لله درٌّ جعفر بن أبي طالب ما أحكمه!


  

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

يقول - تعالى -: \"لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب\"ومن أعظم القصص التي نقلت لنا في كتب السير ما دار بين النجاشي ملك الحبشة وبين جعفر بن أبي طالب من حوار، عندما أرسلت قريش رسلها طالبة تسليم مهاجري الحبشة إليها بصفتهم أي مهاجري الحبشة غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دين النجاشي، واستخدموا في سبيل ذلك الأساليب المعروفة بما في ذلك رشاوى لبطارقة النجاشي وله شخصياً وهي وسائل دنيئة ينهجها المعتدي عند ضعف حجته. كما عمدوا إلى إقناع البطارقة بعدم ترك الفرصة للمهاجرين للرد على أكاذيب كفار قريش وهو نفس الأسلوب الذي ينتهجه الإعلام في زماننا بعدم إعطاء فرصة لأهل الحق في أي حوار أمام الجماهير، إلا أن النجاشي كان ملكاً حكيماً فرفض إلا إعطاء الطرفين فرصة للحوار فما الذي دار؟

 

قبل أن أتحدث عن الدروس المستفادة لابد من الإقرار بأن النجاشي كان حالة خاصة فهو يمثل طائفة من النصارى تبحث عن الحق وتدافع عن المظلومين ومن أجل هذا أختار النبي - صلى الله عليه وسلم - الحبشة مهاجراً لأصحابه، لكننا نعلم جميعاً وبالذات من سافر إلى بلاد الغرب طولاً وعرضاً بما فيهم كاتب هذا المقال بأن في تلك البلاد أقوام تنطبق عليهم صفات النجاشي وهم من ذكرهم الله بقوله: (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة...الآية) ومن هذا المنطلق فقد استخدم جعفر - رضي الله عنه -إستراتيجية بارعة في خطاب هذا الصنف من غير المسلمين، ولم يتحدث جعفر - رضي الله عنه - إعتباطاً بل انتدبه كبار الصحابة من مهاجري الحبشة للقيام بهذا الدور واتفقوا على أن لا يتكلم غيره في حضرة النجاشي، وهي قضية هامة لنجاح أي حوار فلا بد بأن يكون الحوار هادئاً وهادفاً وإلا فلا فائدة من حوارات نشاهدها في زماننا يغلب عليها طابع مصارعة الثيران والانتصار للنفس بصرف النظر عن الأهداف والنتائج.

 

وقبل أن يذهب جعفر إلى حلبة الحوار أتفق مع المهاجرين على الثوابت \"نقول والله ما علمنا، وما أمرنا به نبينا كائناً في ذلك ما هو كائن\" وبعد أن حددوا لناطقهم الرسمي الثوابت تركوا له تكتيك إدارة الحوار وفنيات إخراجه، وسنرى بأنه قام بدوره خير قيام كيف لا وهو من هو من بيت النبوة ينهل من معينه الصافي، كيف لا وهو أحد الخمسة الذين يشبهون المصطفى - صلى الله عليه وسلم - تربى في بيت عمه العباس - رضي الله عنه - كما كان من رفعة خلقه وحبه للبر يلقب بأبي المساكين، فلله دره ما أحكمه وأفقهه.

 

بدأ النجاشي بالسؤال: ما هذا الدين الذي استحدثتموه لأنفسكم وفارقتم بسببه دين قومكم، ولم تدخلوا في ديني، ولا في دين أي من هذه الملل؟

تقدم جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - وقال: أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف وبقينا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً مناٌ، لم يشأ جعفر أن يبدأ بمناقشة أباطيل رسل قريش فيدخل معهم في جدال عقيم خاسر يضعف موقفه، ولم يتحدث عن عتاولة كفار قريش فأمرهم لا يهم المستمعين لهذا الحوار، ولم يجب على أسئلة النجاشي تحديداً فهو لا يهدف في حواره إلى استعداء النجاشي أو بطارقته، ولم يستخدم أسلوب عنترة أبن شداد فليس هذا مقامه، تحدث عن نفسه ومن يمثِّلهم, كشف عوار دين قومه المزعوم دون الدخول في المهاترات الشخصية أو التفصيلات المملة.

 

كانت مقدمته هذه ضرورية لما بعدها، فدينٌ هذه حالته لا يمكن لعاقل أن يستمر في اعتناقه، كان جعفر - رضي الله عنه- يخاطب عقول الحاضرين لا عواطفهم، لم يستشهد حتى هذه اللحظة من الحوار بآية ولم يورد حديثاً بل انصب خطابه على الأطر العامة التي تناسب ثقافة وعقليات مستمعي الحوار.

 

ثم أنطلق - رضي الله عنه - في الجزء الثاني من خطابه إلى إيضاح ما أمر به نبي هذا الدين العظيم من توحيد الله، والبراءة من الشرك وهي أساس دعوة الرسل جميعاً - قبل تحريفها -ثم أنطلق - رضي الله عنه - يعدد من مكارم الأخلاق التي أمر بها نبينا - عليه الصلاة والسلام - قائمة تناسب مقام الحوار وأفهام وخلفية السامعين \"أمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم، وحقن الدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات\" فتأمل كيف منَّ الله عليه بهذه القدرة على الإيجاز في الخطاب وتأمل كيف بدأ بهذه الجملة من السلوكيات العظيمة قبل الشروع في ذكر العبادات وأركان الإسلام التي عددها له لاحقاً، ثم ختم جعفر - رضي الله عنه -خطابه بالحديث عن حال الظلم والقهر الذي وقع عليهم من قومهم مما دفعهم إلى الهجرة إلى بلاد هذا الملك - النجاشي - تحديداً لعدله وفضله.

 

وهنا طلب النجاشي من جعفر أن يقرأ عليه شيئاً مما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الله - عز وجل - فأختار جعفر أن يقرأ صدر سورة مريم، قالت أم سلمه: \"فبكى النجاشي حتى أخضلت لحيته بالدموع\" وبكى أساقفته حتى بللوا كتبهم، لما سمعوه من كلام الله. ألم يكن من الممكن لجعفر أن يقرأ أي سورة أخرى من كتاب الله؟ بلى، ولكن أختار ما يناسب الموقف، فالنصارى تدور عقيدتهم على الغلو في حبِّ مريم وعيسى، وتهيج مشاعرهم عندما يسمعون أتباع دين جديد يدافعون عن مريم الطاهرة، ويقارنون ذلك بموقف يهود - عليهم لعنة الله- الذين يقولون في مريم بهتاناً عظيماً.

 

لذا فلم يكن من المستغرب أن تنتهي هذه المعركة الحوارية بنصر جعفر وأصحابه على رسل قريش، بل إن النجاشي حسم الأمر بقوله: \"إن هذا الذي جاء به نبيكم والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة\" ووعد بحمايتهم وعدم تسليمهم.

 

كم نحن بحاجة في هذا الزمان الذي يعاني فيه المسلمون من صنوف من القهر والعدوان إلى انتهاج خطاب في حوار العقلاء من غير المسلمين، يتدسس إلى عقولهم ومن ثم قلوبهم فينضموا للدفاع عن المظلومين من المسلمين في أنحاء العالم: (عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأساً وأشد تنكيلا)، كم نحن بحاجة دعاة وعامة إلى التأمل في هذا الخطاب الجعفري الرائد لغير المسلمين، كان بإمكان جعفر أن يفجر الموقف وينهي القضية دون النظر إلى عواقب هذه الاستراتيجية، لقد اختار جعفر هذا الأسلوب من الخطاب فضلاً من الله ومنه أولاً ثم حكمةً وفقهاً منه بطبيعة المرحلة.

 

لم يكن انتهاج هذا الخطاب جبناً منه أو إيثاراً للعاجلة فحاشاه - رضي الله عنه - لم يتهم جعفر بالمهادنة من باقي المسلمين ولم يقذف بألفاظ بذيئة فرقت المسلمين وزرعت العداءات بينهم، لقد ختم لجعفر - رضي الله عنه- بالشهادة في مؤتة ورآه النبي - صلى الله عليه وسلم - يطير في الجنة بجناحين مضرجين بالدماء وهو مصبوغ القوادم، فلله درّه - رضي الله عنه - وأرضاه وجمعنا به في جنات النعيم آمين.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply