهدى والضلال، بين الحق والباطل.

ثم أوضح أننا لا ننكر التشابه الظاهر بين رجال الإكليروس في المسيحية وبين السحرة والكهان في العصور السابقة، لكننا نرجع ذلك إلى كون الطائفتين انحرفتا عن الأصل الصحيح.

ثم تكلم عن خط الانحدار الذي يصف حالة الكنيسة وهي تتردى وتفقد صلتها بالدين وتقطع أواصرها بالإيمان، فيقول بعد أن يشير إلى أحبار اليهود وفسادهم وأن المسيح - عليه السلام - كان يسميهم أولاد الأفاعي، وبائعي العهد، وعباد الدنيا. قال: لكن القسيسين والرهبان لم يكونوا أفضل حالاً من الأحبار، فقد سلكوا الطريق نفسها وانصاعوا إلى الدنيا مستعبدين أتباعهم المؤمنين.

فكانت هيئة الدولة تمثل هرماً قمته الإمبراطور وقاعدته الجنود، وكانت الهيئة الكنسية تمثل هرماً مقابلاً قمته البابا وقاعدته الرهبان، ونتيجة لمبدأ فصل الدين عن الدولة رعت الامبراطورية الهرم الكنسي، ولم تر فيه ما يعارض وجودها، فرسخ واستقر.

وكان من البدع المستحدثة في الدين النصراني أيضاً الرهبانية: بين المؤلف أن للوجود الإنساني في هذه الأرض غايةً أرادها الخالق - سبحانه - منذ أن استخلف الإنسان في الأرض وأناط به مسئولية عمرانـها بالخير والصلاح، وركز في فطرته الاستعداد لهذه المهمة وبعث الرسل لقيادة الإنسان لتحقيق هذه الغاية على أكمل نموذج وأقوم مثال.

لكن الناس كانوا يضلون فيسيرون في غير الاتجاه الذي تأخذهم إليه الفطرة، وتقودهم إليه الرسل، فتستهويهم الشياطين وتضلهم الشهوات عن سواء السبيل، فينحرفون عن الجادة في صور من الضلال متعددة ومتنوعة.

وكان من هذه الصور المنحرفة النظرة غير السوية إلى الحياة وغايتها وقيمتها، والغلو في تـهذيب النفس إلى حد التضييق والتعذيب، مع الانصراف عن عمارة الأرض، التي هي جزء من الغاية العظمى.

ومع أن الرهبانية بدعة بشرية مشتركة بين أديان عديدة إلا أن للرهبانية النصرانية ظروفاً وأسباباً أبرزتـها حتى غدت من أجلى مظاهر النصرانية على مر العصور.

 

أسباب الرهبانية:

1- عقيدة الخطيئة الأصلية الموروثة. وهي إحدى التعاليم الكبرى في المسيحية المحرفة، ومرجعها عندهم أن آدم - عليه السلام - لما أكل من الشجرة فعوقب بالحرمان من الجنة، فظل بنوه يرسفون في أغلال تلك الخطيئة حتى جاء الخلاص على يد المسيح ليصلب فداء للنوع الإنساني، فأصبح لزاماً على الإنسان أن يقتل نفسه ليمنحها الخلاص كما يقول متى في إنجيله: " من أراد أن يخلص نفسه يهلكها".

2- رد الفعل المتطرف للمادية اليهودية الجشعة والأبيقورية الرومانية النهمة.

3 - الأثر الذي خلفته الفلسفات والوثنيات التهريبية القانطة.

4 - الأوضاع الاجتماعية القاسية.

 

نظام الرهبانية:

ثمة شروط يتضمنها نظام الرهبانية:

أولها: العزوبة، وما يلزمها من التنفير من المرأة وإن كانت زوجة، وترذيل الصلة الجنسية وإن كانت حلالاً، فهذا " سان بونافنتور " أحد رجال الكنيسة يقول: إذا رأيتم امرأة فلا تحسبوا أنكم ترون كائناً بشرياً، بل ولا كائناً حياً وحشياً، وإنما الذي ترون هو الشيطان بذاته والذي تسمعون هو صفير الثعبان ".

الثاني: التجرد الكامل عن الدنيا. ويعنون بـها العزلة النهائية عن المجتمع، وقطع النظر عن كل أمل في الحياة.

الثالث: العبادة المتواصلة:

الرابع: التعذيب الجنوني:

صادمت هذه التعاليم المنحرفة الفطرة فكان لابد من الخسران والشقاء.

 

وكان من تلك البدع المستحدثة كذلك الأسرار المقدسة:

امتلأت الوثنيات القديمة بالأسرار والأساليب الخفية والرموز الغامضة، وقد سجل التاريخ غلطة شنيعة على بعض أتباع الديانات باقتباسهم لأشياء من تلك الأسرار والرموز وإدخالها في دينهم، وذلك ما حصل بعينه في المسيحية المحرفة.

تناول المؤلف واحداً من هذه الأسرار التي دأبت الكنيسة على استعمالها في ستر نقائصها ومخازيها وقطع الطريق على كل محاولة تطلب تفسيراً يقبله العقل، وترفض أن تتسلط الكنيسة على عقول الناس بقولها (سر إلهي). وكان من هذه الأسرار الإلهية الكنيسية سر " العشاء الرباني " أو " القربان المقدس ".

ثم يبين المؤلف أن ذلك كان من دس شاؤل اليهودي الذي يؤكد جوستاف لوبون - أحد النقاد العقليين - أن شعائر النصرانية ومنها العشاء المقدس بدعة منقولة عن الوثنية المثرائية، وأن شاؤل كان متأثراً بالمثرائية التي كان من شعائرها التضحية بالعجل المقدس.

ولهذا كان المسيحيون الأوائل يقيمون وليمة تذكارية في عيد الفصح قوامها الخبز والخمر يرمزان إلى جسد ودم المسيح، وهي التي تعرف بعقيدة الاستحالة أي استحالة الخبز والخمر إلى جسد ودم المسيح، فليس لأحد من أتباع الكنيسة أن يسأل أو يشكك في ذلك السر، وإلا عوقب بالحرمان والطرد من الملكوت.

وكانت هذه العقيدة العجيبة من الثغرات الواسعة التي دخل منها النقد المرير للكنيسة، وسبب كثيراً من الانشقاقات الدينية، والسخرية الشديدة التي انـهال بـها على الكنيسة النقاد العقليون من أمثال الفيلسوف الفرنسي فولتير.

البدعة الرابعة - عبادة الصور والتماثيل: وهذه أيضاً كانت من البصمات الظاهرة التي تركتها الوثنية على الديانة النصرانية على الرغم من أن التماثيل تعتبر من الأعمال المحرمة في شريعة التوراة. ولم يقف الحد عند كونـها مظهراً من مظاهر المخالفة لشريعتهم، بل تعدى ذلك إلى أن صارت التماثيل والصور آثاراً مقدسة ومعبودات يسجد الناس لها ويوقدون لها الشموع ويحرقون البخور وينثرون فوقها الزهور التماساً لبركاتـها، ورجاء تأثيرها الخفي.

وكان للفتوحات الإسلامية التي امتدت حتى شملت معظم المعمورة أثرها في أن يعيد كثير من شعوب الدول النصرانية نظرتـهم إلى ما أصاب دينهم من لوثات الوثنية، حيث اطلعوا على عقيدة التوحيد الخالص في دين الإسلام، فأحسوا بسخافة معتقداتـهم وضحالة تفكيرهم، ففتحوا أعينهم على تلك الحضارة الغازية الشامخة الناصعة.

فقامت في الغرب حركات معادية لبدعة التماثيل والصور، وطالبت بإزالة تلك الوصمة الشنيعة التي كشفت الدين الذي ينتسبون إليه وأظهرت ما فيه من النقص والعيوب والتشويه الذي يخجلهم أمام المسلمين، لكن الكنيسة رفضت ذلك، وظل الصراع بين المنادين بتحطيم التماثيل والصور وبين الكنيسة المعاندة، وعقد مجمع نيقية الثاني عام 787م وحضره 350 أسقفاً وقرروا جميعاً بقاء الثماثيل والصور، بل ألزموا الناس بالإغراق في ذلك، بوضع التماثيل والصور كذلك في البيوت والطرقات، لبقاء أثر المسيح وأمه والرسل وسائر القديسين في نفوسنا، وبذلك انتصرت الكنيسة الوثنية على حركات الإصلاح.

ثم عادت الحركة المناهضة لعبادة الصور والتماثيل للظهور مرة أخرى بعد ثلاثة قرون، وذلك حينما اتصل الغرب الوثني بالشرق المسلم إبان الحروب الصليبية، وكان البروتستانت هم الذين يتولون الحركة الإصلاحية في هذا الجانب، بينما ظل الكاثوليك على تقديسها ولعن محطميها.

وبلغ الهوس بـهؤلاء المفتونين بصور المسيح - عليه السلام - وأمه، أن قامت إحدى شركات السينما في السويد بإنتاج فيلم عن " حياة المسيح الجنسية " في ابتذال وامتهان لم يحرك في الدول الغربية ساكناً، بينما احتجت بعض المنظمات الإسلامية وطالبت بإيقاف عرض الفيلم، ولم يقتصر الأمر على المسيح وأمه بل إن الكنيسة تجرأت على الباري جل شأنه وصورته كما تصور المخلوقين - تعالى - الله عن ذلك علواً كبيراً، معلنين أنـهم لا يمكنهم أن يفهموا الله إلا عن طريق تصوره بالصورة البشرية، كما يقرر ذلك أحد علماء الكنيسة.

ويتابع المؤلف عرض البدع التي استحدثت في النصرانية فيذكر منها المعجزات والخرافات، فكان من الطبيعي لدين مركب من تعاليم المسيح وكم هائل من المعتقدات الوثنية أن يجد صعوبة في الإقناع العقلي، والبرهان المنطقي، فذهب يعوض هذا النقص بادعاء الخوارق التي هي في حقيقتها أوهام وأخلاط، بقصد التمويه على العقول الضعيفة والنفوس الساذجة، وساعد الإرث الوثني على تقبل جماهير الناس المتعلقة بالكنيسة بـهذه السخافات.

واتسع نطاق تلك الأوهام حتى أصبحت مكانة رجل الدين وقداسته مرهونة بما يظهر على يديه من الخوارق، وما يتعاطى من الشعوذات، وما يأتي به من ألاعيب تجهل العقول الساذجة علته الحقيقية مدعياً أن ذلك هبة من الروح القدس له، ويسجل لنا التاريخ أمر "الساعة" التي أهداها هارون الرشيد إلى الإمبراطور (شارلمان)، فأصابه الفزع هو وحاشيته ظانين أن بـها جناً يحركها، فكيف بعامة الشعب من الفلاحين والرعاة؟!.

وكان لهذه الخرافات جذور عميقة في نفوس أتباع الكنيسة، ولهذا كانوا يتعلقون بالقساوسة ويعتقدون فيهم قدرات خارقة في صد العواصف وإنزال المطر، وكانوا ينـزلون بـهم أشد النكال إذا فشلت تراتيلهم في تحقيق آمال الناس، فكم من قديس أهانوه وضربوه ونزعوا أجنحته الذهبية وركبوا له أجنحة ورقية إهانة له على فشله، كما كانت صيحاتـهم الغاضبة تعلو في الساحات الكبرى حيث يأتون بـهؤلاء القديسين الكذبة، ويقيدونـهم عراة ويهتفون بـهم: المطر أو حبل المشنقة.

وأشار المؤلف إلى عدد من تلك الخرافات التي كانوا يشيعونـها في الناس فذكر خرافة " تجلي العذراء " التي يثيرونـها بين الحين والحين، وذكر أيضاً خرافة الرقم (13) ويبين أن أصله أن يهوذا الذي دل على المسيح هو التلميذ الثالث عشر للمسيح، فكان ذلك مصدر شؤم للكنيسة وأتباعها.

 

ومن البدع المستحدثة في الديانة النصرانية بدعة: صكوك الغفران

وهي الصكوك التي كان القساوسة يمنحونـها لأتباع الكنيسة ليتطهروا من الخطايا، ضامنين لهم المغفرة، مطلقين لهم العنان ليفعلوا ما شاءوا من المعاصي، طالما اشتروا هذا الصك، أما البؤساء ممن لا يملكون المال لشراء هذا الوهم فيظلون محرومين من هذه الموهبة مهما بلغت تقواهم، وحبهم للمسيح وتعلقهم بالعذراء.

وكان الأساس الذي بنيت عليه هذه الأكذوبة هو فكرة القداسة التي ادعاها رجال الدين، والتي بنى عليها فكرة الاستشفاع بـهم لدى الله لمغفرة الخطايا، وظل الجهلة والسذج يتوسلون إلى القساوسة راجين الشفاعة والتقرب إلى الله زلفى فنتج عن ذلك مبدأ التوسط بين الله والخلق، حتى أصبحت وظيفة رجل الدين المسيحي القيام بـهذه الوساطة، فعن طريقه تؤدى الصلاة، ويتناول العشاء الرباني، وهو الذي يقوم بالتعميد وطقوس الزواج والموت ويتقبل الاعترافات بالمذنبين.

ثم يبين المؤلف أن هذه الصكوك إنما بدأت حين كانت الكنيسة تواجه ظروفاً عصيبة إبان الحروب الصليبية التي بلغ معها يأس النصارى من تحقيق النصر على المسلمين مبلغاً عظيماً، وأصاب الشعوب الأوربية إحباط شديد فاخترعت الكنيسة فكرة هذه الصكوك كتجسيد لأماني المشتركين في تلك المعارك بالمغفرة، ولشحذ هممهم للاندفاع في المشاركة في تلك الحروب، كما يقول ول ديورانت في قصة الحضارة.

 

ويخلص المؤلف من هذا العرض لهذه البدعة بقوله:

وعليه فلم يكن يحظى بالحصول على صك الغفران إلا رجل ذو مال يقدر على شرائه حسب التسعيرة التي تحددها الكنيسة، أو رجل يحمل سيفه ليقاتل تحت راية الكنيسة، وغير هذين رجل ثالث فقير لا مال له أو عاجز عن القتال، أو رجل غير مستعد للموت في سبيل الكنيسة، لكنه يظل أسير صراع نفسي مرير وشعور بالحرمان قاتل.

وهكذا فالكل مضحون، والكل خاسرون، والكنيسة هي الرابح الوحيد، حيث أثرت ثراء فاحشاً من عملية بيع الصكوك، وإن كانت عند الله أذل مقاماً وأخسر صفقة.

ومن الوجهة السياسية قويت الكنيسة وتدعمت سلطتها، فكان الثراء والنفوذ بعض ثمار تلك البدعة التي دفعت الكنيسة إلى الطغيان والغطرسة الباغية، ولم ينتبه رجال الكنيسة الذين أعماهم الغرور بسبب ما وصلوا إليه من الغنى والسيطرة عن خطر هذا الطغيان عليهم، فكانت مهزلة صكوك الغفران مسماراً في نعش الكنيسة وبداية لنهايتها.

حيث هبط سوق الصكوك وأصابه الكساد، وتجول القساوسة ببضاعتهم يبيعونـها بأبخس الأثمان فازداد إعراض الناس عنها، حيث تولد لديهم شعور بأن شراءها إن هو إلا إضاعة للمال فيما لا فائدة فيه، أو أنه غير مضمون العاقبة.

وتبع ذلك الشعور ظهور الفضائح التي كشفت جانباً من سيرة رجال الكنيسة وفجورهم، فكان ذلك إيذاناً بالشك الكبير في قداسة هؤلاء القساوسة وصلاحهم.

وتوحدت المشاعر من مختلف قطاعات الشعب بالعداوة والازدراء تجاه رجال الكنيسة، ورأى الأوربيون حكاماً ومحكومين الحياة الكريمة التي يعيشها الشرق الإسلامي حيث لا كهنوت ولا طغيان ولا احتكار، فهزت هذه الرؤية أنفسهم وبـهرت عيونـهم، فباتت صكوك الغفران في نظرهم هراء لا طائل تحته، وعبئاً يبعث على الاشمئزاز والاستخفاف.

 

ولما كانت الكنيسة هي الدين النصراني في نظر أتباعها كان لابد أن يهتز الدين كله في نظرهم باهتزاز صورة الكنيسة، وفقدان الثقة في قدسيتها وطهارة رجالها، وكان ذلك هو بداية السير في طريق الكفر ونبذ الدين، واستغل أعداء الدين - لا سيما اليهود - تلك الأجواء فبذروا على الفور بذورهم بالمناداة بطرد الدين من حياتـهم، ووضعوا أمامهم ذلك الخيار الصعب الذي مفاده: إما أن يؤمن بصكوك الغفران فيحكم على نفسه بالجمود والغباء والرجعية المتناهية، وإما أن يكفر بـها فيلزمه الكفر بالإطار الذي يحويها بكاملهº إطار الدين والغيبيات، لا سيما الآخرة، وهو الخيار الذي جسده الفيلسوف اليهودي الوجودي "جان بول سارتر" في إحدى رواياته المشهورة (الشيطان والرحمن).

 

 هذا مع أن الكنيسة في عصرنا الحاضر لا تصدر تلك الصكوك المخزية، بل تستحي من ذكرها وتخجل كلما دار الحديث عنها.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply