بسم الله الرحمن الرحيم
هو أبو عبدالله سلمان الفارسي، ويقال له سلمان ابن الإسلام، وسلمان الخير، ولد بأصبهان إحدى بلاد فارس، وكان قومه يمجدون النار ويعبدونها ويبنون لها المعابد، وفي سبيل ذلك ذهبت كل عقيدة وديانة سواها، وكان أبوه سادن النارº أي خادمها الذي يقوم بإيقادها، لا يتركها تخبو لحظة، تعظيمًا لها.
صفحة بيضاء!
في هذه البيئة التي ضلت الطريق نشأ سلمان وفي داخل نفسه ميل إلى الإيمان ونفور من الشرك، وتلك هي الفطرة التي شاء الحق- جل وعلا - أن يخلق الناس عليها: (فَأَقِم وَجهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيهَا لاَ تَبدِيلَ لِخَلقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لاَ يَعلَمُونَ) (الروم: 30).
وسلمان- رضي الله عنه- من الصنف النادر الذي لم تغلبه الموروثات البالية ولا التقاليد ولا العرف، لقد ترك عن طواعية ثراء أبيه وضياعه وقصوره، وهام على وجهه باحثًا عن زاد لروحه وغذاء لقلبه وعقله.
رحلة.. عجيبة!
أما رحلة سيدنا سلمان- رضي الله عنه- فقد ذكرتها كتب السيرة يقول- رضي الله عنه -: \"نشأت في أصبهان، وكان والدي كبيرًا للقرية، مرجعًا للناس، وكان شديد الشغف بي، حتى بلغ من شدة حبه لي أن حبسني في البيت، كما تحبس الجارية، ولقنني المجوسية، وبالغت في الاجتهاد والعبادة للنار، وكان لأبي ضيعة عظيمة بعثني إليها يومًا، وأمرني ببعض ما يريد، وأمرني أن لا ألبث هناك طويلاً، فلما كنت في الطريق مررت بكنيسة، فتسمعت إلى أصواتهم وهم يصلون، فدخلت عليهم لأنظر ما يصنعون، فأعجبتني صلاتهم وأدركت أن ما هم فيه خير من الدين الذي نحن عليه، فوالله ما برحتهم حتى غربت الشمس، وتركت ضيعة أبي فلم أصل إليها، وسألت القوم عن أصل دينهم، قالوا: \"بالشام\"، فلما رجعت إلى أبي وأخبرته بما رأيت ثار علي وجعل في رجلي قيدًا ليحول بيني وبين مبارحة البيت\".
إن قدر الله نافذ وأمره مدبر:
فها هو ذا سلمان يفر من بلاده ويترك الدنيا وما عليها، ويصل إلى الشام يبحث عن أفضل أهل هذا الدين، فدل على الأسقف في الكنيسة، فيدخل عليه ويعرض عليه أن يقوم بخدمته نظير أن يتعلم منه ويصلي معه، قال: \"فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها، ثم يأخذ لنفسه ولا يعطيها للمساكين، ففارقته إلى آخر ما رأيت أفضل ولا أزهد في الدنيا منه، فلما حضرته الوفاة طلبت منه أن يدلني على آخر أواصل معه الرحلة، فأرشدني إلى رجل بالموصل، فلما عشت معه وجدته خير رجل، فلم يلبث أن مات، وكان قد أمرني باللحاق بآخر في نصيبين فأقمت معه فوجدته على أمر صاحبه، ولما حضرته الوفاة قال لم يبق على أمرنا أحد آمرك أن تأتيه إلا رجلاً بعمورية\"، فلحق به سلمان، وما زال ينتقل من بلد إلى آخر حتى وصل إلى من قال له: \"يا بني، والله ما نعلم أحدًا بقي على أمرنا آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظلك زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب مهاجرًا إلى أرض بين حرتين بينهما نخل به علامات لا تخفى، يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل\".
تطلع إلى مهبط الوحي:
وقف سلمان على مشارف الجزيرة العربية، إن أمنيته انحصرت في قلب هذه الصحراء، فلابد من مواصلة الرحلة بحثًا عن الحقيقة، يقول: \"فسرت إلى أرض العرب حتى التقيت بنفر من كلب تجار ظلموني فباعوني لرجل يهودي عبدًا، فأقمت عنده في بني قريظة حتى بعث الله محمدًا- صلى الله عليه وسلم - وهاجر إلى المدينة، فوالله إني لفي رأس عذق لسيدي أعمل له وهو جالس تحت النخلة، إذ أقبل ابن عم له، فقال: \"يا فلان، قاتل الله بني قيلة (يقصد الأنصار)، والله إنهم الآن لمجتمعون بقباء على رجل قدم عليهم من مكة اليوم يزعم أنه نبي\".. قال سليمان: \"فلما سمعته أخذتني رعدة حتى ظننت أني سأسقط على سيدي فنزلت عن النخلة، وفي المساء تسللت ذاهبًا باحثًا عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فجئته وهو جالس في أصحابه فسلمت عليه وتحققت من أنه هو المبشر به، وكان نهاية المطاف أن من الله عليه بالإسلام وبصحبة النبي- صلى الله عليه وسلم -.
فقد نال سلمان- رضي الله عنه- ما تمناه بعد أن تخطى العقبات، وطال عمره في الإسلام وحسن عمله، وفي غزوة الخندق حين تألبت الأحزاب على الإسلام وأهله وأحاطوا بالمدينة من كل مكان، أشار سلمان بحفر الخندق، وكان من الأسباب التي كفلت النصر للمسلمين.
منزلته بين الصحابة:
لقد وقف الأنصار يوم الخندق يقولون: \"سلمان منا\"، فرد المهاجرون: \"بل سلمان منا\".. ثم أنصت الجميع لسيد الخلق- صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: \"سلمان منا آل البيت\"، وكان الإمام علي بن أبي طالب يلقبه \"بلقمان الحكيم\"، سئل عنه بعد موته فقال: \"ذاك امرؤ منا وإلينا أهل البيت.. من لكم بمثل لقمان الحكيم\".
وفي خلافة عمر حضر سلمان إلى المدينة زائرًا، فلما علم عمر بذلك جمع الصحابة وقال لهم: \"هيا بنا نخرج لاستقبال سلمان\".
كان متواضعًا يبغض الإمارة.. ولما سئل عن السبب أجاب: \"حلاوة رضاعها، ومرارة فطامها\".
قال لسعد بن أبي وقاص ينصحه: \"يا سعد، اذكر الله عند همك إذا هممت، وعند حكمك إذا حكمت، وعند يدك إذا قسمت\".
توفي في خلافة سيدنا عثمان، ولم يترك من الدنيا إلا متاعًا ضئيلاً، ومع ذلك كان يخاف أن يسأل عنه.
دخل سعد بن أبي وقاص يعوده فبكى، فقال له سعد: \"ما يبكيك يا أبا عبدالله؟ لقد توفي رسول الله وهو عنك راض\"، فأجاب: \"والله ما أبكي جزعًا من الموت، ولا حرصًا على الدنيا، ولكن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - عهد إلينا عهدًا، فقال: \"ليكن حظ أحدكم من الدنيا مثل الراكب\"، وهأنذا حولي هذه الدنيا، ولم يكن حوله إلا قربة للماء وإناء للطعام\".
أسوة...
إننا من وراء ألف وأربعمائة عام نحاول أن نتطلع إلى جيل الصحابة، إلى الجماعة المؤمنة المختارة لنرى حقيقة الإيمان والصدق والإخلاص.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد