حفظ الشيخ \"محمد الصالح\" - رحمه الله - القراّن الكريم في سن مبكرة وتعلم أصول الدين والقواعد والحساب والعلوم على والده الشيخ سليمان الذي توفي عندما كان عمر الشيخ محمد خمسة عشر عاماً، فقامت عمته رقية - رحمها الله - برعايته حتى استكمال تعليمه في القدس في المدرسة الجاولية والمدرسة السلطانية (مكتب سلطاني - العهد العثماني).
أجاد اللغة التركية، وكانت هذه المدرسة بمستواها أعلى مدرسة رسمية في ذاك الوقت. رتل القرآن الكريم وبرع في التجويد والعلوم الدينية. وهب صوتاً ندياً كأنه من تلامذة مؤذن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بلال، كما وصفه المؤرخ والكاتب \"عجاج نويهض\" في كتابه رجال من فلسطين، وقال فيه إن من مزاياه أنه علم أفراد أسرته جميعاً.
ولادته ونسبه:
ولد الشيخ محمد الصالح عام 1284هـ وتوفي في 23 من ذي الحجة 1358هـ الموافق 2 من شباط 1940م، هو الشيخ \"محمد سعيد\" ابن الشيخ سليمان ابن الشيخ \"محمد صالح\" ابن الشيخ سليمان العالم الأزهري \"أبو الهدى\" ابن الشيخ يونس ابن الشيخ داوود الملقب \"بأبي الوفا\". لقب جده الثاني بالصالح عرف وأجداده بالصلاح، فحملت العائلة لقب الصالح وهي عائلة مقدسية.
ترحاله:
رحل إلى الديار الحجازية بتاريخ 18 رمضان 1311هـ وكان عمره 26عاما، فمكث بين مكة والمدينة فترة طويلة تعرف خلالها إلى مدرسيها وعلمائها وأخذ الكثير عنهم، وبعد أدائه فريضة الحج عاد إلى موطنه. وبتاريخ 9 ربيع الأول عام 1323هـ رحل قاصداً الأستانة وروسيا البيضاء عن طريق الأستانة (القسطنطينية) وقابل وزير الحربية العثماني في عصره (أنور باشا) وشرح له ما تؤول إليه أمور المدارس في فلسطين والقدس تحديداً واستطاع أن يحصل على القبول لدى الوالي العثماني وحصل على دعمه.
مكث بترحاله نحو ستة أشهر، زار خلالها أشهر المدارس الروسية ومدارس (البلقان) وبلاد التركستان وأزبكستان وبخارى وتمكن من الاطلاع والمعرفة وجلب ما فيه الفائدة التعليمية من مناهج التعليم كالكتب والمخطوطات والوسائل العلمية التعليمية وضمها في منهاج مدرسته.
رسالته في التعليم:
بعد عودته من الأستانة (القسطنطينية) صدر بخصوصه أمر (فارمان عثماني) توجد نسخة منه لدى أحفاده ونسخة أخرى في متحف التراث في أنطاكيا، وهو أمر سلطاني، بتعينه إماماً ومدرساً لدار الحكومة في العهد العثماني لمدينة القدس والخليل، مما زاد من طموحه ومن عزيمته، فكان يرى كثرة المدارس الأجنبية (التبشيرية) في موطنه وتراجع دور المدارس الحكومية، فأخذ يخطط لتأسيس مدرسة تتغلب على ظاهرة التراجع المتفشية كي تصبح مركزاً تعليميا إسلاميا عربيا لسد حاجة المواطنين، والحفاظ على الهوية العربية للوطن والفكر، وبالفعل قام بتأسيس مدرسة وطنية تسد الفراغ التعليمي السائد، فأقدم بكل إيمان وثقة على افتتاح مدرسة \"روضة الفيحاء\" في عهد الخليفة العثماني عبد الحميد، وعملت هذه المدرسة طويلاً وتخرج منها العديد من التلاميذ من شتى مناطق فلسطين والوطن العربي، وحرص على تعزيز مناهج العربية بشمولية فكان طلابه يحضرون كتب الشيخ \"مصطفى الغلايني\" في النحو والقواعد والبلاغة من بيروت، ومناهج مؤلفات الشيخ \"محيي الدين الخياط\" في التاريخ وغيرها من المناهج في الفقه والتوحيد والتجويد والحساب والهندسة، والعلوم في الفيزياء والكيمياء والجغرافيا وعلم الأرض، قادمة من مطابع الأزهر وغيرها من مطابع مصر باللغة العربية، عكس ما كان معمول به إبان الحكم العثماني حينما كانت مدارس الحكومة العثمانية تفرض تدريس العلوم باللغة التركية(العثمانية).
وفي عام 1322هـ قام بتأسيس كلية روضة المعارف الوطنية بالتعاون مع المجلس الإسلامي الأعلى بالقدس فأصبحت مَعلماً يحتذى به، فأدارها ووضع نظام للتعليم خاص بها وأنشأ فريق الكشافة وشجعهم وأحيا فيهم روح الوطنية والانتماء وجعل منهم فرق كشافة مختلفة المسميات والمهام والتي كانت تشترك في المواكب الوطنية والحفلات السنوية، وأضاف آلات النشاطات الرياضية والآلات لمختبر العلوم.
وفي مطلع الانتداب البريطاني تذمر من مدرسته الحاكمُ العسكري البريطاني بسبب ضابط البوليس الإنجليزي \"سيكرست\" وهو شخص عرف ببغضه للعرب وعنصريته تجاههم، فقدم الأخير تقريراً لإدارته يشكو فيه الكشافة والطلاب لدى كلية روضة المعارف الوطنية كونهم يستخدمون العصي على أشكال البنادق في طوابيرهم وإستعراضاتهم الكشفية، السبب الذي يثير روح التحدي وإثبات الوجود، وهو ما كان الشيخ يهدف إليه ويهتم بتنميته لدى نفوس الشباب العربي في وطنهم.
وممن آزره من زملائه نذكر: عبد اللطيف الحسيني وإسحاق الحسيني والحاج أمين الحسيني والشيخ حسن أبو السعود - رحمهم الله - جميعاً. وعلى رأس من تتلمذوا وتخرجوا من مدرسته، نذكر الشهيد عبد القادر الحسيني شهيد القسطل، الذي حصل على شهادة تعليمه الثانوي من مدرسة كلية روضة المعارف الوطنية، ثم التحق بعد ذلك بالجامعة الأمريكية ببيروت ومن بعدها بالجامعة الأمريكية بالقاهرة (قسم الكيمياء)، وحرص على ألا يظهر نشاطه أو اعتراضه للتبشير والاستبداد الواقع حتى يحصل على شهادته.
وكذلك الحاج أمين الحسيني الذي درس بها أيضا وقال فيها: تعتبر هذه المدرسة بؤرة حركة النشاط العربي الفلسطيني، وكانت هذه المدرسة، ومدرسة النجاح في نابلس التي تأسست عام1918م، من أعظم المدارس الفلسطينية في تعليم أبنائها الحركة القومية العربية والحركة الإسلامية، وقد دعمها الحاج أمين عندما أصبح مفتيا للقدس فيما بعد. وقال حيدر الحسيني وهو ابن المفتي كامل الحسيني: تأسست مدرسة روضة المعارف عام 1906 م والذي أسسها هو الشيخ محمد الصالح، وأغلقت هذه المدرسة في الحرب العالمية الأولى، وعندما أعيد افتتاحها درس بها سعيد، وكامل الحسيني، وعلي جار الله، ورجائي النمري وسليمان الصالح وغيرهم. ودرس فيها أيضا الكثير من الطلبة الفقراء والأيتامº لعدم تمكنهم الانخراط في المدارس الخاصة وأصبحت أكثر شهرة من المدارس الخاصة.
وقال فيه المؤرخ في الجامعة الأمريكية ببيروت الدكتور \"نيقولا زيادة\": كان الرجل يبعث روح الاحترام في نفس كل من يراه. وذكره في مقال صحفي وقال: به هيبة تفرض النظام يجعل طلابه يجتهدون ويتنافسون. وقال في مدرسته: هي مدرسة وطنية ثانوية خاصة، كانت ليلية نهارية (قسم داخلي)، وروح المدرسة عربية محض، وكانت ترمي إلى إنهاض العرب ليستعيدوا مجدهم الغابر وعزمهم المفقود، وقد أنشأها في العهد العثماني الشيخ محمد الصالح، وهي متمشية في تعليمها على الأساليب العصرية الحديثةº ولذلك فإننا لا نعجب إذا رأيناها من أحسن المدارس في فلسطين، ولا ريب في أن المدارس الوطنية هي دليل الحياة في الأمة\".
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد