أبو إسحاق الحويني حجازي محمد شريف يروي قصة هدايته إلى العقيدة السلفية


  

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالي من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالي، فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.

 

{يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مٌّسلِمُونَ} [آل عمران: 102].

 

{يَا أَيٌّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفسٍ, وَاحِدَةٍ, وَخَلَقَ مِنهَا زَوجَهَا وَبَثَّ مِنهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُوا اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيكُم رَقِيبًا} [النساء: 1].

 

{يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَولًا سَدِيدًا يُصلِح لَكُم أَعمَالَكُم وَيَغفِر لَكُم ذُنُوبَكُم وَمَن يُطِع اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَد فَازَ فَوزًا عَظِيمً} [الأحزاب: 70، 71]

 

أما بعـــــد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله - تعالى -، وأحسن الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.

 

((فالحمد لله الذي لا يؤدَّى شكر نعمةٍ, من نعمه، إلا بنعمة منه توجب على مؤدى ماضي نعمه بأدائها: نعمةً حادثة يجب عليه شكره بها، ولا يبلغ الواصفون كُنه َ عظمته، الذي هو كما وصف نفسه، وفوق ما يصفُهُ به خلقُهُ، أحمده حمدا كما ينبغي لكرم وجهه - عز وجل -،  

وأستعينه استعانة من لا حول له ولا قوة إلا به، وا ستهديه بهداه الذي لا يضل من أنعم به عليه، وأستغفره لما أسلفت وأخرت، استغفار من يُقرٌّ بعبوديته، ويعلم أنه لا يغفر ذنبه، ولا ينجيه منه إلا هو، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمد عبده ورسوله.

 

فنسأل الله المبتدئَ لنا بنعمة قبل استحقاقها، المديمها علينا مع تقصيرنا في الإتيان عليما أوجب به من شكره بها، الجاعلنا في خير أمة أخرجت للناس، أن يرزقنا فهما في كتابه، ثم سنة نبيه، وقولا وعملا يؤدي به عنا حقه، ويوجب لنا نافلة مزيدة)) (1).

 

فإن الله جل ثناؤه لما خلق الناس، ركز في فطرهم محبة الإحسان، والخضوع له، كرِهَ لهم الكبر والعلو في الأرض بغير الحق.

 

فقال جل ثناؤه: {هَل جَزَاء الإِحسَانِ إِلَّا الإِحسَانُ} [الرحمن: 60].

 

يعني لا ينبغي أن يكون الإحسان إلا من حنسه، فليس لمن أحسن العمل في الدنيا إلا الإحسان إليه غي الآخرة.

 

و ما أجمل فول القائل: ليس هناك حمل أثقل من البر، من برًكَ فقد أوثقك، ومن جفاك فقد أطلقك. فإن أردت استرقاق إنسان، فأحسن إليه، فيكون ذلك مانعا إياه أن يوصل السيئة إليك.

 

ومما يدلٌّك علي صحة ما أقول من أن محبة الإحسان، والخضوع لأهله مركوزٌ في فطر الناس، حتى الكافر، ما أخرجه البخاري (5/329-333)، وأحمد (4/324، 329) وغيرهما من حديث المسور بن مخرمة - رضي الله عنه -، وذكر حديثه في ((صلح الحديبية)) وفيه: ((فَقَامَ عُروَةُ بنُ مَسعُودٍ, الثقفي، فَقَالَ: أَي قَومِ أَلَستُم بِالوَالِدِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: أَوَلَستُ بِالوَلَدِ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَهَل تَتَّهِمُونِي؟ قَالُوا: لا، قَالَ: أَلَستُم تَعلَمُونَ أَنِّي استَنفَرتُ أَهلَ عُكَاظَ، فَلَمَّا عَلَيَّ جِئتُكُم بِأَهلِي وَوَلَدِي وَمَن أَطَاعَنِي؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَإِنَّ هَذَا قَد عَرَضَ لَكُم خُطَّةَ رُشدٍ,، اقبَلُوهَا وَدَعُونِي آتِهِ. قَالُوا: ائتِهِ. فَأَتَاهُ، فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ النَّبِيٌّ - صلى الله عليه وسلم - نَحوًا مِن قَولِهِ لِبُدَيلٍ, (2)، فَقَالَ عُروَةُ عِندَ ذَلِكَ: أَي مُحَمَّدُ! أَرَأَيتَ إِنِ استَأصَلتَ أَمرَ قَومِكَ، هَل سَمِعتَ بِأَحَدٍ, مِنَ العَرَبِ اجتَاحَ أَهلَهُ قَبلَكَ؟ وَإِن تَكُنِ الأُخرَى فَإِنِّي - وَاللَّهِ! - لا أرَى وُجُوهًا، وَإِنِّي لأَرَى أَشَوابًا- وفي رواية: أوباشا - مِنَ النَّاسِ، خَلِيقًا أَن يَفِرٌّوا وَيَدَعُوكَ.

 

فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكرٍ, - رضي الله عنه -: امصُص بَظرِ اللاتِ، أَنَحنُ نَفِرٌّ وَنَدَعُهُ؟

 

فَقَالَ عروة: مَن ذَا؟

 

قَالُوا: أَبُو بَكرٍ,!

 

قَالَ: أَمَا وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ! لَولا يَدٌ كَانَت لَكَ عِندِي لَم أَجزِكَ بِهَا لأَجَبتُكَ.. الحديث)).

 

و أخرج بعضه: أبو داوود (2765)، والنسائي في ((الكبرى)). كما في ((أطراف المزي)) (8/383). وغيرهما

 

فانظر يرحمك الله من مُنصف قول عروة لأبي بكر، فما منعه من الرد عليه وقد بالغ في عيب آلهتهم، إلا أنه كان أسير الإحسان المتقدم من أبي بكر له.

 

وقد ورد في رواية ابن إسحاق عن الزهري في هذا الحديث أن عروة قال لأبي بكر: ((لولا يد لم أجزك بها، ولكن هذه بها)) كأنه قال له: هذه الإساءة منك إلي آلهتنا قد استوفيت بها جميلك السابق عندي، فلم يبق لك حسنة تمنعني من الرد فى قابل إذا أسأت إلىَّ.

 

وأما من جفاك، وأساء إليك فما استودع يداً تمنعه من رد السيئة بمثلها وزيادة، لذلك كان طليقا لا يوقفه شئ.

 

وإذ الأمر كذلك، والوفاء سجيةٌ وخُلُقٌ، فما أعلم أحد بعد والديً له عليً يد مثل شيخنا الشيخ الإمام، حسنة الأيام، وريحانة بلاد الشام، أبى عبد الرحمن محمد ناصر (3) الدين الألباني، ألبسه الله حُلل السعادة وكافأه بالحسنى وزيادة، إذ الإطلاع علي كتبه كان فاتحة الخير العميم لي، وأبدأ الحديث أسوقه من أوًلِهِ.

 

ففي صيف عام (1395هـ) كنت أصلي الجمعة في مسجد ((عين الحياة))، وكان إمام إذ ذاك، الشيخ عبد الحميد كشك (4) - حفظه الله تعالى -، وكان تجار الكتب يعرضون ألواناً شتى من الكتب الدينية أمام المسجد، فكنت أطوف عليهم وأنتقي ما يعجبني عنوانه، فوقعت عيني يوما علي كتاب عنوانه ((صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - من التكبير إلى التسليم كأنك تراها)). تأليف محمد ناصر الدين الألباني. فراقني اسمه. فتناولته بيدي، وقلبت صفحاته، ثم أرجعته إلي مكانهº لأنه كان باهظ الثمن لمثلي، وكان إذ ذاك بثلاثين قرشا!

 

ومضيت أتجول بين بائعي الكتب، فوقفت علي كتاب لطيف الحجم بعنوان (تلخيص صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -)). ففرحت به فرحة طاغية، ولم تردد في شرائه وكان ثمنه خمسة قروش، ولم أشتري غيره، لأنه أتي علي كل ما في جيبي! ومن فرحتي واغتباطي به قرأته وأنا أمشى في طريقي إلي مسكني مع خطورة هذا المسلك علي من يمشي في شوارع القاهرة، ولما أويت إلي غرفتي تصفحت الكتاب بإمعان، فوجدته يدق بعنف ما ورثته من الصلاة عن آبائي إذ أن كثيرا من هيئتها لا يمت إلي السنة بصلة، فندمت ندامة الكُسعِيِّ (5) اننى لم أشتر الأصل، وظللت أحلم بيوم الجمعة المقبل وأدبِّر ثمن الكتاب طوال الأسبوع -، وأنا خائفٌ وجلٌ أن لا أجده عند البائع، وكنت أدعو الله أن يطيل في عمري حتى أقراه، ومَنَّ الله علىَّ بشرائه فلما تصفحتهº ألقيت الألواح، ولاح لي المصباح ُ من الصباح! وهزَّنى هزَّا عنيفاً، لكنه كان لطيفاًº مقدمته الرائعة الماتعة في وجوب إتباع السٌّنة، ونبذ ما يخالفها تعظيماً لصاحبها - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ نقوله الوافيه عن ائمة المسلمين، إذ تبرأوا من مخالفة السنة أحياء وأمواتا، فرضي الله عنهم جميعا، وحشرنا وإياهم مع الصادق المصدوق بأبي هو وأمي وقد لفت أنتباهى جدا حواشي الكتاب مع جهلي التام آنذاك بكتب السنة المشهورة فضلا عن غيرها من المسانيد والمعاجم والمشيخات وكتب التواريخ، بل لقد ظللت فترة في مطلع حياتي لا أدرى طالت أم قصرت أظن أن البخاريٌّ صحابيٌّ، لكثرة ترضى الناس عنه.

 

وعلى الرغم من عدم فهمي لما فى حواشي الكتاب، إلا اننى أحسستُ بفحولة وجزالة لم أعهدها فى كل ما قرأتُهُ، فملك الكتاب على حواسىّ، وصرت فى كلِّ جمعة أبحث عن مؤلفات الشيخ ناصر الدين الألباني، ولم تكن مشهورةً عندنا في ذلك الوقت، لكساد الحركة العلمية، فوقفت بعد شهرٍ, تقريبا على جزء من \" سلسلة الأحاديث الضعيفة \" المائة حديث الأولى، فاشتريته في الجمعة التي تليها لا تمكن من تدبير ثمنه.

 

أمَّا هذا الكتاب فكان قاسمة الظهر التي لا شوى لها!، وهو الذي رغبني في دراسة علوم الحديث.

 

قلتُ: إنَّ الحركة العلمية كانت هامدةً في ذلك الوقت، وكل من تصدَّر لوعظ الناس فهو عندنا عالمٌ، فما بالك بأشهر الواعظين عندنا في ذلك الزمان - وهو الشيخ كشك الذي كان له بالغ التأثير في الناس بحسن وعظه، ومتانة لفظه، وجرأته في الصدع بالحق، لم ينجُ منحرفٌ من نقدهِ مهما كان منصبه، وكان فى صوته مع جزالته نبرة حُزن، ينتزع بها الدمع من المآقي انتزاعاً، حتى من غلاظ الأكباد وقساة القلوب، فكان هذا الشيخ العالم الأول والأخير عندي، لا أجاوز قوله. وقد انتفعت به كثيرا في بداية حياتي، كما انتفع به خلقٌ، لكنني لما طالعت \" السلسلة الضعيفة \" وجدت أن كثيراً من الأحاديث التي يحتج بها الشيخ منها، حتى خيل إِلىَّ أنه يحضر مادَّة خطبه من هذه \" السلسلة \"، وسبب ذلك فيما أرى أن الشيخ حفظ أحاديثه من كتاب \" إحياء علوم الدين \" لأبى حامد الغزالي، وكان الغزالي - رحمه الله - مزجى البضاعة فى الحديث، تام الفقر فى هذا الباب!

 

فعكَّر علىَّ كتاب الشيخ ما كنت أجدهُ من المتعة في سماع خطب الشيخ كشك حتى كان يومٌ، فذكر الشيخ على المنبر حديثا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله يتجلى يوم القيامة للناس عامة، ويتجلى لأبى بكر الصديق خاصة (6). فلأول مرة أشك فى حديث أسمعه، وأسأل نفسي: ترى! هل هو صحيح أم لا؟ ومع شكى هذا فقد انفعلت له وتأثرت به بسبب صراخ الجماهير من حولي، استحساناً وإعجاباً!.

 

ولما رجعت إلى منزلي، قلبت \" السلسلة الضعيفة \" حديثا حديثا أبحث عن الحديث الذي ذكره الشيخ كشك فلم أجده فواصلت بحثي، فبينما كنت فى بعض المكتبات وقفت على كتاب \" المنار المنيف \" لابن القيم - رحمه الله - بتحقيق الشيخ محمد حامد الفقي - رحمه الله - فوجدتُ الحديث فيه، وقد حكمَ الإمامُ عليهِ بالوضع فيما أذكرُ، فعزمت على إبلاغ الشيخ بذلك نصيحة لله - تعالى -، وقد كان رسخ عندي أن التحذير من هذه الأحاديث واجبٌ أكيدٌ.

 

وكان للشيخ جلساتٌ في مسجده بين المغرب والعشاء، فذهبتُ في وقتٍ, مبكرٍ, لألحق بالصف الأول حتى أتمكن من لقائه في أوائل الناس، فلما صلينا جلس الشيخُ على كرسيه في قبلة المسجد، وكان له عادة غريبةٌ وهي أنه يمدٌّ يده، فيقفُ الناس طابوراً طويلاً، فيصافحونه، ويقبِّلون يده وجبهته، ويُسٌّر إليه كل واحد بما يريد، وكنت العاشرَ في هذا الطابور، فقلت في نفسي: وما عاشر عشرة من الشيخ ببعيد!

 

فلما جاء دوري، قبَّلتُ يده وجبهته، وقلت له: إنَّ الحديث الذي ذكرتموه في الجمعة الماضية وسميتُه قال عنه ابن القيم أنه موضوع.

 

فقال لى: بل هو صحيح، فلما أعدت عليه القول، قال كلاماً لا أضبطه الآن لكن معناه أن ابن القيم لم يُصِب في حكمه هذا، ولم يكن هناك وقت للمجادلة، لأن من فى الطابور ينتظرون دورهم!

 

ومما حزَّ فى نفسي أن الشيخ سألني عن العلة فى وضع الحديث فلم يكن عندي جواب، فقال لي: يا بني! تعلم قبل أن تعترض، فمشيت من أمامه مستخذياًº كأنما ديكٌ نقرني!

 

وخرجت من مسجد ((عين الحياة)) ولدىَّ من الرغبة في دراسة علم الحديث ما يجلٌّ عن تسطير وصفه بناني، ويضيق عطني، ويكٌّل عن نعته لساني، وكان هذا العلم آنذاك شديد الغربة، ولست أبالغ إذا قلت: إنه كان أغرب من فرس بهماء بغلس!!

 

وطفقت اسأل كل من ألقاه من إخواني عن أحد من الشيوخ يشرح هذا العلم، أو يدلني عليه، فأشار على بعض إخواني وكان طالبا في كلية الهندسة أن أحضر مجالس الشيخ محمد نجيب المطيعى - رحمه الله - تعالى - وكان شيخنا - رحمه الله - يلقى دروسه فى (بيت طلبة ماليزيا) بالقرب من ميدان (عبده باشا) ناحية العباسية، وكان يشرح أربع كتب، وهي (صحيح البخاري) و(المجموع) للنووى، و(الأشباه والنظائر) للسيوطي، (إحياء علوم الدين) للغزالي، فوجدت في هذه المجالس ضالتي المنشودة، ودرتي المفقودة، فلزمته نحو أربع سنوات حتى توقفت دروسه بعد الاعتقالات الجماعية التي أمر بها أنور السادات وأنتهي الأمر بمقتله في حادث المنصة الشهير، ورحل الشيخ - رحمه الله - إلى السودان، وظل هناك حتى توفى - رحمه الله - بالمدينة ودفن في البقيع كما قيل لي. - رحمه الله - تعالي. 0

 

و أتاحت لي هذه المجالس دراسة نبذ كثيرة من علمي أصول الحديث وأصول الفقه، ووالله! لا أشطط إذا قلت: إنني أبصرت بعد العمى لما درست هذين العلمين الجليلين، وأقرر هنا أن الجاهل بهذين العلمين لا يكون عالما مهما حفظ من كتب الفروع، لأن تقرير الحق في موارد النزاع لا يكون الا بهما، فعلم الحديث يصحح لك الدليل، وعلم أصول الفقه يسدد لك الفهم، فهما كجناحي الطائر.

 

ولم يكدر علي متعتي بدروس الشيخ المطيعي - رحمه الله - إلا حطه علي الشيخ الألباني صاحب الفضل على بعد الله - عز وجل -، وكان ذلك بعد حادثة طويلة  ملخصها: أن شيخنا المطيعى - رحمه الله - كان يتكلم عن قضاء الفوائت، وأن من لم يصل ولو لسنوات، فيجب عليه القضاء، وأطال البحث في ذلك. فقلت له ولم يكن عندي علم بمن يقول بغير هذا المذهب من القدماء قلت: إن الشيخ الألباني يقول: ليس هناك دليل على وجوب القضاء. فقال لى بلهجة. علمت بعد ذلك بزمانٍ, انه كان يقولها تهكماً: من الألباني؟ فقلت له: أحد علماء الحديث.

 

قال: لعله أحد أصحابنا الشافعية؟

 

قلت: لا أدري، لكنه معاصر لنا، وقد علمت انه لا يزال حيا.

 

فقال لي حينئذٍ,: دعك من المعاصرين.

 

وكانت هذه أول مرة أسمعه يتكلم عن الألباني، ثمَّ توالي السيلُ.

 

ثم جاء الشيخ الألباني إلى مصر فى حدود سنه (1396هـ) أو بعدها بقليل، وألقى محاضرة في المركز العام لجماعة أنصار السنة في عابدين، وكانت محاضرته عن تخصيص السنة لعام القرآن، وتقييدها لمطلقه، وذكر من أمثلة ذلك الذهب المحلَّق.

ولم يكن عندي علم بمحاضرة الشيخ ولا وجوده، فرحل ولم أره، وكان إحدى أمانىَّ الكبار أن ألتقي به، ولم يتحقق لي ذلك إلاَّ بعد زمان طويل وذلك فى أول المحرم سنة (1407 هـ) وكان قد طبع لي بعض الكتب منها \" فصل الخطاب بنقد المغنى عن الحفظ والكتاب \" وكنت فى هذه الفترة أتتبع كل أخبار الشيخ فكانت تصلنى أخبارٌ عن شدته على الطلبة وقسوته عليهم، واعتذاره عن التدريس بسبب ضيق الوقت وإرهاق الدولة له، فكدتُ أفقدُ الأملُ حتى قيَّض الله لي أن ألتقي بصهر الشيخ الأخ نظام سكجّها فى فندق بحيّ الحسين بالقاهرة، فسألتُه عن الشيخ وإمكان التتلمُذ عليه، فأخبرني أن ذلك متعذرٌ، ولكن تعال وجرِّب!

فكان من خبري أن سطَّرتُ رسالة للشيخ قلتُ له فيها: إنني علمتُ أنكم تطردون الطلبة عن بابكم، ولدىَّ أكثر من مائتى سؤال فى علل الأحاديث ومعانيها، ولا أقنع إلاَّ بجوابكم دون غيركم، فسأجمع همتي وأسافر إليكم فلا تطردونا عن بابكم، أو كلاماًَ نحو هذا.

 

و أخبرني الأخ نظامٌ بعد ذلك أن الشيخ تألمَّ لما قرأ حكاية \" الطرد \" هذه.

 

وسافرت إلى الشيخ فى أول المحرم سنة (1407 هـ)، واستخرجتُ تصريح العمل الذي يُخوِّل لي السفر بأعجوبةٍ, عجيبةٍ,، وأُمضيت ثلاثة أيامٍ, فى الطريق كان هواني فيها شديداً، ومع ذلك لم أكترث له، لما كان يحدوني من الأمل الكبير في لقاء الشيخ.

 

ولما نزلت عمَّان استقبلني الأخ الكريم أبو الفداء سمير الزهيري جزاه الله خيرا، إذ أعانني في غربتي، وآواني في داره، وبعد الوصل بقليلٍ,، كلَّمنا الشيخ بالهاتف، فرحَّب بي غاية الترحيب، وقال لي: حللت أهلاً ونزلت سهلاً، ولم أصدق أذني!، فأنا ذاهبٌ إليه وقد هيأت نفسي تماماً على الرضا بالطرد، إذا فعل الشيخ ذلك.

 

وقد بدأني بالسلام، فرددتُ - عليه السلام - بمثل ما قال. فقال لي: ما أحسنت الردَّ! فقلتُ: لما يا شيخنا؟

 

فقال لي: اجعل هذا بحثاً بيني وبينك إذا التقينا غداً!

 

و ظللتُ ليلتى أُُفكر فى هذا الأمرº ترى: ما وجهُ إساءتي الردَّ، حتى خمنت أن الرادَّ ينبغي له أن يزيد شيئاً في ردِّه نحو: ((و عفوه، ورضوانه)) ولم أكن وقفتُ على الحديث الذي قوى الشيخ فيه زيادة ((ومغفرته)) في الرد.

 

وكان الشيخ يصلى الغداة فى ((مسجد الفالوجا)) بجوار منزل أبى الفداء، ولم أذق طعم النوم ليلتي بسبب تأملي المسألة التي طرحها الشيخ، ولم تكتحل عيني بنومٍ, إلاَّ قبيل الفجر، وراح علىَّ بسبب ذلك لقاء الفجر مع الشيخ، وكلمناه فى الصباح، فأعطانا موعداً عقب صلاة العشاء في منزل أبى الفداء.

 

وكان لقاءً حاراًّ، بدأني الشيخ بالعناق، لأنني لا يمكن أن أبدأه بذلك هيبةً له، وكان معنا في هذا اللقاء الأخ الفاضل أبو الحارث على الحلبي - حفظه الله -، وجلسنا نحو ساعةٍ, ونصف الساعة نسألُ، والشيخ يجيبُ، فلما تصرمت الجلسة، وخرجنا من الدار، انتحيت بالشيخ جانباً، وشرحتُ له باختصارٍ, ما كابدتهُ فى السفر إليه، ولم يخرجني من بلدي إلاَّ طلبُ العلم، فلو أذن لي الشيخ أن أخدمه وأساعده لأتمكن من ملازمته، فشكرني واعتذر لي، نظراً لضيق وقته. فقلت له: أعطني ساعة كل يوم أسألك فيها. فاعتذر

 

فقلت له: أعطني ما يسمح به وقتك ولو كان قصيراً، فاعتذر!

 

فأحسست برغبة حارَّة ٍ,في البكاء، وتمالكت نفسي بعناء بالغٍ,، وأطرقتُ قليلاً ثم قلت للشيخ: قد علم الله أنه لم يكن لي مأربٌ قطٌّ إلاَّ لقاؤكم والاستفادة منكم، فإن كنتُ أخلصتُ نيتي فسيفتح الله لي، وان كانت الأخرىº فحسبي عقاباً عاجلاً أن ارجع إلى بلدي بخفي حنين!

 

وأنا سأدعو الله أن يفتح قلبك لي.

 

ولست أنسى هذا الموقف ما حييت.

 

ثم التقيت بالشيخ فى صلاة الغداة من اليوم التالي، فقبلتُ يده وهذا دأبي معه فقال لي: لعلَّ الله استجاب دعاءكº وكان فاتحة الخير. وكنت أكاد وقن أن الله سيستجيبُ لي، وأن الشيخ سيقبلني عنده، لا سيما بعد أن قابلت الأستاذ أحمد عطية وكان من معظمي الشيخ قبلُ -، فاستضافني في داره وقال لي: لما طبع كتابك ((فصل الخطاب بنقد المغنى عن الحفظ والكتاب)) اشتريت منه نسخة وقرأته فأعجبني أنه على طريقة الشيخ، وكان الشيخ يقول: ليس لي تلاميذ يعنى على طريقته فى التخريج والنقد قال: فأرسلت هذا الكتاب إلى الشيخ وقلت له: وجدنا لك تلميذا، وراجعتُ الشيخ بعد ثلاثة أيام فقال: نعم.

 

قلت: لمَّا قصَّ علىَّ الأستاذ أحمد عطية هذه الحكاية ضاعف من أملى أن يقبلني الشيخ عنده.

 

ووالله! لقد عاينت من لطف الشيخ بي، وتواضعه معي شيئا عظيما، حتى أنه قال لى يوماً: صحَّ لك ما لم يصحٌّ لغيرك، فحمدت الله - عز وجل - على جسيم منته، وبالغ فضله ونعمته.

فمن ذلك أننى كلما التقيتُ به قبلت يده، فكان ينزعها بشدَّة، ويأبى علىَّ، فلما أكثر قلتُ له: قد تلقينا منكم فى بعض أبحاثكم فى \" الصحيحة \" أن تقبيل يد العالم جائز.

 

فقال لى: هل رأيت بعينيك عالماً قطٌّ؟

 

قلت: نعم، أرى الآن.

 

فقال: إنما أنا \" طويلبُ علمٍ, \"، إنما مثلي ومثلكم كقول القائل:

 

إن البُغَاثَ بِأَرضنَا يَستَنسِرُ  !

 

وبدأت جلساتي مع الشيخ بعد كل صلاة غداةٍ, فى سيارته، ولمدة ساعة، ثم زادت المدة حتى وصلت الى ثلاث ساعات.

 

واستمر هذا الأمر، حتى جاء يومٌ ولم يُصلِّ الشيخ معنا صلاة الغداة، فحزنت لذلك لضياع هذا اليوم علىَّ بلا استفادة، واستشرت من أثق برأيه من إخوانى: هل أذهب الى الشيخ فى بيته أم لا؟

 

فكان إجماعهم أن لا أذهب، لأنك لا تعلم ما ينتظرك هناك، ولا يذهب أحد الى الشيخ فى بيته إلَّا بموعدٍ, سابقٍ,، فلربما ردَّك، فلا يكون بك لائقًا، لا سيما بعد المكانة التي صارت لك عند الشيخ.

 

وتهيبتُ الذهاب، ولكن قوى من عزمي أمران:

 

الأول: أن رفيقي آنذاك والذي كان يصحبني بسيارته الأخ الفاضل الباذل أبو حمزة القيسى جزاه الله خيراً قد أيدنى فى الذهاب.

 

الثانى: أننى استحضرت قصةً لابن حبان مع شيخه ابن خزيمة ذكرها ياقوتُ بسنده إلى أبى حامد أحمد بن محمد بن سعيد النيسابورى قال: كنا مع أبى بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة فى بعض الطريق من نيسابور، وكان معنا أبو حاتم البُستى، وكان يسألُه ويؤذيه، فقال له محمد بن إسحاق بن خزيمة: يا بارد! تنحَّ عنى ولا تؤذينى! أو كلمة نحوها، فكتب أبو حاتم مقالته، فقيل له: تكتب هذا؟ قال: أكتب كل شيء يقوله الشيخ)) ا هـ.

 

فقلتُ فى نفسي: وما لي لا أفعل مثلما فعل ابن حبان؟ وحتى لو قال لي الشيخ مقالة ابن خزيمة لعددتها من فوائد ذلك اليوم.

 

وانطلقنا إليه، وكان من أفضل أيامي التي أمضيتُها في هذه الرحلة، فقد استقبلني الشيخ استقبالا كريما، وأمضيت معه أكثر من ساعتين، وكان

 

يخدمُنا بنفسه، ويأتينا بالطعام يضعه أمامنا، فكلما هممت أن أساعده أبى علىَّ، ويشيُر أن أجلس، ويقول: ((الإمتثالُ هو الأدبُ بل خيرٌ من الأدبِ))

 

ويعنى به: أن الامتثال لرغبته فى الجلوس خير من سلوكي الذي أظنٌّه أدباً، لأن طاعتي له هي الأدب. وكان يوماً حافلا قص على الشيخ فيه ما جرى بينه وبين الشيخ محمد نسيب (7) الرفاعى - حفظه الله -.

 

ولا يفوتنى أن أقول: كنت قابلت الشيخ نسيب الرفاعى بصحبة الأستاذ أحمد عطية المتقدم ذكره فى بيته بحي الهاشمي في عمان البلقاء، ولقلما رأت عيناى مثله فى تواضعه وأدبه وحسن خلقه، وكان معظم كلامه عن الشيخ الألباني، وبرغم تقاربهما فى السن إلا أنه كان يبالغ فى تعظيم الشيخ، وقال لي: أنا مدينٌ بالفضل لرجلين: الأول: ابن تيمية، والثاني: الألباني.

 

وقال لى: لقد تآزرنا فى نشر الدعوة السلفية فى سوريا، وكان الشيخ يزورنا فى حلب، فدخلت على ابنتى \" عائشة \" وكانت صغيرة، فقال لى الشيخُ: لو كانت كبيرة لتزوجتها وكنت منى بمنزلة أبى بكر من محمدٍ, - صلى الله عليه وسلم -، فانظر ما كان بينى وبينه من الآصرة.

 

وقرأ علينا أبو غزوان مقدمته لكتابه: ((التوصل إلى حقيقة التوسل)) وقصَّ علىَّ أشياء ذكرتها فى ((طليعة الثمر الدانى فى الذب عن الألباني)). وهو القسم الخاص بترجمة الشيخ الألباني - حفظه الله - تعالى -.

 

وقد أمضيت نحو شهر فى هذه الرحلة، ولما علم الشيخ بموعد سفري دعاني على الغداء عنده فى يوم الرحيل، وسألني عن حال السلفيين فى مصر، وسألته عن الطريقة المثلى لنشر الدعوة، وكيف نواجه المخالفين لنا، وكان يوما حافلا أمضيته مع (عميد السلفيين) فى العالم الإسلامي - حفظه الله - وبارك فى عمره.

 

-------------------

(1) اقتباس من كلام الإمام الجليل محمد بن إدريس الشافعي - رحمه الله - ورضي عنه في مقدمته لكتابه (الرسالة) تحقيق المحدث النبيل أبي الأشبال أحمد شاكر - رحمه الله -.

(2) قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لبديل بن ورقاء الخزاعي: ((إِنَّا لَم نَجِئ لِقِتَالِ أَحَدٍ,، وَلَكِنَّا جِئنَا مُعتَمِرِينَ، وَإِنَّ قُرَيشًا قَد نَهِكَتهُمُ الحَربُ وَأَضَرَّت بِهِم، فَإِن شَاءُوا مَادَدتُهُم مُدَّةً وَيُخَلٌّوا بَينِي وَبَينَ النَّاسِ، فَإِن أَظهَر فَإِن شَاءُوا أَن يَدخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَعَلُوا وَإِلا فَقَد جَمٌّوا، وَإِن هُم أَبَوا، فَوَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لأُقَاتِلَنَّهُم عَلَى أَمرِي هَذَا حَتَّى تَنفَرِدَ سَالِفَتِي، وَلَيُنفِذَنَّ اللَّهُ أَمرَهُ)) فَقَالَ بُدَيلٌ: سَأُبَلِّغُهُم مَا تَقُولُ.

(3) توفي شيخنا - رحمه الله - ورضي عنه يوم السبت 22 / جمادي الآخرة / 1420 هـ الموافق 2/ 10/1999 بعد عصر هذا اليوم، فاللهم ارض عنه واغفر له وارحمه كفاء ما قدَّم للمسلمين من تقريب السنة والذب عنها.

(4) ثم ثوفي الشيخ - رحمه الله - في رجب (1417هـ) اللهم اغفر له وارحمه، وارض عنه كفاء ما نافح عن دينك، وما جاهر بكلمة الحق.

(5) وفي \" لسان العرب \" (4/3876) قال: \" والكسعي الذى يضرب به المثل في الندامة، وهو رجل رام رمي بعد ما أسدف الليل عيرا فأصابه، وظن أنه أخطأه فكسر قوسه، وقيل: وقطع أصبعه ثم ندم من الغد حين نظر إلي العير مقتولا وسهمه فيه، فصار مثلا لكل نادم علي فعل يفعله، واياه عني الفرزدق لما قال:

ندمت ندامة الكسعى لما غدت مني مطلقة نوار

وقول الآخر:

ندمت ندامة الكسعى لما *** رأت عيناه ما فعلت يداه \"

وذكر ابن منظور سببا آخر

(6) وهو حديث باطل كما حققته عند الرقم (1529) من هذا الكتاب والحمد لله

(7) ثم توفى - رحمه الله - يوم الأربعاء الرابع عشر جمادى الآخرة سنة (1412هـ) فاللهم ارض عنه وتقبله

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply