أشرقت الشمس على خير يوم طلعت فيه الشمس، يوم الجمعة يوم عرفة، وسار الركاب الشريف من منى إلى عرفات، وجموع الحجيج تسير معه، سار - صلى الله عليه وسلم - ولا يظن قومه إلا أنه سيقف معهم في مزدلفة كما كان شأنهم في الجاهلية، حيث جعلوا لأنفسهم موقفاً خاصاً يقفون فيه، ولا يقفون مع الناس في عرفةº إذ يرون لأنفسهم مكانة وتميزاً لجوارهم بيت الله، وأنهم بذلك لا يشاركون الناس الوقوف في عرفات، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي جاء بدينه للعالمين، لم يأت به لفئة من الناس يميزهم، ولو كانوا قومه وعشيرته، تجاوزهم وسار ليقف مع الناس عملاً بقول ربه: \"ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس\".
سار - صلى الله عليه وسلم - بالناس ومع الناس قريباً منهم، يدنو منه من شاء، ويكلمه من شاء، فهذا أعرابي يعرض له بين عرفات ومزدلفة يمسك بخطام ناقته وهي سائرة، ويوقفه والناس حوله يتساءلون: ماله؟ ماله؟ ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقطع عليهم تساؤلهم قائلاً: أرب ماله، - أي له شأن وله حاجة - وسأل الأعرابي: (يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم، دع الناقة). ويسير - صلى الله عليه وسلم - على حاله هذه \"رخاء حيث أصاب\" حتى وصل إلى نمرة فإذا قبة قد ضربت له هناك، فجلس فيها حتى زالت الشمس فركب راحلته القصواء، ثم نزل بها إلى بطن وادي عُرَنَة - وهو أرض دمثة فسيحة يسهل اجتماع الناس عليها وجلوسهم فيها - فاجتمع الناس حوله في بطن الوادي، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - على راحلته مشرف عليهم، أطاف به الناس فعرفته العيون، وأصاخت له المسامع، واشرَأبَّت له الأعناق، وخفقت بحبه القلوب، تتعلق بمحياه، وتتلقف قوله، فتطاول - صلى الله عليه وسلم - للناس قد أمكن قدميه في الغرز، واعتمد على مقدم الرحل، وأشرف للناس ليخطبهم خطبة عظيمة، جمع فيها معاقد الدين، وعصم الملة، وتعظيم الحرمات، فدوى صوته بين أهل الموقف، حامداً الله مثنياً عليه، ثم قال: أيها الناس إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة ابن الحارث ابن عبد المطلب، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربانا ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله، واتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يواطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به، كتاب الله\".
ثم أقبل - صلى الله عليه وسلم - على هذه الجموع يستشهدهم شهادة عظيمة، شهادة البلاغ والأداء ويقررهم بجواب السؤال إذا سئلوا يوم القيامة \"فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين\": أيها الناس، إنكم مسؤولون عني فما أنتم قائلون؟
ألا ما أعظم السؤال! وما أعظم المقام! ثلاث وعشرون سنة قضاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بلاغ ودعوة، وصبر ومصابرة، وجهد وجهاد، أُخرِجَ - في سبيل بلاغ رسالات الله - من بلده وهي أحب البلاد إليه، وقوتل في بدر، وأصيب في أحد، وحوصر في الخندق، وشد على بطنه حجرين من الجوع وصُدَّ عن البيت، وقُتِل أقاربه وأقرب الناس إليه بين يديه، كل ذلك بلاغاً للدين وأداءً للرسالة، ومع ذلك يسأل ويستشهد على بلاغه أمته، فأجابته هذه الجموع كلها بالجواب الذي لا يمكن أن تجيب بغيره، وشهدت بالشهادة التي لا يحق لها أن تشهد بسواها، نطقت هذه الجموع بفم واحد: نشهد أنك قد بلَّغت ونصحت وأديت الذي عليك، ورفع - صلى الله عليه وسلم - إصبعه الشريفة إلى السماء، وجعل ينكتها إلى الناس وهو يقول: \"اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد\".
ونحن اليوم بعد ألف وأربع مئة سنة نشهد للرسول - صلى الله عليه وسلم - بما شهد له به أصحابه، أنه قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وتركنا على المحجة البيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلى الله وسلم وبارك عليه.
وكان من عجاب هذا الموقف أن الذي كان يبلغ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للناس، ويصرخ فيهم بمقاله هو (ربيعة بن أمية بن خلف)! هذا الذي قتل أبوه في بدر هبراً بالسيوف، وهو يقاتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا ابنه يبلغ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويصرخ في الناس بكلماته ألا إنها أنوار النبوة وهدي الرسالة أطفأت تراث الجاهلية في القلوب التي كانت تتوارث الحقد، وتستعر فيها حرارة الثأر، فتبدلت وعادت خلقاً آخر لما هطلت عليها فيوض النبوة \"فاهتزت وربت وانبتت من كل زوج بهيج\"، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحب إليهم من آبائهم وأمهاتهم وقلوبهم التي بين جوانحهم\"ذلك هدى الله يهدي به من يشاء\".
فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خطبته، فأذن بلال وأقيمت الصلاة، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر والعصر قصراً وجمعاً، ثم ركب راحلته ودفع إلى عمق عرفة ليقف عند ذيل الجبل عند الصخرات مستقبلاً القبلة رافعاً يديه داعياً وملبياً، وكان - صلى الله عليه وسلم - مع وقوفه في مقامه ذلك قائماً بأمر الناس تعليماً ورعاية وتوجيهاً ودلالة، يأتيه ناس من أهل نجد يسألونه عن الحج، فيقول لهم: الحج عرفة، ويخاطب الناس قائلاً: (وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف)، وأرسل للناس وهم في فجاج عرفة صارخاً يصرخ بهم: أن كونوا على مشاعركم، فإنكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم، ويسقط رجل من أهل الموقف عن راحلته فتنفصم عنقه ويموتº رجلٌ من غمار الناس، لا نعرف اسمه ولا قبيلته ولا بلده، ولكن ربه الذي خلقه يعلم حاله وإليه مآله، فيقول النبي - صلى الله عليه وسلم - \"اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تمسوه طيباً ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً\".
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في موقفه ذلك بارزاً للناس، مشرفاً عليهم، يأتيه أعرابي من قيس يقال له: ابن المنتفق وصِف له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتطلبه حتى لقيه بعرفات قال: فزاحمت عليه، فقيل لي: إليك عنه، فقال: دعوا الرجل، أرب ماله، قال: فزاحمت حتى خلصت إليه فأخذت بخطام راحلته فما غير علي، قال: شيئين أسألك عنهما: ما ينجيني من النار، وما يدخلني الجنة؟ قال: فنظر إلى السماء ثم أقبل إلي بوجهه الكريم فقال: لئن كنت قد أوجزت المسألة فقد أعظمت وطولت فاعقل علي: اعبد الله لا تشرك به شيئاً، وأقم الصلاة المكتوبة، وأد الزكاة المفروضة، وصم رمضان\" وجاء الأعراب الذين وافوا الموقف يطوفون برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويدنون إليه ليروا محياه، فإذا استنار لهم وجهه قالوا: هذا الوجه المبارك، وينزل الروح الأمين على قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - بالوحي من ربه في هذا الموقف العظيم بهذه الآية العظيمة الشاذة الفاذة \"اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً\"، فسري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأها على الناس معلناً كمال الدين وتمام النعمة، وعبودية البشر بالإسلام الذي رضيه لهم ربهم ولم يرض لهم سواه، فلما سمعها عمر - رضي الله عنه - فقهها واستشعر من معناها أن مهمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد انتهت بكمال الدين، وأنه يوشك أن يلحق بربه الذي أرسله، فاستعبر باكياً وهو يقول: ليس بعد الكمال إلا النقصان.
أما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد قضى عشية يومه تلك في حال من التضرع واللهج بالدعاء حتى ظن أصحابه أنه قد صام يومه ذلك لما رأوا من انقطاعه للعبادة والدعاء فأرسلت إليه أم الفضل بقدح لبن وهو واقف على بعيره فشرب منه والناس ينظرون إليه، وكان في دعائه رافعاً يديه إلى صدره، كاستطعام المسكين منكسراً لربه - عز وجل - حتى إنه عندما اضطربت به راحلته فسقط خطامها تناوله بيد، وأبقى يده الأخرى مبسوطة يدعو بها.
وكان - صلى الله عليه وسلم - لهجاً بالثناء على الله تهليلاً وتحميداً وتلبية (لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد لك والنعمة، لك والملك لا شريك لك لبيك إله الحق) وكأنما جاشت أشواق الرسول - صلى الله عليه وسلم - واستشرف قرب الأجل فسمع عشية ذلك اليوم وهو يزيد في تلبيته (لبيك إن العيش عيش الآخرة)، وتقضَّت ساعات النهار ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حاله تلك، خشوع وخضوع ولهج بالدعاء والذكر، حتى إذا تناهى النهار دعا بأسامة بن زيد، ليكون ردفه، فتنادى الناس يدعون أسامة واشرَأبَّت أعناق الأعراب ينتظرون هذا الذي حظي بشرف ردف النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وظنوه رجلاً من كبار أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فما فجئهم إلا وشاب أسود أفطس أجعد يتوثب ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم يلتزمه من خلفه ليكون له - من بين أهل الموقف كلهم - شرف الارتداف مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: حدثاء العهد بالإسلام متعجبين: أهذا الذي حبسنا ابتغاءه! وكأنما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا الانتخاب والاختيار يعلن تحطيم الفوارق بين البشر، ويدفن تحت مواطئ راحلته النعرات الجاهلية، والفوارق الطبقية، والنزعات العنصرية، ليعلن بطريقة عملية أنه لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى.
فلما أذنت الشمس بالغروب أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بلال فقال: يا بلال استنصِت الناس، فأنصت الناس لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليفيض على قلوبهم البشرى بالفيض الغامر من رحمة الله وعفوه، قائلاً: أيها الناس أتاني جبريل آنفاً فأقرأني السلام من ربي، وقال: بشِّر أهل الموقف والمشعر أن الله قد غفر لهم وتحمل عنهم التبعات\"فقال عمر: يا رسول الله، هذه لنا خاصة؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: بل لكم ولمن بعدكم إلى يوم القيامة، فقال عمر: كثر خير الله وطاب.
فلما وجبت الشمس وغاب قرصها، أشار - صلى الله عليه وسلم - للناس قائلاً: \"ادفعوا على اسم الله\".
فدفع الناس معه، وهو - صلى الله عليه وسلم - في حطمة الناس وغمارهم، ليس له طريق خاص، وإنما هو - صلى الله عليه وسلم - مع الناس وهو إمام الناس، لا يدفع أحد أمامه، ولا يصد أحد من ورائه، وقد رفع يمينه المباركة يشير إليهم بسوطه قائلاً: (رويداً أيها الناس، السكينة السكينة، إن البر ليس بإيجاف الركاب)، وإذا سمع حطمة الناس خلفه وتدافعهم تطاول وأشار إليهم:\"السكينة السكينة\"، يقول ذلك وهو أول من فعله، فقد شنق راحلته وكبح زمامها، حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله من شدة كبحه لزمامها، وظل - صلى الله عليه وسلم - في مسيره ذلك عليه السكينة والجلال والوقار حتى وافى مزدلفة فصلى المغرب والعشاء جمع تأخير ثم هجع - صلى الله عليه وسلم - ليلته تلك إلى السحر، بعد يوم طويل حفيل بحلائل الأعمال، ونهار عامر بالعبادة والدعاء والذكر والتعليم والإرشاد والدلالة على الخير.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد