إن كان الله - سبحانه وتعالى - قد ابتلى بني إسرائيل بنهر ألاّ يشربوا منه إلا قليلاً، فقد ابتليت الأمة الإسلامية بأنهار، ولكنها أنهار من دماء سفكها المغول المتوحشون القادمون من الشرق.
كان بلاء عظيمًا حلَّ بالعاصمة بغداد، وكانت المدن القريبة تتوقع المصير نفسه، أو تدافع عن نفسها حتى الموت، وفي مدينة حران الواقعة في إقليم الجزيرة بين الشام والعراق كانت أسرة علمية مشهورة قد قررت ترك موطنها والهجرة إلى دمشق بعيدًا عن الزحف المغولي إنها أسرة آل تيمية التي وصلت دمشق عام 667هـ، وفي دمشق نشأ الطفل أحمد بن عبد الحليم بن تيمية وتعلم في مدارسها، وأخذ عن علمائها، وكان منذ صغره مشغوفًا بالعلم، ولا عجب في ذلك فوالده عبد الحليم من العلماء وكذلك جدٌّه عبد السلام، وما إن بلغ ابن تيمية العشرين من عمره حتى أفتى ودرّس في المدرسة التي كان فيها والده، وفي سن الثلاثين أصبح عالمًا مشهورًا، ولم يكن من العلماء الذين يحصرون أنفسهم بالتدريس والكتب والتلامذة، ولكنه من النوع الذي يشغله هموم الأمة وواقع الناس وحل مشكلاتهم، كما يشغله محاربة الظلم والبدع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويقوم بنفسه بإزالة المنكرات ويساعده أصحاب له، فأحبته العامة ووثقوا به والتجؤوا إليه في المهمات الصعبة، وقد برز كزعيم للأمة في المواجهات مع التتار (أحفاد هولاكو وجنكيزخان)، فإن غاراتهم توالت على بلاد الشام، ومع أنه قد أسلم بعض ملوكهم الذين يحكمون إيران والعراق مثل السلطان أحمد بن هولاكو والسلطان محمود قازان الذي أسلم عام 694هـ ولكنه كان إسلامًا سطحيًا، فغاراتهم وعيثهم في الأرض فسادًا استمرت، ولم يغيروا في عاداتهم وتقاليدهم وتعظيمهم لجنكيزخان وللدستور الذي وضعه لهم والمسمى بـ (الياسا) وقد قابل ابن تيمية قازان هذا خارج أسوار دمشق، تكلم معه كلامًا شديدًا، وقال له: أبوك وجدك كانا كافرين ولم يفعلوا ما فعلت من إيذاء المسلمين، وقازان يستمع له ويقول: يا شيخ ادع لنا!! ورجع في هذه المرة ولم يدخل دمشق.
وفي سنة 702هـ بدأت أخبار وصول التتار (هكذا تسميهم المصادر الإسلامية، وهم المغول) إلى شمال بلاد الشام تصل إلى أسماع أهل دمشق، فتهيأ الناس للهرب، وسيطر الذعر والخوف عليهم، وفكروا في الذهاب إلى مصر أو إلى اليمن، ولكن ابن تيمية كان يدور عليهم ويثبتهم، ويطلب منهم البقاء، ويشجعهم ويقول لهم: سننتصر هذه المرة، ويذهب إلى سور المدينة يشجع الجنود ويقرأ عليهم آيات الجهاد، ويقول للمسؤول عن القلعة: لو سقطت حجرًا حجرًا فلا تسلمها، وأجمع قادة المدينة وعامتها على أن يذهب ابن تيمية إلى عاصمة الدولة (القاهرة) للطلب من السلطان محمد بن قلاوون النصرة والدفاع عن بلاد الشام، وفعلاً توجه ابن تيمية إلى مصر وأقنع السلطان بضرورة المواجهة مع التتار واجتمعت الجيوش المصرية والشامية في جنوبي دمشق، ولكن برزت مشكلة فقهية. إذ قال الناس (وبعض الفقهاء) كيف نحارب هؤلاء التتار وهم مسلمون؟ فقال لهم ابن تيمية: هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على عليّ - رضي الله عنه - ـ وقال لهم: إن كل طائفة خرجت عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة فإنه ـ يجب قتالها، وإن تكلموا بالشهادتين ـ وقال: لقد شاهدنا عسكرهم (التتار) فرأينا جمهورهم لا يصلي وهم يقاتلون على ملك جنكيزخان ويقدسون تعاليمه، وإذا رأيتموني والمصحف على رأسي في ذلك الجانب (مع التتار) فاقتلوني، فاطمأن الناس وتشجعوا، ووقعت المعركة في مكان يسمى (شقحب) يبعد عن دمشق جنوبًا حوالي (36 كم) وخرج ابن تيمية وأصحابه للجهاد، وحضروا المعركة وطلب السلطان من الشيخ أن يكون معه أثناء القتال (مع الجيش المصري) فقال له: السنة أن يكون المرء تحت راية قومه (أهل الشام) وانتصر المسلمون انتصارًا عظيمًا، وتمزق الجيش المغولي، ودخل ابن تيمية ومعه أصحابه دمشق واستقبل الأبطال، ولكن الشيخ يعلم أن الأمر لم ينته بهزيمة التتار، فهناك الأعداء في الداخل، الذين كانت لهم صلة بالتتار وكانوا جواسيس لهم، وهم من الفرق المنشقة عن الإسلام، لا يقيمون صلاة ولا صيام ولا يخضعون للدولة الإسلامية، فقرر الشيخ مهاجمتهم في دارهم، فأخذ فرقة من الجيش واتجه نحو جبال كسروان (ما يسمى جبل لبنان اليوم) لتأديب هؤلاء الخونة الباطنيين، ولحقه بعد ذلك نائب السلطان في دمشق مع فرقة أخرى، وانتصر الشيخ مرة ثانية وتاب عدد من هؤلاء، وألزمهم بإقامة الصلاة وبناء المساجد ولكن هل استراح الشيخ بعد هذا الجهاد؟ ليس من طبيعته ذلك، فالإصلاح الداخلي هو الأهم.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد