ما هي هذه العلمانية ؟


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

من الأهمية بمكان أن نعرف جوابًا صحيحًا لهذا السؤال، فمن عرف الداء أمكنه أن يقاومه، و حيث إنها قد نشأت في الغرب فإن الجواب الصحيح يجب أن يأتي من هناك، و قد جاء في قاموس وبستر الأمريكي أن العلمانية هي النظام السياسي و الاجتماعي الذي ينبذ كل أشكال العقيدة الدينية أو العبادة، و في تعريف آخر فالعلمانية هي النظرة التي تقول بأن أمور التعليم و الأخلاق و المعاملات يجب أن تجري بدون أي اعتبارات أو تأثيرات دينية...هكذا بوضوح.

و في دائرة المعارف البريطانية، نجد أن العلمانية حركة اجتماعية، تهدف إلى نقل الناس من العناية بالآخرة إلى العناية بالدار الدنيا فحسب، و دائرة المعارف البريطانية حينما تحدثت عن العلمانية، تحدثت عنها ضمن حديثها عن الإلحاد، و قد قسمت دائرة المعارف الإلحاد إلى قسمين: إلحاد نظري، و إلحاد عملي، و جعلت العلمانية ضمن الإلحاد العملي.

و المعنى المباشر لهذا هو أنه لا علاقة للعلمانية بالعلم، و لو قيـل عن هذه الكلمة إنها: اللادينية، لكان ذلك أدق تعبيرًا وأصدق.

 

فكيف نشأت العلمانية؟

لقد كانت تجربة أوربا مع " الدين " تجربة بئيسة إلى أقصى حد.. كان الدين بالنسبة إليها ظلاما و جهلا واستبداداً وغلظة و انصرافاً عن عمارة الأرض (وَرَهبَانِيَّةً ابتَدَعُوهَا مَا كَتَبنَاهَا عَلَيهِم.. )، و وقر في حس أوربا من خلال تجربتها الخاصة أن هذا هو " الدين ".. و لذلك نفرت منه، ثم هاجمته و أبعدته عن واقع الحياة، و حبسته في نطاق ضيق في ضمائر الناس، إن بقي للناس ضمائر بعد أن أبعدوا عن الدين في أمورهم اليومية!

لم تعرف أوربا دين الله الحقيقي الذي أنزل على عيسى ابن مريم - عليه السلام -، إنما عرفت صورة محرفة منه، هي التي أذاعها بولس و نشرها في ربوع الأرض، و بخاصة في أوربا، و قد كان بولس صاحب نظرية دينية و معلماً يعلم الناس قبل أن يسمع بيسوع الناصري بزمن طويل.. و من تأثره بالفلسفات السابقة على المسيحية فقد كان ذهنه مشبعا بفكرة الشخص الضحية الذي يقدم قربانا لله، كفارة عن الخطيئة. فما بشر به يسوع كان ميلادا جديدا للروح الإنسانية، أما ما علمه بولس فهو الديانة القديمة، ديانة الكاهن و المذبح، و سفك الدماء لاسترضاء الإله، و هي العناصر التي أتى بها وخاصة الميثرائية التي أتى بها من ديانات فارس والديانة الهلنستية التي جاء بها من الإغريق و التثليت الذي استوحاه من الديانة المصرية القديمة...

و يقول الفيلسوف الفرنسي رينان " إنه ينبغي لفهم تعليم يسوع المسيح الحقيقي كما كان يفهمه هو أن نبحث في تلك التفاسير و الشروح الكاذبة التي شوهت وجه التعليم المسيحي حتى أخفته عن الأبصار تحت طبقة كثيفة من الظلام، و يرجع بحثنا إلى أيام بولس الذي لم يفهم تعليم المسيح بل حمله على محمل آخر، ثم مزجه بكثير من تقاليد الفريسيين و تعاليم العهد القديم"

و لم يكن التحريف في مجال العقيدة وحدها و هو خطير في ذاته و لكنه وقع في أمر آخر لا يقل خطرا عن العقيدة، و هو فصل العقيدة عن الشريعة، و تقديم الدين للناس كأنه عقيدة فقط بغير تشريع تحت شعار" أدِّ ما لقيصر لقيصر و ما لله لله! ".

إن الكنيسة ذاتها بمعناها السلطوي مبتدَعة لم يتنزل بها سلطان من عند الله، ففي الديانة اليهودية التي نزلت لبني إسرائيل قسّم الله كما تروي التوراة مهام أسباط بني إسرائيل، فعهد إلى أبناء لاوى بن يعقوب بمهمة تطبيق الشريعة، بوصفهم قضاة يحكمون بين الناس بما أنزل الله في التوراة و كان هذا أشبه بتنظيم إداري، لا يجعل لللاويين قداسة خاصة دون بقية بني إسرائيل، ثم أرسل عيسى - عليه السلام - لبني إسرائيل مصدقا لما بين يديه من التوراة، كما جاء على لسانه في القرآن الكريم في سورة آل عمران: (وَ رَسُولاً إِلَى بَنِي إِسرائيلَ أَنِّي قَد جِئتُكُم بِآيَةٍ, مِن رَبِّكُم أَنِّي أَخلُقُ لَكُم مِنَ الطِّينِ كَهَيئَةِ الطَّيرِ... وَمُصَدِّقاً لِمَا بَينَ يَدَيَّ مِنَ التَّورَاةِ وَ لأُحِلَّ لَكُم بَعضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيكُم وَ جِئتُكُم بِآيَةٍ, مِن رَبِّكُم فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ)

فكان المفروض أن يجري الأمر في عهد عيسى على ذات النسق الذي جرى به على عهد موسى - عليهما السلام -، بينما الذي جرى بعد عيسى أن تم ابتداع فكرة الكنيسة و التي لا سند لها إلا ذلك القول المنسوب إلى المسيح في إنجيل متى " أنت بطرس، و على هذه الصخرة ابن كنيستي و أبواب الجحيم لن تقوى عليها، و أعطيك مفاتيح ملكوت السموات، فكل ما تربطه في الأرض يكون مربوطا في السموات، و كل ما تحله على الأرض يكون محلولا في السموات!! "، و هي قولة يصعب قبول صدورها عن رسول لله - تعالى -، فعيسى نفسه لا يملك أن يربط شيئا أو يحله في الأرض إلا بإذن ربه، و ليس له أن يحل أو يحرم إلا بإذن الله، و لكن الكنيسة نشأت و استمدت سلطانها الزائف من تلك الأسطورة المنسوبة للمسيح.. و هي التي أعطت حق الحل و الربط لحواريّه بطرس، و هذا أعطاه بدوره لآباء الكنيسة من بعده، فما ربطه بطرس و خلفاؤه من بعده في الأرض لا يحل في السماء، و ما حله في الأرض لا يربط في السماء، أي إنهم زعموا أن الأرض تحكم السماء، و أن البشر يحكمون قدر الله و مشيئته..

و قد اكتفت الكنيسة الأوربية اكتفت بسلطانها الروحي على قلوب تابعيها، غير أن ذلك لم يستمر إلا في وقت استضعافها في القرون الثلاثة الأولى، حيث كان النصارى مضطهدين في عهد القياصرة الوثنيين، و لكنها استأسدت بعد ذلك في القرن الرابع حين دخل قسطنطين في النصرانية، و مكن للكنيسة و رجالها، بعد أن أفلح في مزج دينها بأساطير الوثنية، و أرضى بذلك النصارى و الوثنيين معا، و أمَّن سلطانه على الإمبراطورية التي كان النزاع الديني قد أوشك على القضاء عليها!

و يمكن الرجوع إلى أحاديث الشيخ يوسف استس في موقعه http://www.islamtomorrow.com/، و هو قس أمريكي سابق اعتنق الإسلام من سنين، و هو يحكي فيه كيف أن قسطنطين مزج المسيحية بالوثنية الرومانية، و منها مثلا أن يوم الأحد صار اليوم المقدس لدى المسيحيين، لأن قسطنطين أراد هذا..

و حين أصبح للكنيسة سلطان سياسي إلى جانب السلطان الروحي بدأ الطغيان.. و في بيان للبابا نقولا الأول ورد في كتاب قصة الحضارة للكاتب ول ديورانت، يقول " إن ابن الله أنشأ الكنيسة بأن جعل الرسول بطرس أول رئيس لها، و إن أساقفة روما قد ورثوا سلطات بطرس في تسلسل مستمر متصل، و لذلك فإن البابا ممثل الله على ظهر الأرض يجب أن تكون له السيادة و السلطان الأعظم على جميع المسيحيين حكاما كانوا أو محكومين".

ثم فرضوا سلطاناً فكرياً رهيباً يحجر على العقول أن تفكر إلا بإذن الكنيسة، و في الحدود التي تسمح بها الكنيسة، و قد كان هذا ضرورة لازمة منطقية مع التحريف الذي حدث في الدين، خاصة فيما يتعلق بذات الإله و العشاء الرباني، و قدرات الكهنة المتمثلة في كراسي الاعتراف و صكوك الغفران التي تدخل الجنة و غير ذلك من أمثال تلك الأسرار.. كلها أمور لا يستطيع العقل أن يدركها و لا أن يتدبرها.. فماذا لو أعمل الناس عقولهم، فاكتشفوا أن يقال لهم باسم العقيدة كلام لا يثبت للتمحيص؟، ماذا يبقى للكنيسة عندئذ من سلطان على الناس؟، فالحل الأمثل لهذه الحال إذن أن تحجر الكنيسة على العقل، و أن يعتبر التفكير هرطقة تفضي إلى إهدار الدم في الدنيا، و الحرمان من الغفران.

و لما بدأت العلوم تتسرب إلى أوربا من العالم الإسلامي عن طريق الترجمة، و تحدث ما يمكن أن نسميه غزوا فكرياً إسلامياً خاصة بعد خسارة أوروبا الحروب الصليبية.. جن جنون الكنيسة ففرضت حجرا على العلم و أهدرت دم كل من يقول يومئذ بكروية الأرض، أو أنها ليست مركز الكون، و هو العلم الذي نقله علماء النصارى الأوائل من مؤلفات العلماء المسلمين.

تحولت المسيحية على يد الكنيسة و آبائها و مفكريها إلى أغلال تفسد الحياة و تقعد بها عن النمو السويّ، و تحولها إلى مستنقع آسن لا ينبض بالحياة و لا يسمح للحياة أن تنبض فيه، دين يهمل الحياة الدنيا بدعوى تفاهتها و حقارتها و عدم جدارتها بالاهتمام، و بدعوى أن الإنسان خاطئ بطبعه، و لا سبيل إلى إصلاحه في الحياة الدنيا و كفه عن الخطيئة إلا بكفه عن ممارسة الحياة ذاتها، دين يحتقر الجسد ويشمئز من نشاطه الفطري، لأن هذا النشاط هو الذي يوقع الناس في الخطيئة، وما دفع إلى الخطيئة فهو ذاته خطيئة! و علاجه الوحيد هو الكبت و القهر.. دين يحقّر الإنسان ليمجد الرب.. كأنما لا يتحقق تمجيد الرب إلا بتحقير الإنسان... و ذلك بدعوى ان الإنسان إذا اتجه لتحقيق وجوده تمرد على الرب، فلا بد من سحقه و إذلاله و تحقيره لكي يتمجد الرب في قلبه، فيحصل على الخلاص.. دين يصرف الناس عن عمارة الأرض، و عن ترقية الحياة و تنميتها، بدعوى أن ذلك سيصرف الناس عن التوجه إلى الآخرة، و سيحرك شهواتهم التي لا بد أن تكبت، و من ثم يوقعهم في الخطيئة الواقفة للإنسان بالمرصاد... دين يحارب العلم، بسبب جهل البابوات و رجال الدين، و عدم اهتمام غالبيتهم بتثقيف أنفسهم، و اكتفائهم بسلطانهم الروحي على الجماهير.

ليس من العجيب إذن أن تنفر أوربا من ذلك الدين و تتمرد عليه.. إنما كان العجب أنها صبرت عليه كل تلك القرون التي صارت فيما بعد تمردها تسميها القرون الوسطى المظلمة.

و كان رد الفعل هو نبذ هذا الدين، و التحرر من سجنه، فكانت الأفكار و الفلسفات التي تهرول في الاتجه الآخر، بعيدا عن كل ما فيه أثر من ذلك السلطن الكنسي، و كانت العلمانية.

 

أين هذا من الإسلام، هل من المنطق أن نقارن بين أوروبا و العالم الإسلامي، هل كان لديهم حقا دين صحيح، حتى يقال إن البعد عنه كان مفتاح الازدهار الذي حققوه، و هل كان تاريخ الإسلام تاريخ سلطان ديني و طغيان كابت للحريات و الأفكار و حقر للإنسان، حتى نقول إن العلاج من الانحطاط الذي نحن فيه الآن يكون نفس العلاج الذي نجع في أوروبا؟.. إن الحقائق لا تقول ذلك، و بالتالي لا تقول إن العلمانية هي الحل.

 

إن العلمانية لا تصلح مع الإسلام، كما أنها لا تصلح مع اليهودية، و لكنها تصلح فقط مع المسيحية الحالية، و لننظر فيما يجري في إسرائيل كلما أرادوا أن يشكلوا حكومة، فإن عليهم أن يسترضوا تلك الاحزاب و الحركات الدينية، و لنقرأ فقط أخبار الأيام الماضية حينما اجتمعت الحكومة لتقرر هل يجوز ليهودي أن يهدم معبدا لليهود أم لا، و قرروا أنه لا يجوز... مرة أخرى أقول إن الحكومة اجتمعت لتقرر ذلك، و منذ شهور جاءت الأنباء بأن جماعات اسرائيلية اعترضت على إعلان في شوراع تل أبيب لأن فيه صورة الممثلة الأمريكية "سارة جيسيكا" عارية الظهر حتى تمت تغطية ظهرها، فعلام يدل هذا؟ ألا يدل على أن العلمانية لا تعمل مع اليهودية؟

 

أما مع المسيحية فهي عقيدة روحانية و حسب، بينما الشريعة هي اليهودية، و قد كان الأصل أن المسيحية جزء من اليهودية، و لكن من قالوا إنهم اتبعوا المسيح انفصلوا بها و أنشأوا دينهم الخاص و هو القائم حاليا، و كان لابد لمن يغير في دين أن يلقى العنت، و هو ما حدث لهم، فلم يكن هناك من خلاص إلا بالتخلص من هذا الدين الذي اقتطعوه اقتطاعا ما أصوله.

و الإسلام عقيدة و شريعة.. كيف يستطيع مسلم مثلا أن يقيم أحكام الإسلام في المعاملات التجارية أو الأحوال الشخصية أو الميراث، أو عقوبات الجرائم أو غيرها، إذا كان الدين محصورا في حجرة نومه، و في الزوايا هنا و هناك... لابد من سلطة حاكمة ترعى هذا... بمعنى آخر لا يمكن أن يجتمع الإسلام و العلمانية، كما أنه لا يجتمع الليل و النهار معا..

و هناك إشارة بالغة الدلالة و هي أن في القرآن التوجيهات و الأصول و القواعد التي يتعامل بها الإسلام مع غير المسلمين، فما الحاجة إلى ذلك إلا إذا كان الإسلام هو النظام الحاكم، و لو كانت العلمانية حاكمة لما احتجنا إلى القرآن و لكفتنا الوصايا العشر (أي بضع آيات من سورة الإسراء)، لأن الناس يخرجون من بيوتهم و يتركون ما يعتقدون في حجرات النوم، فلا يكون من داع لأي توجيهات أو أصول أو أحكام دينية...

يجب على صاحب الدين أن يتنازل عن بعض دينه من أجل العلمانية، فالدين هو أسلوب حياة يطلب من معتنقه أن يفعل أشياء و ألا يفعل أشياء، و هذه بالتعبير البسيط قيود، فإذا حاولت في مجتمع علماني أن تمارس هذه القيود ستواجهك جماعات اللادينين بالرفض، و هذه أمثلة أمريكية على هذا، فمنذ شهور دار النزاع في المحاكم بسبب أن إحدى المباني الحكومية أرادت وضع كتلة حجرية في مدخلها، و على هذه الكتلة نص الوصايا العشر، و تظاهرت الجماعات المسيحية مؤيدة، و الجماعات اللادينية معارضة، و كان الحكم أنه لا يجوز وضع هذا المجسم لأنه رمز ديني يجرح مشاعر اللادينيين، و دار نزاع آخر في المحاكم كذلك بشأن هل يجب أن "يُذكر لفظ الله" في تحية الصباح في المدارس يوميا، و هو نزاع مازالوا لم يحسموه بعد، و قد رفعه الأباء اللادينيون الذي يريدون أن يلا يبلبلوا أبناءهم بفكرة وجود إله، و هناك ثالث يجري فيه النزاع حول جواز تدريس فكرة آدم و حواء كبدء للخليقة في المدارس أم عدم الجواز، على أساس أن هناك من هم لا يؤمنون إلا بما قال به داروين، و نحن نسمع و سمعنا بقضايا الحجاب في فرنسا و حاليا في ألمانيا، و في، و تونس و في تركيا و في التليفزيون المصري... فحتى لو كانت العلمانية سائدة فهي لا تعني الحرية، بل تعني أنه لا يجوز لك أن تسلك أي مسلك تشوبه شائبة من الدين، لألا تنجرح مشاعر من الملحدون، و لا أقول أصحاب الديانات الأخرى، لأن من يؤمن بالله حقا، سيحب من الآخرين نفس الأمر، و قبل كل شيئ و بعده، فإن الدين عند الله الإسلام، و هذا هو أساس الفكر.

 

إن الدين ليس مجرد الاعتقاد، إنه طريقة الحياة و نظامها، ففي سورة يوسف مثلا يقول - تعالى -إن يوسف قد "أخذ آخاه في دين الملك.. "، أي استفاد من نظام قانون الدولة المصرية آنذاك ليبقي أخاه معه، و في سورة الكافرون تقول الآية، و الخطاب فيها موجه "للكافرين" تقول لهم "لكم دينكم و لي دين" في حين أنه ليس للكافرين دين، إنما لهم أسلوب في ممارسة الحياة لا يرضى عنه الله، فالدين هو أسلوب ممارسة الحياة، و يجب بالتالي أن يظهر في سلوكيات الأفراد، و نظم ترتيب علاقاتهم و تعاملاتهم، و ما العقيدة إلا المرحلة الأولى فقط... فإذا اكتفينا بالعقيدة فنحن إذن لم نقم الدين الذي يجب أن يكون بحسب العقيدة، فالعقيدة ليست الهدف، بل الهدف هو العمل الصالح المرتبط بهذه العقيدة، و ذلك كما أمر به الله و أراده، لا على هوى البشر و ما يفضلون.. و حسب تعريف العلمانية فإنها تريد ان تكون سلوكيات و تعاملات الناس على أسس أخرى غير التي توحي بها أي عقيدة، أي أنها بشكل مباشر معاكسة للدين، و يستحيل أن يجتمع الدين مع العلمانية... و قد نجح هذا المزج فقط مع المسيحية، لأن المسيحية هي جزء العقيدة من الدين بينما الدين الكامل كان يجب أن يكون اليهودية ثم تلحق به المسيحية...

إن إزذهار أوروبا ليس سببه إبعاد الدين عن الحياة، لأن ما لديهم لم يكن الدين، إنما سببه العمل الدؤوب و السعي الجاد، و الله عادل و قد خلق هذه الدنيا بنظم و قوانين، فمن أخذ بالأسباب حقق ما يجب تحقيقه... ثم إن تأخر المسلمين ليس سببه الدين، بل سببه عوامل سياسية يسجلها التاريخ، و تحتاج منا الدراسة، لنرى كيف الخلاص منها... إن البحث عن حل بتقليد أوروبا هو قياس خاطئ... إن مشكلتنا هي فساد سياسي ملء السمع و الأبصار، إذا أردنا الأفضل فلتكن محاربة الفساد السياسي هي الحرب.. الدين عندنا عندما كان عاملا كنا في القمة، و هو ليس عاملا الآن، و لذا نحن في القاع.

 

من العجيب أن الفكرة في غاية الوضوح، و لكن كيف سيرى من يصر على إغلاق عينيه... إن كل التهم التي أدينت بها النصرانية المحرّفة، هي نفسها التي يريدون أن يلصقوها بالإسلام... و لا عجب، فإن عقلية هؤلاء هي العقلية المتأثرة بأوروبا النافرة من الدين، الذاكرة له بهلع، بسبب ما كان من شأنها معه كما سبق... و لا يلاحظ أولئك أن أوروبا إنما بدأت التمرد على الدين بعد احتكاكها بالمسلمين، عندما بدأت تدرك مقدار الظلام الذي عاشت فيه و تتوق للخلاص الحقيقي من الكنيسة و طغيانها، و هم مع ادعاء اتباع أساليب التفكير العلمي يخطئون عندما يقيسون الإسلام بمعايير التجربة الأوربية، و لا يدركون الفرق بين التجربة التي تمت في ظل الدين المزيف، و التجربة التي تمت في ظل الدين الصحيح، و لقد جرى شيئ مشابه في مصر عندما غزا الفرنسيون مصر، إذ أد الاحتكاك إلى اكتشاف الحاجة إلى إعادة النظر في الذات، و بدأت بالفعل نهضة في أنحاء مصر، على أن أوروبا لم تمهل أحدا، و في خلال عقود كان جميع بلدان العالم الإسلامي محتلة، و لا تزال حتى اليوم.

إن المسلمين في أشد حالات الانحطاط، و أسباب هذا ترجع للاستبداد السياسي، الذي شوه عصورا طويلة من تاريخ الإسلام، و لكن التشخيص يخطئ عندما يقول إن الدين هو سبب الانحطاط أو أنه حتى سبب الاستبداد... تخيلوا إنسانا متكسرة أطرافه، و بدلا من أن يحاول الأطباء تجبيره و إصلاحها، فهم يصرون على تغيير العقل و القلب... إن المسلمين في حاجة إلى القوة و الاعتزاز بالذات و الثقة قبل أن يبدأوا التحرك إلى المقدمة، و لكن إذا تخلينا عن ماهيتنا بدلا من ذلك، فلن يكون لنا وجود، و ما سيحدث هو أن الله سوف يستبدل بنا قوما آخرين يؤمنون به حق الإيمان، و ينصرون دينه، فلقد كتب الله أن هذا الدين سينتصر، بنا أو بغيرنا... " كَتَبَ اللَّهُ لأَغلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيُّ عَزِيزٌ، لا تَجِدُ قَوماً يُؤمِنُونَ بِاللَّهِ وَ اليَومِ الآخِرِ يُوَادٌّونَ مَن حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَو كَانُوا آبَاءَهُم أَو أَبنَاءَهُم أَو إِخوَانَهُم أَو عَشِيرَتَهُم أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِم الإِيمَانَ وَ أَيَّدَهُم بِرُوحٍ, مِنهُ وَيُدخِلُهُم جَنَّاتٍ, تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا - رضي الله عنهم - وَ رَضُوا عَنهُ أُولَئِكَ حِزبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزبَ اللَّهِ هُم المُفلِحُونَ" المجادلة 21-22... و قال - تعالى -" إِن يَشَأ يُذهِبكُم أَيٌّهَا النَّاسُ وَ يَأتِ بِآخَرِينَ وَ كَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيراً" النساء 133، و قد تعلمنا من القرآن أن شرط النصر هي أن نكون ممن يصفهم القرآن في سورة الحج بأنهم " الَّذِينَ إِن مَكَّنَّاهُم فِي الأَرضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوا الزَّكَاةَ وَ أَمَرُوا بِالمَعرُوفِ وَ نَهَوا عَن المُنكَرِ وَ لِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ"، و هذه الآيات تتناقض و العلمانية، لأن إرضاء أحد من البشر على حساب رضا الله هو الشرك بعينه، فإذا آمنا أن لله عاقبة الأمور، فقد علمنا ما يجب علينا أن نعمله.

 

لقد كان الاستبداد عندما فرطتنا في ديننا و ستكنا و لم نقاوم، و نعم من الإسلام ألا نخرج على الحاكم لتجنب الفتنة و هي الأكبر خطرا، و لكننا مأمرون بعدم الرضى أو السكوت، فكما جاء في صحيح مسلم، قال - صلى الله عليه وسلم - " ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون و أصحاب، يأخذون بسنته و يقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، و يفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، و من جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، و من جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، و ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل "، و قال - صلى الله عليه وسلم - " الدين النصيحة " قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: " لله، و لكتابه، و لرسوله، و لأئمة المسلمين و عامتهم"

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply