من بين ملايين القلوب تتميز قلوب، يسخِّر الله لها من يكتشف أن لها حياة ليست كحياة الآخرين، فيرعاها بالبذر الطيب والسقي الهنيء، حتى إذا ذاقت طعم العلم، وأحسّت بإشراقة نوره، وتنعّمت بنعيم سعادته، أقبلت عليه كخيل عادية، لا تلوي على شيء سواه، نهمة تشعر بعطش شديد لا يروي ظمأها إلا المزيد من معارفه وأسراره، أولئك هم العلماء، ورثة الأنبياء كما وصفهم النبي فقال: (إِنَّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنبِيَاءِ، وإِنَّ الأَنبِيَاءَ لَم يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرهَمًا، وَرَّثُوا العِلمَ فَمَن أَخَذَه أَخَذَ بِحَظٍّ, وَافِر) رواه ابن ماجه وصححه الألباني.
إنه عمر مديد، قضاه غيرهم في المتع والملذات، وقضوه بين أوراق الكتب والمحابر، وأفناه غيرهم في التجارة واللهو، وقضوه في صفوف الحلق أمام المشايخ وأهل العلم، حتى رست سفينتهم على سواحل العطاء، فما توقفت لهم همة، ولا لانت لهم عزيمة، بل تحوّلت سنوات طلبهم إلى تضحيات بالوقت والصحة والمال، يبذلون ذلك كله بنفس راضية سخية رفيقة لكل طالب أو سائل.
غير أن العلم أمانة، وأداء الأمانة إيمان، والإيمان محل امتحان وفتنة، (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُترَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُم لا يُفتَنُونَ). [العنكبوت: 2].
ولم يكن العالم الحق إلا مبتلى، تغدو عليه الابتلاءات وتروح، وإنها لقنطرة خطرة يجتازها من صَدَق، ويخيب فيها الكاذبون!!
قلة المال..وطأة المرض..وجور السلطان.. وإلحاح العامة والجهال.. هذا نزر من الفتن، وإن بدا قليلاً إلا أن له لسعاً كلسع العقارب لا سيما على قلبٍ, عاش في ظلال العلم وأكناف الدروس.
أما قلة المال، فما أجمل حديث ابن الجوزي - رحمه الله - عن فتنته على العلماء حيث قال: \"رأيت نفرًا ممن أفنى أوائل عمره وريعان شبابه في طلب العلم، صبر على أنواع الأذى، وهجر فنون الراحات، أنفقه من الجهل ورذيلته، وطلبًا للعلم وفضيلته، فلما نال منه طرفًا رفعه عن مراتب أرباب الدنيا ومن لا علم له إلا بالعاجل، ضاق به معاشُه أو قلَّ ما ينشده من حظوظ، فسافر في البلاد يطلب من الأرذال، ويتواضع للسفلة وأهل الدناءة والمكّاس وغيرهم.
فخاطبت بعضهم وقلت: ويحك أين تلك الأنفة التي سهرت لأجلها، وأظمأت نهارك بسببها، فلما ارتفعت عدت إلى أسفل سافلين؟ أ فما بقي عندك ذرة من الأنفة تنبو به عن مقامات الأرذال؟ ولا معك يسيرٌ من العلم يسير بك عن مناخ الهوى؟ ولا حصلت بالعلم قوة تجذب بها زمام النفس عن مراعي السوء؟
على أنه يبينُ لي أن سهرك وتعبك كأنهما لنيل الدنيا!! \" صيد الخاطر: 157.
وأما وطأة المرض، فما كان لهم بال أن يعطوا لأجسامهم راحتها لكي تنفك من أوصابها، بل إنهم يتقلدون قول الإمام يحيى بن أبي كثير - رحمه الله - : \"لا يُستطاع العلم براحة الجسم\".
وإنك لتشعر بوضوح أن المرض أو حتى الإعاقة الدائمة لا يعنيان للعالم الرباني إلا مزيدًا من الطموح وعلو الهمة واستنفاد القوة، قال إسماعيل بن أمية - رحمه الله - : \" كان عطاء بن أبي رباح يطيل الصمت، فإذا تكلم خيّل إلينا أنه مؤيد ـ أي من الله ـ، وكان أسود، أعور، أفطس، أشلَّ، أعرج، ثم عَمِي! ففي جسمه ستة عيوب، ولكنه كان ركنًا من أركان العلم والدين والصلاح والقدوة، وكان ثقة فقيهًا، حجّ نيّفًا ـ أي زيادة ـ على سبعين حجة\". تاريخ الإسلام للذهبي 4/279.
ولقد ضرب سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - مثالاً رائعًا في تجاوز بلاء المرض، حتى جعل الله منه أنموذجًا معاصرًا للعالم القدوة، فمع عمى بصره، إلا أنه كان نافذ البصيرة، لا يكل من العطاء، ولا يمل من كثرة السؤال، ولا تزيده سفاهة السائلين إلا أناة ورفقاً بهم، دؤوب العمل، تشغله محن المسلمين، وتفرحه انتصاراتهم.
أما جور السلطان، فليس لتجاوز فتنته سبيل لدى العالم إلا كلمة الحق كما قال النبي:
\"إِنَّ مِن أَعظَمِ الجِهَادِ كَلِمَةَ عَدلٍ, عِندَ سُلطَانٍ, جَائِر\"ٍ, رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب.
وكلمة الحق هي النصيحة التي قال فيها النبي: \"الدِّينُ النَّصِيحَةُ، قُلنَا: لِمَن؟ قَالَ: لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ المُسلِمِينَ وَعَامَّتِهِم\" رواه مسلم.
وهي لا تعني سوء الخطاب، أو غِلَظ الحديث، بل إن لها بالرفق واللين صلة وثيقة وخصوصًا حينما ترتبط بإرادة الإصلاح الحقيقي، وبسط الإيمان والأمان بين الناس، دون قصد التعالي والتباهي بالبحث عن الأخطاء والتشهير بالحكّام، فالله تعال يوصي نبيه موسى وهو في طريقه إلى دعوة أعتى حاكم فيقول - سبحانه -: (اذهَبَا إِلَى فِرعَونَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَولًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَو يَخشَى قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفرُطَ عَلَينَا أَو أَن يَطغَى قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسمَعُ وَأَرَى)[طه: 43-46]، ولاحظ كيف كان هذا الأسلوب الإلهي مدعومًا دعمًا مباشرًا بمعية الرحمن - سبحانه - التي تصحب الدعاة الصادقين والناصحين المخلصين.
ومن هنا كان لهارون الرشيد - رحمه الله - موقفًا طريفًا حينما جاءه من يعظه وقد أغلظ عليه في الوعظ والتذكير فقال له الرشيد: \" يا هذا، إن الله- تبارك وتعالى -قد أمر من هو خيرٌ منك بإلانة القول لمن هو شرٌ مني، قال لنبيه موسى - عليه الصلاة والسلام - إذ أرسله إلى فرعون: \"فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى).
وصدقني ـ أيها القارئ الكريم ـ إن الحاكم المسلم يقدًّر في العلماء علمهم، ويجلّ فيهم هيبتهم ماداموا يسيرون على سمتهم الوقور، ويتكلمون على لسان مصالح الشعوب، حتى ولو خالفوه في مبادئه أو في بعض تصرفاته، وحتى لو سجنهم أو كممهم إلا أن لهم في قلبه تعظيمًا وتقديرا!!
وتأمل موقف غازان التتري مع شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - حينما وقف بين يديه يناصحه ويناشده الرجوع إلى الحق فإنه قال له بلسان الأمة لا بلسان الطامع في رضاه أو في التقرب منه: \"أنت تزعم أنك مسلم ومعك قاض وإمام وشيخ ومؤذنون على ما بلغنا، فغزوتنا وبلغت بلادنا.. على ماذا؟ وأبوك وجدك كانا كافرين، وما غزوا بلاد المسلمين بعد أن عاهدونا، وأنت عاهدت فغدرت، وقلتَ فما وفيت!!
فقرّب غازان إلى الوفد طعامًا فأكلوا إلا ابن تيمية، فقيل له: ألا تأكل؟ فقال: كيف آكل من طعامكم وكله مما نهبتم من أغنام الناس وطبختموه بما قطعتم من أشجار الناس؟ وغازان مصغٍ, لما يقول، شاخص إليه لا يعرض عنه، وإن غازان من شدة ما أوقع في قلبه من الهيبة والمحبة، سأل: مَن هذا الشيخ؟ إني لم أر مثله، ولا أثبت قلبًا منه، فأُخبر بحاله، وما هو عليه من العلم والعمل، ثم طلب منه غازان الدعاء، فقال الشيخ يدعو: اللهم إن كان عبدك هذا إنما يقاتل لتكون كلمتك العليا، وليكون الدين كله لك، فانصره وأيده، وملكه البلاد والعباد، وإن كان قد قام رياء وسمعة، وطلبًا للدنيا، ولتكون كلمته هي العليا، وليذل الإسلام وأهله، فاخذله وزلزله ودمره واقطع دابره، وغازان يرفع يديه يؤمن على دعائه!! \"
وفتنة العالم بالسلطان عظيمة ولا شك، ذلك حينما يهيل عليه الأموال، ويرفع له المناصب، ويبسط له الوجه، ويمنيه بالجاه، ويقضي له الدين والحوائج، حتى إذا تكاثرت عليه العطايا حجب عنه نور العلم، واستوحش منه الناس، ونظر إليه الحاكم نظرة التحقير لما يرى منه من التذلل لأجل حوائجه، قال ابن الجوزي - رحمه الله - : \"حضرنا بعض أغذية أرباب الأموال، فرأيت العلماء أذل الناس عندهمº فالعلماء يتواضعون ويذلون لموضع طمعهم فيهم، وهم لا يحفلون بهم لما يعلمونه من احتياجهم إليهم\" صيد الخاطر: 194.
والناظر بعين الإصلاح يجد أن العالم الناصح لابد أن يتعلم فنّ النصح للسلاطين دون التقرب إليهم فهو أنفع له ولأمته من قدرته على نقدهم بين العامةº أو البعد عنهم من غير نصح أو توجيه، فتلتهم مجالسَهم بطانةُ السوء، فلا تُرحم حينها العوام ولا الخواص.
أما فتنة إلحاح العامة على العالم، فلا تقل تأثيرًا اليوم عن سلطة الحاكم وجبروته، فإن قامت للعامة همة وحماس أوقدوا في العالم نار التحرّك واستطالة الحديث، يحصرونه في زاوية ضيقة من الذهاب عليه والإياب، والجدل والاستعجال، حتى يفعل أو يقول ما لو تأمل فيه بعد ذلك ما قال ولا فعل!!
وإن لم يكن للعامة همٌ بالأمة ولا ما يدور فيها كانوا أكثر لومًا وعتابًا للعالم على ما قال أو فعل، أو أمر أو أنكر!!
وهنا تأتي حكمة العالم الحكيم، لا تزيده ضجة الناس من حوله إلا خوفًا من الله أن يقول ما لا يرضيه وإن أسخط الناس، ولا ينتظر منهم أن يتجمهروا حوله حتى يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر، وإنما زادُه في ذلك كله العلم والحكمة والأناة والعزيمة والنصح الخالص للمسلمين.
يقول ابن القيم - رحمه الله - : \"سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يقول: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فقلت له: إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء تصدهم الخمرة عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال، فدعهم\".
ومن ذلك ما ذكره ابن كثير ـ - رحمه الله - ـ بقول: \"لقد تكلم الناس في كيفية قتال هؤلاء التتار من أي قبيل هو؟ فإنهم يظهرون الإسلام وليسوا بغاة على الإمام، فإنهم لم يكونوا في طاعته فخالفوه.
فقال الشيخ تقي الدين: هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على عليّ ومعاوية ورأوا أنهم أحق بالأمر منهما، وهؤلاء يزعمون أنهم أحق بإقامة الحق من المسلمين، ويعيبون على المسلمين ما هم متلبسون من المعاصي والظلم، وهم متلبسون ما هو أعظم منه بأضعاف مضاعفة، فتفطن العلماء والناس لذلك\" البداية والنهاية 14/24.
إنها أمانة العلم فحسب، ثقل في الدنيا، ومحاسبة في الآخرة، وسبيل بالعطاء إلى الغفران، وطريق بالكتمان إلى الخسران، تصان بالورع، وتزكو بالتواضع، وتبقى بالصبر مدى الأزمان.
فسبحان الله القائل: (يَرفَع اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُم وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلمَ دَرَجَاتٍ,).
و- سبحانه - عز من قائل عليم:(وَإِذ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِم وَاشتَرَوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئسَ مَا يَشتَرُونَ)[آل عمران: 187].
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد