بسم الله الرحمن الرحيم
الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود
(1327 -1417هـ، 1907- 1997م)
هو الشيخ عبدالله بن زيد بن عبدالله بن محمد بن راشد بن إبراهيم آل محمود، الذين يتصل نسبهم بالحسن بن علي بن أبي طالب، ولد في \"حوطة بني تميم\" في نجد 1327هـ، وكان والده تاجراً، وقد توفي وابنه صغير، فتولى رعايته خاله حسن بن صالح الشتري.
وقد تلقى العلم على أيدي المشايخ: عبدالملك بن إبراهيم آل الشيخ، ومحمد أبوزيد الشتري، فحفظ القرآن الكريم وهو صغير، وكان يؤم المصلين ولم يبلغ الخامسة عشرة، لحفظه وإتقان تلاوته، وقد حفظ الكثير من متون كتب الفقه والحديث، كمتن الزاد، وبلوغ المرام، وألفية الحديث للسيوطي، ونظم المفردات، وألفية ابن مالك، وقطر الندى وغيرها.
وقد سافر إلى قطر لطلب العلم على يد الشيخ محمد بن عبدالعزيز بن مانع 1355ه، فلازمه وتتلمذ على يده ثلاث سنوات، في الفقه، والحديث، والتفسير، وبعد عودته من قطر إلى الرياض لزم الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي الديار السعودية مدة سنة كاملة، ثم توجّه إلى مكة المكرمة، حيث قام بالوعظ والتدريس بالمسجد الحرام.
حياته العلمية والعملية
في 1359ه، طلب حاكم قطر الشيخ عبدالله بن قاسم آل ثاني، من الملك عبدالعزيز آل سعود، أن يبعث معهم برجل يصلح للقضاء والفتيا كبديل للشيخ محمد بن مانع، فوقع الاختيار على الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود، حيث باشر القضاء والفتيا أوائل سنة 1360ه، وكان فضيلته من المشهورين بالكفاءة والدقة في الأحكام، والعدل بين الخصوم، والمساواة أمام القضاء بين الجميع، وكان يبذل الجهد لإصلاح ذات البين، وفض المنازعات بين المتخاصمين.
وكان دؤوباً على الاستزادة من العلم، ولم يمنعه القضاء من العكوف على أمهات الكتب والمراجع، كما كان له مجلس علم يحضره الكثير من طلبة العلم الذين يدرسون على يديه التفسير والحديث والفقه وكتب السير والتاريخ والتراجم.
وهو واسع العلم بأيام العرب وأنسابهم والأدب والشعر، وقد رزقه الله ذاكرة قوية، ويروي بعض المشايخ أن الشيخ ابن محمود حفظ منظومة ابن عبدالقوي وهي ستة آلاف بيت.
كان يخطب الجمعة كل أسبوع، ويتناول في خطبه القضايا التي تهم المسلمين، كما ينصح ولاة الأمر بالاهتمام بحقوق الرعية، وقضاء مصالحهم، فقد كان مسموع الكلمة لدى حكام البلاد.
أما رعايته للفقراء والمساكين واليتامى والأرامل، فكان من أول اهتماماته التي يباشرها بنفسه، ويحث ولاة الأمر والأغنياء من المسلمين على النهوض بها نحو إخوانهم المعوزين، حتى سماه الناس \"أبواليتامى والمساكين\".
وقد تميز بسعة الفقه، والتيسير على الناس في العبادات، مع الحرص الشديد على سلامة العقيدة، والبعد عن البدع والخرافات، وتقديم الإسلام بأجمل صورة.
ويعتبر بحق مؤسس القضاء الشرعي في قطر، فقد وضع نظام تسجيل الأحكام والقضايا، وتطورت المحاكم، وزاد عددها إلى ثلاث محاكم شرعية، كما أسس دائرة الأوقاف والتركات التي عنيت بإنشاء المساجد وصيانتها، وحفظ الأوقاف، ورعاية أموال اليتامى، واستثمارها، كما كان يتلقى الاستفسارات في القضايا الدينية والفقهية من داخل قطر وخارجها، وكان يسلك مذهب التيسير في فتاواه للناس في مسائل الحج والطلاق وغيرها. وكانت مكتبته الخاصة تزخر بأمهات المراجع في مختلف العلوم، وله مجلس للدرس كل يوم بعد المغرب إلى العشاء، وقد سعدت بحضوره، وشاركت طلبة العلم في مناقشات مسائله، وكان من الذكاء وقوة الذاكرة أنه يحدد مكان المسألة في الكتاب ورقم الصفحة، وله مجلس آخر في شهر رمضان بعد صلاة العصر، ويؤم الناس في صلاة التراويح والقيام.
وقد أسهم في تأسيس أول معهد ديني في قطر، وخصص رواتب للأرامل والأيتام والفقراء، وأسهم بتخصيص مقابر في كل منطقة لدفن الموتى.
وكان يبدأ برنامجه اليومي بصلاة الفجر، ثم الورد القرآني، ثم الإفطار مبكراً، والذهاب إلى مكتبه بالمحكمة قبل طلوع الشمس، حيث يدرس القضايا، ويحرر الأحكام، ويرد على المراسلات، ويستقبل المراجعين وأصحاب القضايا، ويفصل في قضاياهم، ويستمر إلى أن يؤذَّن لصلاة الظهر.
وكانت له اجتهادات فقهية، خالف فيها الكثير من الفقهاء القدامى والمعاصرين، كإنكاره المهدي المنتظر، وتفضيله الصدقة عن الميت على الأضحية، ورفع الحرج عن الأمة في مناسك الحج، كجواز الرمي قبل الزوال، وجواز الإحرام للحاج والمعتمر من ركاب الطائرات إذا نزلوا في جدة، وجواز إخراج صدقة الفطر بقيمتها من النقود، وفتواه بالانتفاع بالمقابر القديمة إذا أصبحت وسط البنيان، وغير ذلك من الاجتهادات الفقهية.
أهم مؤلفاته
للشيخ مؤلفات تربو على الخمسين، ومن أهمها:
الحكم الجامعة لشتى العلوم النافعة.
بدعة الاحتفال بالمولد.
الإيمان بالقضاء والقدر.
عقيدة الإسلام والمسلمين.
الدلائل العقلية والنقلية في تفضيل الصدقة عن الميت على الأضحية.
الإصلاح والتعديل لما وقع في اسم اليهود والنصارى من التبديل.
وجوب الإيمان بكل ما أخبر به القرآن من معجزات الأنبياء.
يسر الإسلام في أحكام حج بيت الله الحرام.
تحقيق البعث بعد الوفاة.
الرسالة الموجهة إلى علماء الرياض في تحقيق القول بجواز رمي الجمار قبل الزوال.
التحذير من انحراف الشباب.
لا مهدي ينتظر بعد الرسول محمد خير البشر.
واجب المتعلمين والمسؤولين في المحافظة على أمور الدين.
أحكام عقود التأمين.
حكم اللحوم المستوردة وذبائح أهل الكتاب.
حكم الطلاق السني والبدعي.
قضية تحديد الصداق.
الحكم الشرعي في إثبات رؤية الهلال.
كتاب الصيام.
فضل شهر رمضان.
الجهاد المشروع في الإسلام.
أحكام مناسك حج بيت الله الحرام...وغيرها من الكتب.
معرفتي به
كنت في زياراتي إلى قطر أحرص على لقاء العلماء والدعاة فيها، وبخاصة الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود، فقد كنت أحرص على مجلسه في بيته، كما أزور المشايخ أحمد بن حجر آل طامي، والشيخ عبدالقادر العماري، والشيخ يوسف القرضاوي، والشيخ عبدالمعز عبدالستار، والأستاذ عبدالبديع صقر، والشيخ أحمد العسال، والشيخ أحمد حمد، والشيخ علي جماز، والشيخ عبداللطيف زايد، والشيخ مصباح عبده، وغيرهم من الإخوة والزملاء في قطر، وكنت وقتها مديراً للشؤون الإسلامية بوزارة الأوقاف بالكويت، وكنت في كل زياراتي الدعوية أحاول الاستفادة من المشايخ والدعاة من خلال اللقاءات المتصلة بهم في أماكن عملهم، وفي منازلهم، لبحث قضايا الإسلام والمسلمين، وسبيل النهوض بهذه الأمة، والتصدي لهذه الهجمة الشريرة على الإسلام والمسلمين.
وكان الكل يطرح وجهة النظر التي يرى أهميتها وأولوياتها، ونسعى جميعاً لبلورتها وإخراجها إلى حيز التنفيذ، لتأخذ طريقها إلى جماهير الأمة.
وكان الشيخ ابن زيد صاحب المبادرة في الدراسة والتخطيط وتوزيع المهمات على العلماء والعاملين، كل حسب تخصصه ووفق إمكاناته، وقد ترتب على هذا العمل الدعوي المبارك، جمع شباب الأمة من خلال المساجد والمعاهد والمدارس على كلمة سواء للانطلاق مبشرين بهذا الدين من خلال الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ومن خلال المشاريع العملية الإسلامية التي يقيمونها، والخدمات الخيرية الإنسانية التي يقدمونها، وقد تمثل هذا عن الطريق الرسمي بواسطة الأوقاف وعن طريق مساعدة الأيتام والأرامل والمعوزين بواسطة الجمعيات والمؤسسات الدعوية والخيرية التي يشارك فيها الشباب القطري، والمحسنين من أهالي البلاد، فكانت جهوداً طيبة مباركة آتت ثمارها على أرض الواقع داخل قطر وخارجها.
من أقواله
\"إنني عندما أطرق موضوعاً من مواضيع البحوث العلمية التي يحسن التذكير بها وبمحاسنها ومساوئها، وحكمها وأحكامها، فإنني آخذ للبحث بغيتي، وغاية رغبتي، مما وصل إليه فهمي وعلمي، حتى ولو طال ذيل البحث، ولا أقتصر فيه على بلغة العجلان، ورغبة العاجز الكسلان، إذ إن الناس يتفاوتون في قوة الإيراد والتعبير، وفي حسن المنطق وجمال التحبير. والعلم شجون يستدعي بعضه بعضاً، ويأخذ بعضه برقاب بعض، وعدوا من عيوب الكلام وقوع النقص من القادر على التمام، ووقوع الانفصام والانفصال من مواقع الاتصال.
إن نصوص الكتاب والسنة توجب على الأمة الإسلامية أن يكون منهم أمة صالحة يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، لأن هذا هو سبب صلاح الناس وفلاحهم، وعليه مدار سعادتهم في قديم الزمان وحديثه. والشريعة الإسلامية جاءت بجلب المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها، والمنكر متى ترك بحاله ولم يقم أحد من الناس بمنعه ودفعه، فإنه ينتشر ويشتهر في العباد والبلاد، وإن الأمراء والعلماء وأعضاء مجالس الشورى هم بمنزلة المرابطين دون ثغر دينهم ووطنهم يحمونه عن دخول الفساد والإلحاد وما يعود بخراب البلاد وفساد أخلاق النساء والأولاد\".
قالوا عنه
يقول العلامة الشيخ يوسف القرضاوي: \"رحل عن دنيانا علامة قطر وقاضي قضاتها وفقيهها الأكبر، وخطيب مسجدها الأعظم، وأول رئيس لمحاكمها الشرعية، وشؤونها الدينية، وأشهد أن هذا الرجل كان صوَّاماً قوَّاماً، كثير التلاوة لكتاب الله - عز وجل -، مشغولاً بالعلم دراسة وتعليماً وتأليفاً وقضاء، وكنت كلما زرته في مجلسه، وجدته مشغولاً بقراءة كتاب مهم من كتب التفسير أو الحديث أو الفقه.
ومن خصائص فقه الشيخ: تحرره من التقليد والعصبية والمذهبية، ومعرفته بالواقع المعيش وما يعانيه الناس فيه، ونزعته إلى التجديد، وتمرده على كثير من القضايا المسلَّمة عند علماء زمنه ومذهبه، وميله إلى التيسير على الخلق، ورفع الحرج عنهم، وشجاعته الأدبية، فقد كان يصدع برأيه إذا اعتقد أنه الحق الذي وصل إليه بالدليل.
وإن رسائل الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود نوعان: رسائل عادية تتضمن توجيهات ونصائح أشبه بالخطب المنبرية، بل هي في الغالب من خطب الجمعة التي يحضّرها الشيخ ويتعب عليها ويغذيها بالنصوص والحكم والأشعار حتى تتضح.
والنوع الآخر: رسائل علمية فقهية، تهدف إلى تحقيق مسألة معينة، وإبداء الرأي فيها عن طريق الترجيح والاجتهاد المبني على النصوص النقلية، وفهم القواعد الكلية، والمبادئ العامة للشريعة، ومراعاة مصالح الخلق ومقاصد الشرع.
وهذه هي التي صال فيها قلم الشيخ وجال، وأتى فيها بالجديد والطريف، وجعلت له كثيراً من المعجبين، كما أهاجت عليه كثيراً من المنكرين، وقلَّ من الناس من ليس له مادح وقادح، إلا الخامل من الناس الذي يعيش بينهم حياً كميت وموجوداً كمفقود، فهو لا ينفع ولا يضر، ولا يُحزن ولا يسر. ولا أنكر أني قد أختلف مع الشيخ في بعض الجزئيات فيما يكتبه، مثل ذبائح الشيوعيين والملاحدة والمرتدين، وقد أتناقش معه في بعض القضايا، ويحتد بيننا النقاش، ولكن اختلاف الرأي لا يفسد ما بيننا من ود. ولا عيب في اختلاف الآراء، مادام رائد أصحابها الحق والخير، إنما العيب في اختلاف القلوب وتحاسد النفوس\".
ويقول الأستاذ جاسم بن سالم الأنصاري:
\"لقد ترك شيخنا ابن محمود تركة عظيمة من المؤلفات والرسائل التي تحوي حكماً جامعة لشتى العلوم النافعة، واجتهادات صائبة وآراء سديدة، يلوذ بها ويعمل بمقتضاها ملايين المسلمين في أيامنا هذه، ووقف سداً منيعاً أمام مظاهر الفتن والبدع، وحرص على التيسير والتسهيل على المسلمين، والتبشير لا التنفير، وتحمل في سبيل منهجه الانتقادات اللاذعة، لدرجة الطعن في شخصه، ولكنه وقف بكل شموخ وثبات وصلابة، ولم يأبه بكل ذلك\".
وفاته
انتقل الشيخ ابن محمود إلى رحمة الله - تعالى -ضحى يوم الخميس الثامن والعشرين من شهر رمضان 1417هـ، وصُلِّي عليه بعد صلاة العصر في جامع الدوحة الكبير، وأم المصلين فضيلة الشيخ القرضاوي.
رحم الله شيخنا رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد