الفقيه العلامة .. محمد الفاضل بن عاشور (1327 1390ه - 1909 1970م)


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

هو الشيخ محمد الفاضل بن محمد الطاهر بن الصادق عاشور، ولد في مدينة تونس يوم 2 شوال سنة 1327ه (1-10-1909م) وتربى في بيت كريم من بيوتات الدين والعلم، وكان والده من كبار العلماء في تونس، فتتلمذ عليه وتعهده بالرعاية والتعليم وتحفيظه القرآن الكريم وهو في الثالثة من عمره، وما كاد يبلغ التاسعة، حتى أتمَّ حفظ بعض المتون القديمة كالأجرومية وألفية ابن مالك في النحو، ثم بدأ بتعلم الفرنسية على أيدي معلمين خصوصيين في المنزل، ولما بلغ الثالثة عشرة، بدأ يدرس القراءات والتوحيد والفقه والنحو، ثم التحق بجامع الزيتونة فحصل على الشهادة الثانوية سنة 1347ه (1928م).

ثم استكمل دراسته العليا في الشريعة واللغة وأصول الدين، ودرس على يد والده التفسير، وقرأ عليه الموطأ للإمام مالك، والمطوَّل للتفتازاني في البلاغة، وديوان الحماسة، كما درس علم الكلام على يد الشيخ أبي الحسن النجار، وأصول الفقه على الشيخ محمد بن القاضي، كما كان يقرأ على والده كل ليلة من ليالي رمضان بعد صلاة التراويح قدراً من كتب الحديث والرجال واللغة مثل: صحيحي البخاري ومسلم، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، والنهاية في غريب الحديث لابن الأثير، ولسان العرب لابن منظور.

وبعد تخرجه عمل مدرساً في جامع الزيتونة سنة 1351ه (1932م)، ثم انتسب إلى كلية الآداب في جامعة الجزائر لاستكمال دراسته في اللغة الفرنسية، وتخرج فيها سنة 1354ه (1935م) حاملاً أعلى درجاتها العلمية.

وقد أصبح عميداً لكلية الشريعة وأصول الدين في جامعة الزيتونة بتونس سنة 1381ه (1961م) وهذه الجامعة هي التي تخرج فيها جهابذة العلماء أمثال: عبد الحميد بن باديس، وعبد العزيز الثعالبي، ومحمد بيرم، وسالم أبو حطاب، والطاهر بن عاشور وغيرهم.

وكان الفاضل بن عاشور خطيباً مفوَّهاً، وأديباً بليغاً، وفقيهاً متمكناً في علوم الدين، ويعتبر من طلائع النهضة الإسلامية الحديثة بتونس، شارك في التصدي للاستعمار الفرنسي مع إخوانه التونسيين وغيرهم.

 

نشاطه العلمي والدعوي

سافر في مهمات علمية ودعوية إلى خارج تونس، وألقى محاضرات عديدة في فرنسا بالسوربون، وفي تركيا بجامعة إستانبول، وفي الهند بجامعة عليكرة، وفي الكويت بجمعية الإصلاح الاجتماعي، وجامعة الكويت، وفي الموسم الثقافي لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية الكويتية.

كما شغل منصب القضاء، ثم منصب مفتي الجمهورية التونسية، وقاضي القضاة، ورئيساً للمحكمة الشرعية العليا، ثم رئيساً لمحكمة النقض والإبرام، وظل يتولى عمادة كلية الشريعة بالزيتونة حتى وفاته.

كما شارك في ندوات علمية كثيرة في أنحاء العالم، وفي بعض مؤتمرات المستشرقين بباريس، وهو عضو في المجمع اللغوي بالقاهرة، كما هو عضو برابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، وعضو مراسل بالمجمع العلمي العربي بدمشق، ومجمع البحوث الإسلامية بمصر، والجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.

وكان لوالده الشيخ الطاهر بن عاشور مكتبة عامرة بنفائس التراث الإسلامي والعربي، واستفاد منها الفاضل كثيراً، وأضاف إليها ما استجدَّ من المؤلفات الإسلامية المعاصرة.

كما كان له نشاط في التأليف وكتابة المقالات والبحوث والدراسات.

ومن أهم مؤلفاته:

الاجتهاد.. ماضيه وحاضره.

المصطلح الفقهي في المذهب المالكي.

تراجم الأعلام.

أعلام الفكر الإسلامي في تاريخ المغرب العربي.

الحركة الأدبية والفكرية في تونس.

أركان الحياة العلمية في تونس.

التفسير ورجاله.

روح الحضارة الإسلامية... وغيرها.

 

 

من أقواله:

\"... إذا تقوَّمت شخصية الفرد المسلم على المنهج التربوي الذي أخذت به على سبيل الدعوة الدينية، فتحركت في النفس غريزة التطلع إلى المعرفة، ثم ثارت فيه داعية الفكر، فجعلت الموجودات على اختلاف أصنافها مجالاً للحركة الفكرية، وأصبحت الكائنات بأسرها آلات للعمل الفكري، وأدوات يحقق بها قصده من الوصول إلى المعرفة، لكونها المحصلة للعلم الجامع لأصناف المعلوم كله، المتناول للوجود من حيث هو، بقطع النظر عن مظاهره المتباينة، وعناصره المختلفة، وبذلك يتحقق معنى الانسجام والأمن، اللذين امتازت بهما الحضارة الإسلامية، فلا يبقى في نفس المسلم على ذلك مجال للصراع بين عناصر مدركاتها.. تأنس بالعقل، فلا تتجافى عن الدين.. وتطمئن إلى الدين، فلا تنفر من المدنية، وتؤخذ بالعادة، فلا تضيع المقياس الخلقي.. وتراضٍ, على السلوك، فلا تتعطل فيها ملكة النقد الذاتي، فيكون العقل سند الحقيقة الدينية وبرهانها، كما كان الإيمان أصل توجهها إلى مناهج السلوك، فجاءت الوحدة الاجتماعية منسجمة فيما بين عناصرها مع المعاني المكوِّنة لمنهج النظر الإسلامي الذي تقاربت فيه المدركات العالمية.

هذه الحقائق الدقيقة السامية هي سر أن الإسلام عقيدة وعمل، أو أنه عبادة ونظام اجتماعي، أو هو دين العقل أو دين العلم أو دين المدنية.

إن العامل التربوي الإسلامي هو الذي كوَّن الفرد قبل أن يكوِّن المجتمع، ومهَّد للثقافة طريقها.

لقد كان العامل التربوي الذي كوَّن الفرد، عقلاً ونفساً، وخلقاً، وسلوكاً، هو العامل الأصلي الذي ولَّد الحضارة، وكوَّن المجتمع الأمثل، ومهَّد للثقافة طريقها، إلى أن تتناول عناصر المعرفة، وتؤلف كيانها، فقامت الحضارة الإسلامية على ذلك المجتمع المتلائم، وبرزت الثقافة بأزهارها اليانعة، من بذور تلك العناصر المتلاقحة.

إن المجتمع الإسلامي مجتمع ديني بالمعنى الأخص، كان الدين فيه العامل الأول المباشر.. ومن دعوة الدين، والإيمان بها، اكتسب الشعب الذي استجاب لتلك الدعوة، وامتاز بذلك الإيمان، خِلالاً نفسية جديدة.

لقد فتحت المدارك الدينية أمام نظر المسلم، آفاق الكون، للتأمل والاعتبار والمعرفة والإيمان، فاصطنع العلوم التي هي من التراث الإنساني المشترك، وابتكر العلوم التي هي من التراث الإسلامي الخاص، وجعل من مجموعة تلك العلوم الإنسانية المشتركة، والإسلامية الخاصة، مجالاً لتصريف المدارك الدينية، التي التأمت تلك العلوم على محورها، مع اختلاف عنصريها.

إن موقع العقيدة الدينية من مقومات الكيان الاجتماعي للأمة الإسلامية، باعتبارها مجتمعاً دينياً بالمعنى الأخص، وهو موقع رئيس جوهري، كان فيه الدين العامل الأول المباشر لصنع المجتمع، والحافز لنهضته الفكرية، فبالدين فكّر.. وبالدين تحضَّر.. وبالدين أنتج آثار حضارته.. وبالدين أقام الدولة الصائنة للمجتمع وحضارته\" انتهى.

 

معرفتي به

سعدت بمعرفته حين دعوناه إلى المشاركة في الموسم الثقافي الذي تقيمه وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت، وقد صحبته طيلة إقامته، حيث كنت رفيقه في الزيارات للشخصيات والمؤسسات والجمعيات، وقد ألقى العديد من المحاضرات، وأهمها كانت في جمعية الإصلاح الاجتماعي، حيث أثنى على الدعاة المجاهدين، والعلماء العاملين، الذين يتصدون للطواغيت، ويبذلون الغالي والنفيس في سبيل إعلاء كلمة الإسلام، وقول كلمة الحق أمام السلطان الجائر، وخص بالثناء بالاسم الإمام الشهيد حسن البنا مجدد الإسلام في القرن الرابع عشر الهجري، كما أشاد بأفكار الشهيد سيد قطب وصلابته ورجولته، وكنتُ أقدّمه في تلك المحاضرة، وعقَّبت عليها، وأرجو من جمعية الإصلاح الاجتماعي أن تتولى طباعتها، وإعادة تسجيلها بصوته، ليستفيد منها من لم يحضرها، وليعرف الناس أن الأمة الإسلامية ليست عقيماً، فما زال الخير فيها والحمد لله.

وكنا نقيم ندوة أسبوعية مساء كل جمعة يجتمع فيها الدعاة وطلبة العلم، ويستفيدون من زوَّار الكويت ومحاضريها في المواسم الثقافية.

وفي أحاديثنا معه، مع مجموعة من إخواننا أثنى الثناء العاطر على جماعة الإخوان المسلمين ومؤسسها الإمام الشهيد حسن البنا، وتمنى على الله أن يمتد أثرها إلى كل أنحاء العالم العربي والإسلامي، وقلت له: إنني وإخواني الذين تجمعوا حولك، من ثمار هذه الدعوة المباركة الطيبة، دعوة الحق والقوة والحرية، فسُرّ غاية السرور، وانشرح صدره لذلك، وحمد الله على أن الكويت على صغر حجمها فيها هذا النشاط الإسلامي المبارك، المتمثل في جمعية الإصلاح الاجتماعي وغيرها من التجمعات الشبابية التي يلتقي فيها الشباب المسلم على منهج الإسلام، ويتربون على برامجه، ويسيرون في ركب الدعاة العاملين، والعلماء المخلصين، ويقفون إلى جانب إخوانهم المسلمين المستضعفين في كل مكان، فتلك ولا شك هي علامة الجماعة الناجحة، وأحسب أن جماعة الإخوان المسلمين في عصرنا هي الجماعة التي تمثل الإسلام بكل شموله، ومن مصدريه: كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.

قالوا عنه

يقول عنه الدكتور إبراهيم مدكور: \"كان عالماً كبيراً، وإماماً من أئمة الأدب واللغة والفقه والتشريع، ورائداً من روَّاد الإصلاح والتجديد.. كان حجة في تراثنا الإسلامي جميعه، وبخاصة ما خفي منه من أخبار المغرب وبلاد الأندلس، وكان محيطاً بثمار الثقافة العربية، وما انتهت إليه من علم وثقافة\".

وقال عنه الشاعر عبد السلام محمد خليل:

يا فاضلٌ ما كنت إلا فاضلاً * * * وسواك من أهل النهى المفضول

قد كنت عالمَ تونس تشدو به* * * مزهوة وعلى الزمان تطول

بل كنت من آي الفخار لشرقنا* * *تعلي منارة مجده وتطيل

حتى بكت مسراك من أعماقها* * *زَوراؤه وشآمه والنيل

وهنا يشاد بفاضل وعلومه* * *وله يصاغ من الثنا إكليل

وتترجم الخطب الجسيم محافلٌ* * *فيها شآبيب الدموع تسيلُ

ويسودها جوُّ كئيب غائمٌ* * *وأسيً يرين على النفوس ثقيلُ

وهناك تروى للفقيد مناقبٌ* * *وضَّاءة كالشمس حين تزولُ

إنا عرفناه خليفة \"مالك\"* * *قد زانه المعقولُ والمنقولُ

وسما به أدبٌ رفيعٌ ما له* * *فيما رأيت وما سمعت مثيلٌ

وإذا تفجَّر بالبيان محاضراً* * *شُدَّت إليه مسامعٌ وعقولُ

فهو \"ابن رشد\" باحثاً ومفكراً* * *وتخاله \"النعمان\" حين يقولُ

لا يستثير ولا يهيج حماسة* * *فسبيله الإقناع والتدليل

يسمو ويبدع مجملاً ومفصلاً* * *ولحبذا الإجمال والتفصيلُ

أما الكتاب فقد وعى أسراره* * *ويبين عن إلهامه التنزيلُ

والسنّة الغراء خاض غمارها* * *متجاوزاً ما لم تصله فحولُ

في خدمة الإسلام كان لفاضل* * *والعلم دورٌ رائدٌ وجليلُ

ما كان إلا عبقرياً لامعاً* * *في كل حقل جهده مبذولُ

متفهمٌ للعصر منفتح على* * *آفاقه رحب المجال أصيلُ

فالله يجزيه المثوبة جنة* * *الظل فيها وارف وظليلُ

والله يلهم أهله من فضله* * *صبراً وأجر الصابرين جزيلُ

والقدس من رجس اليهود تطهرت* * *ودم الشهيد بساحها مطلول

والكرم والزيتون هبَّ مزغرداً* * *وجبالها قد حررت وسهولُ

وتدفق الطوفانُ يكتسحُ العدا* * *وهتافه التكبير والتهليلُ

فلتمض في جمع الصفوف ولا يكن* * *من بيننا متخاذلٌ وعميلُ

والدين إن لم تقتحم بحسامه* * *لهب الوغى فسلاحنا مفلولُ

فإذا استظلَّ جنودنا بلوائه* * *صبراً هوى \"الميراج\" والأسطول

فلتضربوا صدقاً بعزمة \"خالد\"* * *ما فيكمو جزِع ولا مدخولُ

وشعار إحدى الحسنيين شعاركم* * *والحقٌّ سيفٌ لا يُفلّ صقيل

والله أكبر في الجهاد نشيدكم* * *يعلو \"وأحمد\" رائدٌ ودليلُ

إن خضتموها تحت راية دينكم* * *فالله بالنصر المبين كفيلُ

 

وفاته

وبعد حياة علمية حافلة بالآثار الطيبة توفي شيخنا العلامة.. الفاضل بن عاشور يوم 12/2/1390ه (19-4-1970م) في تونس، وبفقده انطوت صفحة من صفحات الفخار للعلماء العاملين والدعاة المصلحين.

- رحمه الله - رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسُن أولئك رفيقاً، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply