قراءة في كتاب العلمانية ( 2 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الباب الثاني: أسباب العلمانية:

وفيه أربعة فصول: الفصل الأول: الطغيان الكنسي: أسبابه. أنواعه (الطغيان الديني الطغيان السياسي الطغيان المالي).

الفصل الثاني: الصراع بين الكنيسة والعلم:

الفصل الثالث: الثورة الفرنسية: (الفكر اللاديني - وقوف الكنيسة ضد مطالب الجماهير - القوى الشيطانية الخفية).

الفصل الرابع: نظرية التطور: (آثار الداروينية - انـهيار العقيدة الدينية - نفي فكرة الغاية والقصد - حيوانية الإنسان وماديته - فكرة التطور المطلق).

بدأ المؤلف في فصل الطغيان الكنسي إلى التعريف بداء الطغيان وبيان أنه مرض يدمر النفس الإنسانية حين تصاب به، وأن من خصائصه أنه لا يصيب إلا ذا نفس هزيلة أتيح لها وسائل تفوق طاقتها، ولم يكن لديها ما تتحصن به من خلق أو إيمان يكبح جماحها.

وأشار إلى أن ظهور هذا المرض على الحكام الوثنين أو الطغاة من زعماء الدنيا فإنه يكون معقولاً إلى حد ما، أما حين يصدر هذا السلوك الشائن ممن يراهم الناس قديسين ورسل سلام فهذا مما يشق على النفس تحمله، ويصعب على العقل تقبله، فهم الرجال الذين طالما سمعوا منهم عبارات التسامح والمحبة في مواعظهم الدينية.

ويبحث المؤلف في أسباب ذلك الطغيان الذي كانت الكنيسة تمارسه، فأشار إلى الاضطهاد الذي أوقعه الوثنيون من الرومان على أتباع المسيح - عليه السلام - والذي ألجأ هؤلاء الأتباع إلى التخفي بالدعوة، وإخفاء ما بأيديهم من نسخ الأناجيل، التي كانت تتعرض للمصادرة والحرق، مما أدى إلى انحصار المصادر الدينية للمسيحية في أيدي فئة قليلة من الناس كان لهم وحدهم حق شرحها وتأويلها، فلم يكن بأيدي الناس من المصادر التي يراجعون على أساسها ما يسمعون من رجال الكنيسة، فتكلم هؤلاء وحدهم وكان على الناس جميعاً أن يسمعوا من هذه الفئة التي احتكرت حق الشرح والبيان، فكان على الناس أن يقدموا الطاعة العمياء، فشجع ذلك رجال الكنيسة على الطغيان وفرض سلطانهم وتعميق هيبتهم لدى الناس، وكان من نماذج هذا الطغيان:

الطغيان الديني: فمنذ مجمع نيقية عام 325م والكنيسة تمارس الطغيان الديني، حيث فرضت عقيدة التثليث، ولعنت مخالفيها، وعذبت الموحدين، ومارست التحليل والتحريم والنسخ والإضافة، فحرمت الختان، وأباحت الميتة، والتماثيل والضرائب التي تجبيها الكنائس، وغير ذلك من المحرمات التي أحلتها المجامع الكنسية، كما أضافت الكنيسة ألواناً من المعتقدات الوثنية كقضية الاستحالة في العشاء الرباني، وعقيدة الخطيئة الموروثة وعقيدة الصلب والعذراء والطقوس السبعة، فرضت الكنيسة كل ذلك على أتباعها بحجة أنـها أسرار عليا لا يجوز الشك فيها بل لا يجوز الخوض فيها.

لم يقف الأمر عند هذا الحد من الطغيان الذي فرض على الناس الانصياع لتلك المعتقدات، بل تعدى ذلك إلى إنزال النكال البشع بكل من تسول له نفسه الاعتراض أو التبرم من أحوال الكنيسة، وفساد رجالها، وما خبر محاكم التفتيش بجديد، فقد كان المسلمون في الأندلس هم الضحية الأولى لتلك المحاكم البشعة، فقد أبيدوا إبادة تامة بأقسى وأشنع ما يتخيله الإنسان من الهمجية والوحشية، وكانت المحكمة الأم لهذه المحاكم الوحشية (المحكمة المقدسة!! في روما)، وإن المؤرخين ليصابون بالرعب عند ذكر هذه المحاكم وسرد تاريخها الأسود فكيف بالضحايا الذين وقع عليهم هذا العذاب الذي يفوق الخيال، وكان يكفي لوقوع الشخص في هذا العذاب الرهيب أن يشي به جاره أنه سمعه يذكر الثالوث أو المعجزات بما يعد في نظر رجال الكنيسة جريمة يستحق صاحبها أن يقطع جسده أو يفرم في مفارم اللحم أم يشعل تحته النيران الخفيفة ليموت موتاً بطيئاً أو تغرز الكلاليب في لسانه ويشد فيقطع، وعقدت الأهوال ألسنة كبار العلماء الأفذاذ مثل نيوتن وبيكون وديكارت وكانت وغيرهم، فلم يجرؤ أحد منهم على التلفظ بكلمة تثير عليهم غضب رجال الكنيسة القساة.

 

الطغيان السياسي:

من الطبيعي أن يكون لرجال الدين في أي أمة أثرهم الطيب في المجتمع، وأن تكون أزمة الأمور في أيديهم، لتقويم المعوج وتصحيح الخطأ، أما أن يتحول رجال الدين إلى طواغيت ومحترفين سياسيين، مع نبذ شريعة الله، ليحل محلها التسلط والاستبداد، فذلك العجب العجاب، لكن هذا هو الذي حدث من الكنيسة، حيث تناحر البابوات مع الأباطرة على النفوذ، والقبض على مقاليد الأمور في المجتمع، ولم يفتأ البابوات يعلنون أن الكنيسة بوصفها نظاماً إلهياً خليقة بأن تكون صاحبة السلطة العالمية، ومن حق البابا وواجبه أن يخلع الملوك غير الصالحين، أو يرفض اختيار البشر للحكام.

ظلت الكنيسة على هذا الحال من السلطة الروحية البالغة، والهيكل التنظيمي الدقيق والاستبداد المطلق، فكان البابوات هم الذين يتولون تتويج الملوك والأباطرة، كما كان بإمكانـهم خلع الملوك وعزلهم بإرادتـهم المحضة، ومن رفض الرضوخ لأحكام البابوات أسقط البابوات عنه الشرعية وأعلنوا الحرب عليه.

ولعل خير مثال على ذلك يعرضه علينا المؤرخ البريطاني "ويلز"، وكذلك "ديورانت" في (قصة الحضارة) وهو حادثة الإمبراطور الألماني (هنري الرابع) المشهورة مع البابا جريجوري السابع، فقد جرى بينهما خلاف فظن الإمبراطور أن بوسعه أن يخلع البابا فرد البابا بخلعه، وألب عليه أتباعه والأمراء، فعقد الأمراء مجمعاً وقرروا فيه أن الإمبراطور سيفقد عرشه إلى الأبد إذا لم يحصل على عفو البابا، وخضع الإمبراطور وأذل نفسه وسافر مجتازاً جبال الإلب في برد الشتاء القارس، وظل واقفاً في فناء القلعة ثلاثة أيام وهو في لباس الرهبان متدثراً بالخيش، حافي القدمين، عاري الرأس، مظهراً كل علامات المسكنة والتوبة حتى ظفر بالمغفرة، وحظي برضا البابا!.

وأشار المؤلف إلى نماذج من التحديات التي كانت تصدر من بعض الملوك تجاه الكنيسة لكنها كانت تتحطم أمام نفوذ الكنيسة وطغيانـها، وكان من أشهر هؤلاء الملوك الذين قاوموا هذا الطغيان الإمبراطور "فردريك الثاني" الذي عرف بصلابته التي عزاها المؤرخون إلى ثقافته العربية والإسلامية حتى اتـهمته الكنيسة بأنه اعتنق الإسلام وسمته الزنديق الأعظم، فدافع هذا الإمبراطور عن نفسه برسالة عدت وثيقة هامة في وصف الصراع بين البابوات والملوك، أو الصراع بين الكنيسة والعلمانيين الذي كان يثور ويتأجج، فكان موقف فردريك ظاهرة فذة، لكنها لم تصمد أمام قرارات الحرمان، وسطوة الكنيسة الباغية.

 

الطغيان المالي:

بين المؤلف أن الأناجيل على ما فيها من تحريف كانت قاطعة في الدعوة إلى الزهد، والتنفير من التهالك على ملذات الدنيا لا سيما جمع المال والافتتان به، وأن المسيح - عليه السلام - كان أسوة حسنة في ذلك فقد عزف هو وحواريوه عن الدنيا عزوفاً صادقاً بينما كان القوم من اليهود ينظرون إلى الدنيا نظرة جشع لا ينتهي وشره لا ينقطع.

وجاءت القرون التالية فشهدت مفارقات عجيبة بين مفهوم الكنيسة في هذا الأمر وبين واقعها العملي، فبينما كانت تحرم ما أحل الله من الطيبات متأثرة بتلك النظرة التشاؤمية للحياة الدنيا كانت سيرتـها الذاتية مخزية، حيث تـهالكت على الدنيا وامتصت دماء أتباعها وعاش رجالها في بذخ متناه، وكانت أملاك الكنيسة الإقطاعية من الأراضي تفوق كبار الإقطاعيين في أوربا، حتى بلغت ممتلكاتـها الإقطاعية ثلث أراضي إنجلترا، كما كانت تأخذ الضرائب الباهظة من الباقي من الأرض، كما فرضت الكنيسة العشور على غلات الأراضي الزراعية والمهنيين، ولم تكتف الكنيسة بالأوقاف والعشور بل فرضت الرسوم والضرائب، كما كانت تحظى بالكثير من الهدايا والهبات التي كان الأثرياء يقدمونـها لها للتملق أو الرياء أو ما كان منها على سبيل الصدقة والإحسان، وفوق ذلك كانت هناك المواسم المقدسة والمهرجانات الكنسية التي كانت تدر على الكنيسة أموالاً طائلة، كما كانت الكنيسة ترغم أتباعها على العمل المجاني في حقولها وفي مشروعاتـها لا سيما بناء الكنائس والأضرحة، كان كل ذلك يملأ نفوس الناس جميعاً بالسخط إلا أن الظروف لم تكن مواتية لإعلان هذا السخط أو التعبير عنه بشكل صريح.

 

الفصل الثاني: الصراع بين الكنيسة والعلم:

بين المؤلف في هذا الفصل أن الصراع الذي نشب بين العلم والدين كان من أعقد وأعمق المشكلات في التاريخ الفكري الأوربي، ورغم كل الظواهر البارزة في الحياة الغربية التي تؤكد أن المعركة قد حسمت لصالح العلم، فإن هناك ما يدل على أن الدين أو بعض قضاياه الاعتقادية والسلوكية لا يزال موجوداً، وأن المعركة لم تحسم نـهائياً، بل هي مستمرة، وأن كل طرف من الطرفين قد حقق في هذا الصراع ثباتاً وصموداً، أو تمكن من احتلال مساحات من مناطق نفوذ الآخر، فالمناطق التي احتلها العلم من مناطق نفوذ الدين هي في الحقيقة المواقع التي انتصر فيها العقل واليقين على الخرافة والوهم، كما أن المواقع التي صمد فيها الدين أمام الهجوم العلمي الكاسح هي المواقع التي انتصرت فيها الحقيقة الموحاة على التخرصات والأهواء.

ويلخص المؤلف هذه الفكرة في عبارة موجزة فيقول: "إن الحق في كل من الطرفين هو الذي انتصر أو سينتصر على الباطل في كليهما، وأنه لو كان الدين الأوروبي يقيناً مجرداً والعلم الأوروبي يقيناً مجرداً لما حدثت معركة على الإطلاق". ويضيف: "إن الدين بصبغته الإلهية النقية لم يدخل المعركة، ولهذا فإن الأوفق أن نسمي ما حدث في الغرب صراعاً بين الكنيسة والعلم وليس بين الدين والعلم".

ثم يبين أن جناية رجال الدين الأوربيين على الحقيقة كانت أشنع وأنكى من جناية أنصار العلم عليها، ذلك أن الكنيسة ارتكبت خطأين فادحين: أحدهما تحريف حقائق الوحي الإلهي وخلطها بالفلسفة والأهواء، والآخر فرض الوصاية الطاغية على ما ليس داخلاً في نطاق اختصاصها.

كانت أوربا مستغرقة في دياجير الخرافة والجهل، فعرفت الطريق إلى النهضة العلمية التي كانت تشع من الحضارة الإسلامية في الأندلس وصقلية، فاستيقظ العقل الأوروبي من سباته وأخذ يقتبس عن المسلمين طرائق البحث ومناهج التفكير، وهنا ثارت الكنيسة، وهاج هياجها على أولئك الذين يتلقون علوم "الكفار" - المسلمين! -، ويلتفتون عن الكنيسة وتعاليمها فأعلنت حالة الطوارئ وشكلت محاكم التفتيش، فاشتعلت المعركة، وازداد أوارها بمرور الأيام.

ثم استعرض المؤلف مراحل ذلك الصراع فتحدث عن النظرية التي هزت الكنيسة وأذهبت قدراً كبيراً من ثقة أتباعها فيها، وهي النظرية الفلكية التي قدمها "كوبرنيق" 1543م وخالف فيها ما كانت الكنيسة تعتقده من أن الأرض مركز الكون وأن الأجرام السماوية كافة تدور حولها، ولم ينج من محاكم التفتيش لأنه كان قسيساً بل لأن المنية أدركته بعد طبع كتابه بقليل، فأفلت من عقوبة الكنيسة، التي حرمت كتابه، واعتبرته من وساوس الشياطين.

وجاء بعده " برونو" بتأكيد نفس النظرية، فسجنته الكنيسة فأصر على رأيه فأحرقته، ثم جاء "جاليليو" فأيد النظرية فلقي في السجن العذاب والمهانة، وكاد أن يلقى نفس مصير برونو لولا أنه خشي على حياته فأعلن ارتداده عن أفكاره وركع ذليلاً أمام رئيس المحكمة، وراح يلعن ما توصل إليه ويصفه بالإلحاد، وتعهد بالإبلاغ عن كل ملحد يوسوس له الشيطان بتأييد مثل هذه الأبحاث المضلله!!

وبعد مدة من الزمن راجت تلك النظرية الفلكية، وهبطت أسهم الكنيسة، وطالب العلماء ودعاة التجديد بتقديس العقل واستقلاله بالمعرفة بعيداً عن الوحي، ثم ظهر "ديكارت" فدعا إلى تطبيق المنهج العقلي في الفكر والحياة، واستثنى الدين تحت الرهبة من الكنيسة التي لم يزل لها نفوذ وسطوة.

وهذه الازدواجية في الفلسفة والنظر العلمي، والفصل بين العلم البشري والوحي الإلهي ظهرت أيضاً في منهج " بيكون " التجريبي، الذي كان يمثل مرحلة طبيعية في سلم التدرج من الإيمان المطلق بالوحي إلى الإنكار المطلق له.

بيد أن بعض الفلاسفة آثر الدخول المباشر على آراء الكنيسة وإخضاعها، للمنهج العلمي، ومن هؤلاء " سبينوزا " اليهودي الذي وضع أسس مدرسة النقد التاريخي.

وقد أعمل سبينوزا منهجه بدراسة الكتب الدينية بنفس المنهج الذي تدرس به الروايات التاريخية، واستنتج أن أسفار التوراة لم يكتبها موسى، وإنما كتبت بعده، ثم جاء "باسكال" ووجه النقد لعقيدة الخطيئة، ثم جاء " جون لوك " فكان أبلغ من ديكارت في المطالبة بإخضاع الوحي للعقل عند التعارض، ثم دعا إلى التسامح الديني، وإفساح الطريق أمام الناس ليعتنقوا ما شاءوا من الأديان.

على أن كل ذلك كان يظهر بتلطف وحذر حيث كانت الكنيسة تتربص بأصحاب تلك الأفكار، وتخيفهم بمحاكم التفتيش، وقد تعرضت كتب هؤلاء العلماء للحرق والمصادرة، كما تعرضوا هم للإيذاء والمضايقة من قبل الكنيسة.

ثم جاء " نيوتن " وظهرت نظريات علمية هزت الكنيسة وأثارتـها، كان من هذه النظريات القول بأن من الممكن تفسير ظواهر الطبيعة بربط بعضها ببعض دون حاجة إلى تدخل قوى خارجية عنها، وكانت هذه النظرية بمثابة النواة للمذهب الطبيعي والنظرية الميكانيكية.

حاربت الكنيسة هذه النظرية على أساس أنـها أهملت الاعتقاد في أن الله هو الذي يسير كل حركة في الكون، ولم يتسع أفق الكنيسة لإدراك أن نسبة الأفعال إلى الأسباب والوسائط لا يلزم منه إنكار نسبتها إلى الله - تعالى - باعتباره الفاعل الحقيقي، لكن الكنيسة دأبت على محاربة كل جديد، فترتب على ذلك جنوح أصحاب النظرية برد فعل أهوج، فأنكروا عمل العناية الإلهية، وأعلنوا أن كل ما عرفت علته المباشرة فلا داعي لافتراض تدخل الله فيه حسب تعبيرهم -.

كان اندفاع الباحثين والعلماء في مواجهة الكنيسة والانفكاك من ربقة رجالها المتغطرسين يعبر بشكل صريح بكفرهم بالكنيسة وبرجال الدين، وساعدت نظرية نيوتن على إيجاد فكر لا ديني منظم، وربما كانت النظرية قد مهدت للثورة الفرنسية، وفتحت الطريق أمام نظرية دارون التي كانت إيذاناً بأفول نجم الكنيسة، وانتهاء وصايتها الفكرية على أوربا، وولادة آلهة جديدة لا كنائس لها.

ثم ظهر في القرن الثامن عشر روح جديدة عمت الباحثين والفلاسفة والعلماء، دار محورها حول العقل والطبيعة، وتعالت الأصوات بتضخيم دور العقل، وبأنه الحكم على كل شيئ، وأن ما عداه فوهم وخرافة، فالوحي يخالف العقل، فهو أسطورة كاذبة، وصار لزاماً على الذين نبذوا الإيمان بالله كلية أن يبحثوا عن بديل فوجدوه في الطبيعة، فخلعوا على هذا المسمى كل صفات الله التي عرفوها في المسيحية مع فارق بين الإلهين في نظرهم.

فإله الكنيسة يبطش ويعذب ويفرض القيود، أما إله الطبيعة فجذاب ليس له كنيس ولا يفرض طقوساً ولا صلوات ولا رجال دين يستعبدون الناس.

وسادت تلك العبادة الجديدةº عبادة العقل والطبيعة، فكانت سمة هذا العصر الذي سمي عصر التنوير.

وتوالت انتقادات العلماء للكنيسة ترسم خط العداء الذي ظهر في أجلى صوره على يد "فولتير" الذي انتقد عقيدة التثليث وتجسيم الإله وأشار إلى أن " بولس "، طمس المسيحية وحرفها، ونادى بأن الطاعة إنما هي طاعة البشر باسم قوانين الدولة، وأن على رجال الدين أن يخضعوا مع جميع الناس لنظم الدولة، فلعنته الكنيسة وحرمت قراءة كتبه.

ونتج عن المذهب العقلي الجديد بالإضافة إلى نظرية نيوتن مذهبان جديدان على العالم الإسلامي ينمان عن التخبط والضياع:

الأول: مذهب المؤلهة أو المؤمنين بإله مع إنكار الوحي.

الثاني: المذهب الإلحادي المادي.

 

الثورة الفرنسية:

بين المؤلف في هذا الفصل أن النظام الاجتماعي الذي هيمن على الحياة الأوربية طيلة القرون الوسطى هو نظام الإقطاع والذي كان أبشع وأظلم النظم الاجتماعية في التاريخ، وأشار إلى أن الشرق المسلم آنذاك كان ينعم بالحياة في ظل أفضل وأعدل مجتمع عرفه التاريخ، بينما كان الغرب يرزح تحت نير هذا النظام البغيض.

ويشير المؤرخون إلى أن أولى محاولات الإنسان الأوروبي الانفلات من المظالم الإقطاعية بدأت بالاحتكاك المباشر بالمسلمين عن طريق الفتوحات الإسلامية في أوروبا، وبلغ ذروته إبان الحروب الصليبية، وكان رواد هذا التمرد والثورة على الإقطاع أرقاء فرنسا لقربـها من الأندلس، وبعدها النسبي عن مركز البابوية في روما، فكان أهلها أقرب إلى روح التحرر والانطلاق.

فقامت في فرنسا أول ثورة فلاحية "الجاكرية" في القرن الرابع عشر للميلاد، وهي وإن أجهضت إلا أنـها مهدت لحركات مماثلة بالثورة على الكنيسة التي كانت في نظرهم مجرد مالك إقطاعي جشع.

بلغ الفساد السياسي والتدهور الاقتصادي أقصاه في السنوات السابقة للثورة الكبيرة في فرنسا، ونفد صبر الشعب الذي أنـهكته المجاعة، بينما كانت هناك طبقتان منغمستان في التنعم والترف هما: طبقة رجال الدين، وطبقة الأشراف بالإضافة إلى الأسرة المالكة.

فكان المجتمع فريقينº فريق الشعب ممثلاً في الفلاحين والمهنيين وصغار القساوسة، وفريق يمثله رجال الدين والنبلاء. وانتصر الشعب، وحصدت المقصلة معظم الرؤوس المترفة الطاغية، وتمخضت الثورة عن نتائج بالغة الأهمية فقد ولدت لأول مرة في تاريخ أوربا دولة تقوم فلسفتها على الحكم باسم الشعب " وليس باسم الله "، وعلى حرية التدين، بدلاً من الكثلكة، وعلى الحرية الشخصية بدلاً من التقيد بالأخلاق الدينية، وعلى دستور وضعي بدلاً من قرارات الكنيسة.

وتبدلت الأمور بشكل مثير، فقد حلت الثورة الجمعيات الدينية، وسرحت الرهبان والراهبات، وصادرت أموال الكنيسة، وألغت كل امتيازاتـها، وحوربت العقائد الدينية هذه المرة علناً وبشدة، وأصبح رجل الدين موظفاً مدنياً لدى الحكومة.

كان لهذه النتائج أسباب تضافرت على تحقيقها، منها:

أولاً: الفكر اللاديني (الذي طبع عصر التنوير):

ازدهرت مدارس كان بعضها ذا طابع علمي وبعضها ذا طابع اجتماعي وبعضها فلسفي هدام، وبدأت الفكرة الفلسفية القديمة - بإقامة مجتمع يرفض القيم والأخلاق الدينية - تتبلور.

ثانياً: وقوف الكنيسة ضد مطالب الجماهير:

استفزت الكنيسة الجماهير إلى الحد الذي شجعهم على التخلي عن عقيدتـهم، واعتناق أفكار الكتاب العلمانيين، وأصبح لزاماً على الكنيسة أن تسدد ديون قرون طويلة من الاستغلال البشع والطغيان الجائر.

ثالثاً: القوى الشيطانية الخفية:

يقول المؤلف: كان من الممكن أن تظل الجماهير الثائرة على الكنيسة وفية لدينها لولا أنه وجد عامل آخر قلب أهداف الثورة وحول خط سيرها، فعندما اندفعت الجماهير الهائجة لهدم "الباستيل"º رمز العبودية والاستبداد، لم تكن ترفع سوى شعار واحد هو الخبز، والخبز وحده.

ولُقنت الجماهير الثائرة شعارات أخرى لم تكن تعي أبعادها بشكل كامل، من هذه الشعارات: "الحرية والإخاء والمساواة"، وكان ثم شعار آخر هو: لتسقط الرجعية، ولم يكن يعني عند الذين صنعوه سوى الدين.

كان اليهود يرقبون الثورة وهي تندلع، مصممين على استغلالها في الإجهاز على الكنيسة والثأر منها ومن دينها وأخلاقها، وكانت أموال اليهود المرابين تمد الغوغاء الثائرين، وبـهذا استطاع اليهود أن يتغلغلوا في منظمات الثورة وأن ينفثوا في الجماهير شعاراتـهم التي رددتـها الجماهير ببلاهة لا سيما شعار "الحرية والإخاء والمساواة"، والذي يعني عند اليهود تحطيم القيود الأخلاقية والتقاليد الموروثة التي تحول بينهم وبين إفساد الأمم وتدميرها، ويقصدون بالإخاء والمساواة كسر الحواجز النفسية والاجتماعية التي تحول بينهم وبين الانسلال إلى أجهزة الدولة وتنظيماتـها وإذابة الفوارق الدينية بينهم وبين غيرهم كي تزول عنهم وصمة الاحتقار والمهانة.

وهكذا نجح اليهود في تحويل الثورة من ثورة على رجال الدين إلى ثورة على الدين نفسه.

كانت الثورة الفرنسية فاتحة عصر جديد في التاريخ الأوربي، وأمدت هذه الثورة الثورات الأخرى في تحقيق انـهيار نظام الإقطاع وانـهيار نفوذ الكنيسة، وكان من آثار ذلك أن حدث فراغ كبير في المعتقدات والقيم، فاستغله اليهود في تحطيم إنسانية الإنسان وتدمير قيمه …

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply