رابعة العدوية


  

بسم الله الرحمن الرحيم

كانت رابعة بنت إسماعيل العدوية البصرية مثل رائع من أمثلة الحياة الروحية في الإسلام في القرن الثاني الهجري ومن أقوالها في الزهد ما يرويه الهجويري في كشف المحجوب (ترجمة نيكولسون)

ولقد قرأت أن رجلا من أهل الدنيا قال لرابعة سليني حاجتك، فقالت: إني لأستحي أن أسأل الدنيا من يملكها فكيف اسألها من لا يملكها

ولرابعة العدوية أقوال مأثورة في معان كثيرة تناولها الصوفية المتأخرون فيما بينهم، فمن ذلك كلماتها في التواضع، إذ تقول ما ظهر من أعمالي فلا أعده شيئا

ومن ذلك كلامها في الرياء إذ تقول اكتموا حسناتكم كما تكتمون سيئاتكم فهي لا تحب أن يتظاهر الإنسان بأعماله الحسنة

وكانت رابعة تنهى عن تتبع عيوب الناس لأن السالك إلى الله لا بد أن يكون منصرفا إلى تعرف عيوب نفسه، وفد ذكر ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة عنها أنها كانت تقول إذا نصح الإنسان لله أطلعه الله - تعالى – على مساوئ عمله فتشاغل بها عن ذكر مساوئ خلقه وهذا القول يذكرنا بما قاله ابن عطاء الله السكندري في حكمة من حكمه تشوفك إلى ما بطن فيك من العيوب خير من تشوفك إلى ما حجب عنك من العيوب.

 

وكانت رابعة تري أن توبة العاصي خاضعة أولا وأخيرا لإرادة الله، بعبارة أخري للفضل الإلهي

وليست بإرادة الإنسان ... فلو شاء الله لتاب على العاصي

 

فقد قال رجل لرابعة

إني أكثرت من الذنوب والمعاصي

فهل يتوب علي إن تبت؟

فقالت

لا بل لو تاب عليك لتبت

وفكرة رابعة عن التوبة يمكن أن ترد إلى مصدر قرآني هو قوله – تعالى -: \"ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم\" (التوبة: 118)

ومن أقوالها في معني الرضا ما أورده الكلاباذي في كتابه التعرف من أن سفيان الثوري قال عند رابعة: اللهم ارض عني

فقالت: أما تستحي أن تطلب رضا من أنت ليس عنه براض

وذلك إشارة منها إلى أن الرضا يجب أن يكون متبادلا بين العبد والرب مصداقا لقوله – تعالى -\" رضي الله عنهم ورضوا عنه\" (المائدة: 119)

 

ولم تكن رابعة تستهدف في طاعتها لله غاية من الغايات، فلم تكن تطمع في الجنة أو تخاف من عذاب النار، وإنما كانت تطيع الله حبا له، وهذه المرتبة الروحية تعتبر من أسمي مراتب التصوف عند من جاء بعدها، وقد عبرت عنها رابعة بقولها

تعصي الإله وأنت تظهر حبه *** هذا لعمري في القياس بديع

لو كان حبك صادقا لأطعته *** إن المحب لمن يحب مطيع

 

ويروي أن سفيان الثوري قال لها يوما

ولكل عقد (أي عقيدة أو إيمان) شريطة (شرط) ولكل إيمان حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟

قالت: ما عبدته خوفا من ناره، ولا حبا لجنته فأكون كالأجير السوء إن خاف عمل بل عبدته حبا له وشوقا إليه

 

ويروي عنها أيضا أنها كانت تقول في مناجاتها

الهي إذا كنت أعبدك رهبة من النار فاحرقني بنار حهنم، وإذا كنت أعبدك رغبة في الجنة، فاحرمنيها وأما إذا كنت أعبدك من أجل محبتك فلا تحرمني يا الهي من جمالك الأزلي

 

ولرابعة أبيات من الشعر، ويبدو فيها أنها تعمقت في معني الحب الإلهي وأنها تنزع فيه منزعا خاصا وهذه الأبيات هي

أحبك حبين، حب الهوى وحبا لأنك أهل لذاكا

فأما الذي هو حب الهوى فشغلي بذكرك عمن سواك

وأما الذي أنت أهل له فكشفك لي الحجب حتى أراكا

فلا الحمد في ذا ولا ذاك له ولكن لك الحمد في ذا وذاك

 

وقد فسر الإمام الغزالي في الإحياء هذه الأبيات فقال: ولعلها أرادت بحب الهوى حب الله لإحسانه إليها، وإنعامه عليها بحظوظ العاجلة، وبحبه لما هو أهل الحب بجماله وجلاله الذي انكشف لها، وهو أعلى الحبين، وأقواهما، ولذة مطالعة جمال الربوبية هي التي عبر عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال حاكيا عن ربه – تعالى -: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) ورأي الدكتور التفتازاني أن رابعة قسمت الحب الإلهي في هذه الأبيات إلى قسمين:

الأول: هو ما تسميه حب الهوى وقد عرفته في الشطر الثاني بأنه شغلها بذكر الله عمن سواه.

الثاني: وهو ما تسميه حب الله الذي هو أهل له، وهل كشف الله لها الحجب حتى تراه.

ولكن يطرح سؤال وهو: كيف يكون الاشتغال بذكر الله عمن سواه حبا للهوى مع أنه مقام رفيع للغاية؟ والحقيقة هي أن ما تقصده رابعة العدوية بحب الهوى على هذا النحو لا يصبح واضحا إلا على ضوء الحديث القدسي الذي يحكي فيه الرسول عن رب العزة قوله: \" من شغله ذكري عن مساء لتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين\" فهي تريد أن تقول أن اشتغالها بذكر الله عن سؤاله، وهو حب الهوى شيء معلول أيضا لأن الله وعدها كما وعد غيرها من المؤمنين على ذلك بإعطائها أفضل ما يعطي السائلين، وهي لا تطمع في ذلك إطلاقا بل هي تريد حبا منزها قد تخطت مقام سؤال الله أو الطلب منه، ثم تخطت مقام الاشتغال بذكر الله عن مساء لته أيضا لأنه معلول، واستقرت بعد هذا كله في مقام حب الله بما هو أهل له، وذلك حين انكشفت عنها الحجب لتري جمال الله، وعندئذ تسلم لله - تعالى - التسليم المطلق برؤية المنعم الوحيد عليها في الحبين الأول والثاني. كانت رابعة العدوية في الحقيقة تمثل في القرن الثاني الهجري تيار الزهد القائم على أساس حب الله - تعالى - على حين كان الحسن البصري أبرز من مثل الزهد القائم على أساس الخوف من الله - تعالى -. والإخلاص كان سمة مميزة في شخصية رابعة، فلقد كانت مخلصة في توبتها عن نفسها والدنيا وتفرغها لربها وتجردها. ويصفها العطار فيحسن الوصف إذ يقول: عشقها لله كان متأصلا في قلبها. فلقد كان حب رابعة لله حبا عظيما وتطورت في مراحل هذا الحب الإلهي، وتدرجت في المعراج الروحي حتى سميت ب \" شهيدة العشق الإلهي\"

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply