أوراق متناثرة في تاريخ الصحافة الإسلامية.. ( 6 )


  

بسم الله الرحمن الرحيم

\"... استمرّت الصحيفة على هذا الوتيرة في ظل إدارة محمد عبده، و انتظم صدورها و أصبحت صحيفة رسمية تصدر في كل يوم عدا يوم الجمعة، و امتلكت مطبعتها المستقلّة، و استقطبت العديد من الكتّاب الأكفّاء، و انتشرت بين الإدارات و الدواوين و النظارات و المحاكم الشرعية في مصر و السودان و جهات من هرر... \"

يكاد يتّفق الباحثون على أن صحيفة الوقائع المصرية أوّل صحيفة عربية بما يعنيه مصطلح الصحيفة من معنىº إذ أُنشئت صحيفة الوقائع في القاهرة كامتداد لملخّص اسمه \" الجورنال \" يحوي تنظيم حسابات الأقاليم و المصالح و شئونها الإدارية و كشوف الأقاليم البحرية و القبلية و المحاصيل في مصر و غيرها من الأمور التي تهمّ الخديوي \" محمد علي \" مع بعض كبراء الدولة، لكن هذا الملخّص لم يعد يكفي نظراً لاتّساع الدولة و تشعّب حاجاتها و قضاياها، فصدر الأمر من الوالي \" محمد علي باشا \" بإنشاء صحيفة \" الوقائع \" في عام 1828م.

و لكن هذه الصحيفة لم تكن متاحة لكافة طبقات المجتمع، بل كانت مقصور تداولها على النخبة فقط من كبار الملاّك و العلماء و تلاميذ المدارس الملكية و المبعوثين في أوروبا، و كان عددهم بسيطا جدا إذ كان لا يتعدّى 600 قاريء!.

إلى جانب هذا كانت اللغة العربية في هذه الصحيفة مهملة، حتى كانت اللغة العربية إلى اللهجات العامية أقرب، إذ تصدر الصحيفة باللغة التركية و تُترجم إلى اللغة العربية في وقت واحد، لكن القائم على تحرير الصحيفة - و كما يرى بعض الباحثين - كان رجلاً تركيّاً أو ذا ميول تركيةº حيث كان يترجم المضمون من اللغة التركية إلى العربية بدون عناية و اهتمام بالأساليب العربية أو اختيار للألفاظ السليمة التي تؤدي دورها بشكل صحيح.

بيد أن هذا الأمر تغيّر بعد تولّي \" رفاعة رافع الطهطاوي \" شأن الصحيفة عام 1842 م، فقد أولي عناية باللغة العربية و جعلها هي الأصل، و تشغل الجانب الأيمن في الصحيفة بدلاً من اللغة التركية كما كان في السابق. و اهتمّ أيضاً بشأن نشر المادّة الأدبية، و استقطب أدباء معروفين مثل \" أحمد فارس الشدياق \" الكاتب الأديب، و السيّد \" شهاب الدين \" تلميذ رفاعة و مساعده.

و نشرت الصحيفة بعض القصائد الشعرية و مقتبسات من مقدّمة ابن خلدون، و كتب فيها رفاعة الطهطاوي أوّل مقال كامل يُنشر في الصحافة المصرية تحت عنوان \" تمهيد \"، و كان ذلك في العدد رقم 623 في غرّة ربيع الثاني عام 1258 هـ (1842 م)، و كان أول عدد بعد تولّي رفاعة الإشراف على الصحيفة.

و قد كان هذا المقال الرائد الذي كان ردّاً على افتراءات بعض المستشرقين على الإسلام، أشبه بالنواة و اللبنة الأساسية في طريق تأسيس صحافة إسلامية ذات طرح عصريº إذ جمع في رؤيته بين الأصالة و المعاصرة و القدرة الفائقة على التحليل و النفاذ إلى دقائق الأمور.

يقول الدكتور عبد اللطيف حمزة عن هذه النقلة الإيجابية في عمر الصحيفة: \" ثم دخلت الوقائع المصرية في طور ثانٍ, من أطوار حياتها، و ذلك بمجيء رفاعة رافع الطهطاوي إليها، و ذلك في عام 1842 \" ا هـ.

لكن هذا الإزدهار لم يدُم طويلاً إذ ابتعد رفاعة عن تحرير الصحيفة بعد صدور عددين منها فقط، و عادت الصحيفة القهقرى إلى ما كانت عليه في السابق من هبوط في اللغة العربية، و اضمحلال في المستوى التحريري، و كانت أيضا تصدر بصورة متقطّعة و غير منتظمة.

و امتدّ التدهور في الصحيفة حتى عام 1865 م، حينما أصدر الخديوي عباس أمراً بترتيب الصحيفة و تنظيمها. و لكن العهد الزاهر لها بدأ منذ عام 1880 م، عندما تولّى تحريرها الأستاذ \" محمد عبده \" بناء على أمر من الخديوي توفيق، و استهلّ الأستاذ محمد عبده عمله في الصحيفة بإعداد تقرير لإصلاح الصحيفة ثم رفعه إلى رياض باشا، الذي اهتمّ بهذا التقرير و كافأ بدوره الأستاذ بتعيينه رئيساً لتحريرها.

 

و ضمّ الأستاذ إليه نخبة من الكُتّاب ممن كانوا يشاركونه اتجاهه الفكري و السياسي، و هم: عبد الكريم سليمان، و سعد زغلول، و سيّد وفا.

و كان لهذه الإدارة الجديدة أثر طيب في رفع مستوى الصحيفة و تطويرهاº إذ لم يخلُ عدد منها من مقال يتناول القضايا السياسية و الاجتماعية و الأدبية، و كان الشيخ رشيد رضا - رحمه الله - يتحدّث عن هذه النقلة النوعية التي أحدثتها هذه الإدارة الجديدة، قائلاً:

\"و إن العجيب حقا أن ترى صاحب عمامة أزهرية يدخل في حكومة مطلقة بعيدة في أعمالها عن رجال العلم و الدين، فيشرف من نافذة غرفة تحرير الجريدة الرسمية على نظارات الحكومة و مجالسها و محاكمها، ثم يشرف من نافذة أخرى على الأمة فيقوّم من أخلاقها و يصلح ما فسد من عاداتها، و يطلّ من نافذة ثالثة على الجرائد العربية، فيعلّمها حسن التحرير و يدرّبها على الصدق في القول \" أ هـ.

استمرّت الصحيفة على هذا الوتيرة في ظل إدارة محمد عبده، و انتظم صدورها و أصبحت صحيفة رسمية تصدر في كل يوم عدا يوم الجمعة، و امتلكت مطبعتها المستقلّة، و استقطبت العديد من الكتّاب الأكفّاء، و انتشرت بين الإدارات و الدواوين و النظارات و المحاكم الشرعية في مصر و السودان و جهات من هرر، و تعاونت مع وكالتي \" رويتر \" و \" هافاس \" للأخبار منذ منتصف عام 1880 م.

بيد أن الذي يهمنا في هذا المقام هو الجانب الإسلامي في خطاب الصحيفة الإعلامي، و الذي تمثّل كما رأينا بتولّي الأستاذ رفاعة الطهطاوي و كذلك الأستاذ محمد عبده زمام الصحيفة، إذ نستطيع من خلال استقراء مسيرة الصحيفة تحديد محورين اثنين كانا يمثّـلان ركائز الخطاب الإسلامي فيها، و هما:

1 - محاربة البدع و الخرافات الشائعة آنذاك في المجتمع المصري.

2 — الحفاظ على اللغة العربية باعتبارها لغة القرآن و السنة.

أما في مجال محاربة البدع و الخرافات التي انتشرت في المجتمع المصري، فقد كانت جهود الأستاذ محمد عبده واضحة في هذا الصدد، إذ ركّز على إبطال و إنكار بدع المآتم و الجنائز و الحشيش و خرافات التصوّف، و نبّه على وجوب رجوع المسلمين إلى الكتاب و السنة على فهم السلف الصالح، إلاّ أنه لم يسلم بنفسه من الشطط و بعض الاجتهادات العقلانية المنحرفة، كما هو معلوم.

أما في مجال اللغة العربية و العناية بها، فقد عمل على الحفاظ على اللغة العربية و العضّ عليها بالنواجذ على اعتبار أنها لغة القرآن الكريم و السنة النبوية، و أن جهل المسلمين بها هو الذي سبّب انتشار البدع و الخرافات بين ظهرانيهم، يقول الدكتور سامي عبد العزيز الكومي: \" و قد ظهر أثره في النهوض باللغة العربية أثناء توليه رئاسة الوقائع في ثلاث نواحي:

ا — مقالاته ذات المستوى العالي في أسلوبها و أفكارها.

ب — إن إلزام إدارات الحكومة و نظارتها بنشر أخبارها و حوادثها في الجريدة الرسمية قد اقتضى أن اضطر الجاهلون باللغة و التحرير إلى استدعاء المعلمين أو المبادرة إلى المدارس الليلية، ليتعلموا كيفية التحرير و عم ذلك المديريات، كما عم النظارات، و ذلك هو تاريخ إصلاح التحرير في مصالح الحكومة.

جـ — كان لإشرافه على المطبوعات و إدارتها و لفت نظر الصحف إلى تجويد تحريرها و تحسين أسلوبها و إلا أنذرت كان لذلك أثره في جعل الجرائد تلبي دعوته، شأنها شأن الدواوين فأصبحت تتسابق إلى إظهار مزاياها في التحرير حتى تعجب إدارة المطبوعات و المشرف عليها \" أ هـ.

ختاما، لقد كان لصحيفة الوقائع المصرية دور طيب و إيجابي في التمهيد لنشوء الصحافة الإسلامية رغم ما شابها من انحرافات فكرية فرضتها طبيعة بعض اتجاهات القائمين عليها مثل رفاعة الطهطاوي و محمد عبده، لكن هذا لم يمنعها من ترك بصمات هامة في تنظيم و تأسيس العمل الصحافي وفق الشكل الذي يتناسب مع طبيعة العصر و مقتضياته الإعلامية، و متّسق كذلك مع طبيعة العمل المهني في مجال الصحافة من النواحي التحريرية و الفنية، الأمر الذي نراه ماثلاً في جميع الصحف و المجلات الإسلامية هذه الأيام. و الله - تعالى -ولي التوفيق.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply