هذا ما جرى العمل به في قرطبة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

اصطلاح \" هذا ما جرى العمل به في قرطبة \" أندلسي المنشأ مالكي المشرب جادت به قريحة علمائنا من السلف و إضافة بارزة في تراثنا الفقهي، قعدت لقاعدة من المصادر يركن إليها فيما يستجد من أمور الحكم والفتيا، ووسيلة تنبئ عن آلية رقي لمجتمع حضاري إسلامي.

ولابد من توطئة استشفاف للجذور ومن ثم الكلام عن إشراقات هذه القاعدة. المذهب المالكي لإمام دار الهجرة أنس بن مالك - رحمه الله تعالى - ربيب البيئة النبوية التي كانت على حداثة عهد بالنبوة لذلك رأى أن عمل أهل المدينة مرجح بين الأقوال وعد من أميز أسس مذهبه حتى عاب على بعض فقهاء عصره عدم اعتمادهم ذلك كما في نص رسالته للفقيه الليث بن سعد - رحمه الله تعالى - حيث قال: {إن الناس تبع لأهل المدينة التي كانت الهجرة إليها وبها نزل القرآن}.

وانتشر المذهب المالكي في أصقاع إسلامية عدة، إلا أنه استوطن الشمال الإفريقي. وفي الأندلس ارتبط ارتباط العلة بالمعلول، وفي عهد الأمير الأموي الأندلسي الحكم بن هشام الثالث المعروف بالربضي انتظم غالبية الناس تحت مظلة المذهب المالكي فكان الدستور العام لبلاد تخالطت فيها الأعراق، وحدثت بها الوقائع، ونبغ خلالها العلماء.

وأول بوادر التميز ما عرف بفقه النوازل. ومن أشهرها نوازل ابن رشد - رحمه الله - تعالى وغدا المذهب المالكي مضمار السباق وغاية التنافس، حتى إن الفقيه عبد الوهاب بن نصر البغدادي - رحمه الله - تعالى ألف كتاباً أسماه {النصرة لمذهب إمام الهجرة} في مائة جزء.

هذا التأطير المذهبي المحدد الحواف دفع فقهاء الأندلس للبحث عن آليات أصولية تتوائم مع الواقع فجنحوا للأخذ بالقول الضعيف، فإن كان لدرء مفسدة عد من باب سد الذرائع، وإن كان لجلب منفعة فهو على أصله مصلحة مرسلةٌ تمشياً مع مقاصد الشريعة الغراء.

ولأن قرطبة كانت حاضرة الأندلس ومركز إشعاعه فإن الفقهاء الآخرين كانوا تبعاً لها، وفي إضاءة تبين أهمية قرطبة ودورها أورد أبياتاً من النظم، ولمعة من الطرف:

ففي الشعر:

وأيـن يعدل عن أرجاء قرطبة * * *  من شاء يظفر بالدنيا وبالدين؟

 

قـطـر فسيح ونهر ما به كَدَرٌ  * * * جـفت بشطيه ألفاف البساتين

 

يا ليت لي عمر نوح في إقامتها  * * * وأن مالــي فيها كنز قارون

أما وفرة العلماء القرطبيين فحدث ولا حرج. وفي هذه اللمعة من أسفار الأندلسيين نعطي دلالة واضحة على ذلك، أيام كانت لنا حضارة فإن الصدور من الاتساع ما تقبل معه تجاوز المنهجية الشكلية، فقد حدثت مناظرة بين الإمام ابن رشد القرطبي وأبي بكر الإشبيلي عند ملك المغرب المنصور يعقوب بن عبد المؤمن، فأراد الإمام ابن رشد إنهاء المناظرة فقال {....ما أدري ما تقول غير أنه إذا مات عالم بإشبيلة فأريد بيع كتبه حملت إلى قرطبة حتى تباع، وإن مات مطرب في قرطبة فأريد بيع آلاته حملت إلى إشبيلة... }.

بهذا الزهو كان علماء قرطبة لذلك لم يكونوا يراجَعون في فتيا!.

وفي بداية القرن الرابع الهجري الثالث الأندلسي تمالأ الفقهاء على الأخذ ببعض الأقوال الضعيفة لاتساع الرقعة وكثرت المسائل وتشعبت وتباينت الظروف، وأول من شهر بذلك الإمام ابن الهندي فلم يسَع باقي العلماء إلا الاتباع لعلماء قرطبة كما ورد في (نفح الطيب) حيث كتب:

{اعلم أنه لعِظَم أمر قرطبة كان عملها حجة بالمغرب، حتى إنهم يقولون في الأحكام: هذا ما جرى العمل به في قرطبة}.

ودخل على هذا الاصطلاح كتب الفقه فقد ذكر ابن فرحون في كتابه التبصرة:

{إن نصوص المتأخرين متواطئة على أن ما جرى العمل به مما يرجح به القول الضعيف}.

ولعمر الله أنها للفتة إجماع من علماء كان فقههم للواقع ممارسة، وذهنهم من الجودة ما جعل الأوليات أمراَ بدهياً، فلا غرو أن يزدهر مجتمعهم وتزال منه الصعاب وتورق الحضارة في عهدهم.

ويعرف اصطلاح ما جرى العمل به في قرطبة على النحو التالي:

{اختيار قول ضعيف والحكم والإفتاء به، وتمالؤ الحكام والمفتين بعد اختياره على العمل به لسبب اقتضى ذلك}.

ولهذه القاعدة شروط من أهمها:

ثبوت جريان العمل به.

معرفة الأئمة الذين أفتوا به.

توضيح سبب العدول عن المشهور أو الراجح.

تحديد زمان ومكان الأخذ به.

لقد كانت هذه القاعدة جسراً من جسور توحيد الكلمة، وإحدى قنوات الالتقاء، وفيئاً يستظله المسلمون، بدأته النخبة من المفكرين العلماء الذين لا يقفون عند رسم الألفاظ، وممن يملكون الرؤية الواقعية الفاحصة، والقادرون على استشفاف المستقبل. ففي نص رسالة الإمام ابن الهندي - رحمه الله تعالى - يوجه أحدَ القضاة خارج قرطبة قال:

{العدول عن القول الراجح أو المشهور في بعض المسائل إلى القول الضعيف فيها رعياً لمصلحة الأمة وما تقتضيه حالتها الاجتماعية}.

أي رجال كان علماء السلف؟. مراعاة مصلحة الأمة والنظر في حالتها الاجتماعية. كم يقلقهم التفرق والشتات؟. وكم نعاني نحن في وقتنا الحاضر من الرؤى الضيقة؟! مئات يموتون لأداء نسك يصر فيه بعض منا على الأخذ بالأحوط، وتروَّع البلاد، ويقلق العباد، لفتوى طالب علم يصر على قول ما؟. وهذا أحد علمائنا الأندلسيين هو الإمام أبو سعيد بن اللب من علماء القرن الثامن يقول:

{إذا كان عمل الناس على قول بعض العلماء، فلا ينبغي الإنكار، لاسيما لما كان الخلاف في كراهته}.

ليت هذا الفقه ينتشر بين الدعاة، لتتسع الصدور ونحمل هَمَّ الأصول التي ضيعت بدلاً من الاختلاف في الفروع والجزئيات، بل زاد صاحب كتاب المعيار: {أن ما جرى به عمل بين الناس ينبغي أن يتلمس له مخرج شرعي ما أمكن}

فلا للتقسيم الحاد وعمى الألوان، ولا للمطالبة الملحة والمستمرة بالدليل، لمن لا يفقه اللغة، ولا دراية له بالنواسخ، ولم يجثُ من قبل على ركبتيه أمام السادة العلماء، ولا للاستخفاف بأقوال العلماء والانتقاص من قدرهم وهيبتهم في نفوس العوام لأنه ضرب من ضروب هدم الدين، والسعي الحثيث لوحدة الأمة في مسارب الفقه ودروب السياسة، وكم رفع نبغاء الأمة شعارات التوحد فهذا الإمام البنا يقول: {نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه}.

إن تراثنا الفقهي مليء وغني بحيث يجعلنا في غَناء عن استيراد أنظمة قائمة في جوهرها على مثل لا تليق بالمسلم. وكثيرون لا يعرفون أن القانون الفرنسي الذي هو أبو الدساتير الوضعية ارتكز في وضعه واشتقاقه على زخم الفقه المالكي.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply