لقاء مع فضيلة الشيخ الدكتور عبد الله المصلح من حديث الذكريات


 

بسم الله الرحمن الرحيم  

إذا كان لحديث الذكريات لذته الخاصة، فإن لذكريات العلماء والمربين المكان الأسمىº إذ تحوي الفائدة والإمتاع. وفضيلة الشيخ الدكتور عبد الله المصلح العالم الداعية المربي، صاحب القلب الكبير، والكلمة الطيبة، والجهد المبارك المتنوع، يأخذنا - من خلال هذا اللقاء - بأسلوبه الراقي في تطوافة سريعة على ذكرياته في الطفولة، والصبا، والشباب.

* لو حدثتمونا - حفظكم الله عن نشأتكم، وتعلّمكم.   

- اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.        

اسمي عبد الله بن عبد العزيز المصلح. نشأت وترعرعت في مدينة الرياض. بدأت تعليمي في مدارس تحفيظ القرآن القديمة التي يعرفها أهل الرياض باسم مدارس الشيخ \" محمد بن أحمد بن سنان \". ثم التحقت بالمدرسة المحمدية في عام 1377، وقطعت فيها مرحلة من الدراسة الابتدائية. ثم عدت كرة أخرى بعد أن تحولت الدراسة في مدرسة ابن سنان من المسجد إلى مدرسة تشرف عليها وزارة المعارف ابتداء، ثم صارت هي نواة مدارس تحفيظ القرآن المعروفة اليوم في المملكة العربية السعودية. وفيها تخرجت في المرحلة الابتدائية.          

وفي عام 1382 التحقت بمعهد إمام الدعوة العلمي. وعشت فيه سني المعهد على نظامه القديمº إذ كان هذا المعهد فيه مرحلة تسمى المرحلة التمهيدية، ولكني دخلت مباشرة في ما كان يسمى المرحلة الثانوية، وهي تنتظم وتشمل المرحلتين المتوسطة والثانوية اليوم، وبقيت فيه. وفي هذا المعهد عرفت مجموعة من خيرة العلماء الذين تأثرنا بهم واستفدنا منهم، ومنهم الشيخ حمد المنصورº الداعية رقيق القلب مرهف الحواس، الذي كان يؤم المسلمين في جامع المرقب. وكانت له خطبه المؤثرة، وكأنما كان يذكرنا بأيام ابن الجوزي عليه رحمة الله. وكذلك من أساتذتنا في المعهد الشيخ عبد الرؤوف الحناويº وهو عالم دمشقي صالح تقي. والشيخ صالح المصري، والشيخ الخريصي، ومجموعة من المشايخ الذين تلقينا عليهم العلم في معهد إمام الدعوة العلمي.  

• هل طلبتم العلم على أحد المشايخ خارج المعهد؟   

- كنت أحضر حلقات العلم التي كان يدرّس فيها شيخنا وشيخ مشايخنا الشيخ محمد بن إبراهيم، والشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم، وذلك في مسجد الشيخ محمد بن إبراهيم في دخنة، الذي كان بجوار المكتبة السعودية المعروفة في الرياض. ولكني كنت صغير السن فلم أتمكن من التلقي المباشر منهم، بمعنى القراءة عليهم والتلقي عنهم. ولكني كنت أحضر جلساتهم، ولا زال عالقا بذهني بعض التقريرات العلمية التي يقررها هؤلاء الأشياخ عليهم رحمة الله. كما قرأت - في مرحلة متأخرة على الشيخ عبد الله بن حميد - رحمه الله -، عندما كان يزورنا في مكتبة شيخ الإسلام ابن تيمية، التي افتتحها الشيخان عبد الرحمن الفريان وعبد الله الفنتوخ. كذلك قرأت على الشيخ القشعمي.         

 

• سنوات الجامعة من سني العمر المتميزة، فهل بقي منها شيء في ذكرياتكم؟

- أما سنوات الجامعة فلو أردت أن أطيل فيها الحديث لطال بحثهº لأنني بعد أن تخرجت في معهد إمام الدعوة التحقت بكلية الشريعة في الرياض ودرست السنة الأولى، وكان عميد الكلية - الذي كان يسمى تلك الأيام مديرا - هو الشيخ عبد الرحمن الدخيّل. ثم في السنة الثانية عينت الرئاسة العامة لإدارات الكليات والمعاهد العلمية الشيخ عبد الله بن إبراهيم الفنتوخ عميدا للكلية. وقد كان هذا التعيين، مع تعيين الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي من أحكم وأمهر القرارات التي اتخذها شيخنا مفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم عليه رحمة اللهº فهذا الرجلان من خيرة من عرفت في حياتي.          

وحين قدم الشيخ عبد الله الفنتوخ - وكان قد رأس إدارة معهد الأحساء العلمي، ومكث فيه سنين طويلة، وأظهر فيه كثيرا من مهاراته العلمية والدعوية - حين قدم حرص ضمن ما حرص عليه على تفعيل الأنشطة في الكلية، وقد أكرمني الله في تلك الفترة فكنت الأمين العام للأنشطة الثقافية والاجتماعية في الكلية. وفي تلك الفترة من حياتي التقيت صفوتين: صفوة من الأساتذة وصفوة من الطلاب.   

أما الأساتذة، فقد كان في تلك الفترة مجموعة من الأعلام العمالقةº من أمثال: الشيخ صالح العلي الناصر - رحمه الله -، والشيخ فالح المهدي - عليه رحمة الله -، والشيخ حمود العقلا - رحمه الله -، والشيخ صالح الفوزان - حفظه الله -، والدكتور عبد الله الزايد - حفظه الله -، والدكتور عبد العزيز السعيد - حفظه الله -، والشيخ مناع القطان - عليه رحمة الله -، وغيرهم من العلماء والمشايخ الذين لو أردت ذكرهم لربما تقاصرت الذاكرة عن حصر أسمائهم لكثرتها. وكان على رأس هؤلاء بلا شك فضيلة الشيخ عبد الله الفنتوخ في كلية الشريعة، وفضيلة الدكتور عبد الله التركي في كلية الشريعة.

أما بالنسبة للطلاب، فلو سرحت طرفك يمنة ويسرة لترى الوزراء، وأساتذة الجامعات لوجدت قسما منهمº فالدكتور علي النملة كان زميلي في الأنشطة الثقافية، وهو يذكر ذلك، والأستاذ حمد القاضي - رئيس تحرير المجلة العربية - كان زميلا لنا في تلك المرحلة، أما زميلي الذي كنت أجلس وإياه على كرسيين متجاورين طيلة أربعة سنوات فهو أخي معالي الشيخ عبد الله بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ وزير العدل.       

ومضت السنون ونحن نستحث الخطى ونسير في ركب الفضل وأهله، والدعوة وأهلها. وذكريات المرحلة الجامعية كثيرة لا أريد أن أطيل عليكم بها، ولكني سأتوقف عند واحدة من تلك الذكريات فقط، وهي ذكريات نوع من أنواع النشاط كنا نسميه \" ركن طالب يرتجل \". كنا قد نصبنا منبرا في حديقة كلية الشريعة، وفي أثناء الفسحة الكبرى نطلب من أحد الطلاب أن يصعد هذا المنبر ويرتجل كلمة يخاطب بها زملاءه، يحدثهم في قضية من القضايا الشرعية أو الفكرية أو الدعوية، ونحن نرصد محاسنه فنذكره بها ونشجعه عليها، ونرصد بعض أخطائه وملحوظاتنا عليه وننبهه إليها، ونسدده بقدر ما نستطيع. وكان معي في هذا نخبة من العلماء المتخصصين. وكان الطلاب إذا أرادوا أن يذهبوا إلى ذلك الركن يقولون - من باب الدعابة -: نحن ذاهبون إلى ركن طالب يرتجف!           

وهؤلاء الطلاب الذين كانوا يشاركون في ذلك النشاط هم الذين أصبحوا اليوم خطباء، وعلماء وفقهاء نراهم يمنة ويسرة. سلوا الدكتور إبراهيم الجوير عن تلك الأيام فسيحدثكم عنها، وسلوا الدكتور علي النملة فسيحدثكم عنها، وسلوا الدكتور مسفر الدميني فسيحدثكم عنها، وأنا واثق أنهم - وغيرهم من المشاركين في الأنشطة - لا تزال تلك الذكريات عالقة في أذهانهم، وإن كنت لم أر بعضهم منذ سنوات، فلله أيامنا تلك التي جمعتنا على مائدة الحب، وتفرقت بنا الأيامº فكل ضرب شعبا من الشعاب أو سلك واديا من الوديان والمنتهى إلى الله - عز وجل -.            

• ماذا كان أول عمل مارستموه - حفظكم الله - بعد تخرجكم؟    

- أول عمل عملته بعد تخرّجي هو أنني عينت معيدا في كلية الشريعة، وكنت ألقي محاضراتي في الكلية، وأواصل دراستي في المعهد العالي للقضاء لتحضير الماجستير. وكانت الدراسة في تلك المرحلة ثلاث سنوات دراسية ثم يبدأ الطالب بعدها في كتابة أطروحته للماجستير.   

 

• ماذا كان عنوان أطروحتكم للماجستير، وللدكتوراه؟

- كان عنوانها في الماجستير: \" الملكية الخاصة في الشريعة الإسلامية ومقارنتها بالاتجاهات المعاصرة \". وفيها أعطيت تعريفا عاما للملك من حيث: تاريخه، ونشأته، ومصادره الشرعية وغير الشرعية، وطبيعة الملكية، وخصائصها، وما يترتب على استعمالها واستثمارها.  

أما أطروحة الدكتوراه فعنوانها: \" قيود الملكية الخاصة في الشريعة الإسلامية \". وهي دراسة عميقة مركزة لإحدى جزئيات موضوعي في أطروحة الماجستير.         

 

• بعد حصولكم على الماجستير هل بقيتم في كلية الشريعة بالرياض؟   

- بعد حصولي على الماجستير عينت محاضرا في الكلية، ثم عزمت جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية على أن تفتتح فرعا لها في المنطقة الجنوبية في أبها. وانتدبت لهذه المهمة، وذهبت إلى أبها في 25 / رجب / 1396. وبعون من الله - عز وجل -، ثم بتعاون المسؤولين، وفي مقدمتهم صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل، وقضاة المنطقة، وعلمائها، يسر الله لنا أن قمنا بافتتاح كلية الشريعة واللغة العربية. وقد بدأتها ب125 طالبا، و16 أستاذا. وكان ما كان من ظروف النشأة الأولى للكلية، ومصاعب التكوينº إذ تحتاج جهدا مضاعفا، وعملا متواصلا. وقد يسر الله - عز وجل - وأعان. ولم أتركها إلا وقد صار عدد طلابها أكثر من 10000، والذين تخرجوا منها قريب من هذا العدد.

 

* قمتم حفظكم الله بافتتاح كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بالأحساء. فمتى كان ذلك؟ وكيف؟   

- نظرا لخبرتي في إنشاء الكلياتº حيث قمت بإنشاء كلية الشريعة وأصول الدين في أبها، وكلية اللغة العربية والعلوم الاجتماعية في أبها أيضا، عند ذلك انتدبتني جامعة الإمام ممثلة في مديرها معالي الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، ووكيله الدكتور محمد العجلان، لافتتاح كلية الشريعة والدراسات الإسلامية في الأحساء، وكان ذلك عام 1402، فجئت الأحساء، وكان أمامي أن أوجد أولا تنسيقا علميا وذهنيا بين هذه الكلية وجامعة الملك فيصل، وأن نوجد لها في حس علماء المنطقةº فإن الأحساء بلد علمي معروف أنه من المناطق التي تهتم أسره بالعلم والعلماء، وله تاريخه المشرق في هذا الجانب، وإذا تذكرنا تلك الأسر فلا بد أن نتذكر أسرة العفالق التي درس عليها إمام دعوتنا الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكذلك أسرة آل مبارك، بما عرف عنهم من اهتمامهم بالعلم والعلماء والأدباء. كذلك أسرة الشعيبي، والعمير، والملا، وكثير من الأسر التي كان لها إسهامات معروفة. وأنت ترى ظاهرة من أجمل الظواهر، وهي أنك لا تزال ترى الكتب الفقهية التي تمثل المذهب الشافعي، والمذهب الحنفي، والمذهب المالكي، والمذهب الحنبلي، تراها موجودة حية في هذه الأسر، يتناقلها الأبناء عن الآباء، ويتتلمذون عليها.

ولكن كل هذه القدرات كان لا بد لها من أن توظف في هيئة علمية تجمع الجميع وتتلقف هذه الراية في مجمع واحد، وتلم شملها، وتجمع إلفتها، وتوحدها في مؤسسة شرعية واحدةº فكانت كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بالأحساء التي أكرمني الله - عز وجل - بتأسيسها.           

 

• وكم بقيتم في الأحساء؟

- حوالي الستة أشهر، ولكني لم أغادرها إلا بعد أن رتبنا مكانها، ومناهجها، وأساتذتها، وطلابها. فلم يأت إليها عميدها إلا وقد أصبحت الدراسة فيها تسير على أفضل حال. ومن ثم جاء أخي الدكتور عبد الله الطيار وتلقّف هذه الراية، وقام بهذه المسؤولية، وهو خير من يقوم بهذا العمل الصالح المبارك.

ويطول الحديث، وتتوالد الذكريات من الذكريات، ونأخذ أنفسنا من بين يدي الشيخ الفاضل، على أمل أن تتاح لنا فرصة أخرى للاستزادة من معين علمه وخبرته.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply