بسم الله الرحمن الرحيم
تعودنا أن تقف الأمة عد مفاصل التاريخ العظيمة، ولحظات الانتصار أو الانكسار الحاسمة، لتملأ ماضيها فخرًا عند الأولى، وتملأ الدنيا صراخًا وعويلاً عند الثانية.
لم نتعود بما يكفي أن نبحث عن الأسباب، عن المياه العذبة التي غذت الثمرة الناضجة، أو عن السوس الذي نخر جذع الشجرة الوارفة فسقطت.
لقد عانت القضية الفلسطينية من المشكلة ذاتها...
منذ خمسة قرون والأمة في عامتها لا تعرف إلا صلاح الدين وفتحه لبيت المقدس، وكلما ذكرت فلسطين ذكر صلاح الدين.
بل كلما دعا داعي فلسطين للجهاد والبذل تمتم العجزة: رحم الله صلاح الدين.. لو خرج فينا اليوم صلاح لقادنا إلى النصر!! وهذا وهم، فقد كان صلاح الدين الثمرة.. فهل هناك ثمرة بدون شجرة؟ وهل هناك شجرة بدون جذور؟ وهل تنبت الجذور إلا من بذرة؟
فمن الذي ألقى بذرة الشجرة؟ ومن الذين تعهدها بالسقي والرعاية حتى أثمرت صلاح الدين؟
إن صلاح الدين لم يأت فجأة، لم ينزل معجزة من السماء، ولا كان ملكًا مرسلاً فرد جناحيه على الأمة فانقادت إلى النصر وحررت بيت المقدس.
من قبل صلاح.. كان هناك ألف صلاح.. بل ألف رجل أعظم قدرًا وأجل أثرًا من صلاح.
وحسبي أن أقف اليوم مع واحد من هؤلاء الذين مهدوا لصلاح الدين.
مع رجل كان ممن هيأ ـ بإذن الله ـ كل شيء لصلاح الدين.
مع البطل العملاق الذي أسس جيل النصر الذي قاده صلاح الدين إلى فلسطين.
من هو هذا الرجل؟ وكيف أسس جيل النصر؟ وكيف هيأ الأمور ليقود صلاح الدين الأمة إلى النصر؟ ما هي الخطوات التي اتبعها؟ وكيف خطط؟ ماذا عمل؟ وعلى أية سياسة سار؟
إنه نور الدين زنكي.. وهذه محاور بنائه التأسيسي لجيل النصر.
المحور الأول: تأسيس القيادة النموذج:
لقد عمل نور الدين أول ما عمل على أن يصنع للأمة قيادة راشدة تقية تمثلت في شخصه الشريف - رحمه الله -. فجمع الدين والتقوى والعلم والشجاعة والبصر بالقتال وفنونه.
اسمعوا ما يقوله ابن الأثير: طالعت السير، فلم أر فيها بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسن من سيرته، ولا أكثر تحريًا للعدل، وكان لا يأكل ولا يلبس ولا يتصرف إلا من ملك له قد اشتراه من سهمه من الغنيمة، فلقد طلبت منه زوجته، فأعطاها ثلاثة دكاكين فاستقلتها، فقال: ليس لي إلا هذا، وكان يتهجد كثيرًا. [سير أعلام النبلاء 20/535].
قال الذهبي: \'وكان نور الدين مليح الخط، كثير المطالعة، يصلي في جماعة، ويصوم ويتلو ويسبح ويتحرى في القوت، ويتجنب الكبر ويتشبه بالعلماء الأخيار.. وكان من رآه شاهد من جلال السلطنة وهيبة الملك ما يبهره، فإذا فاوضه رأى من لطافته وتواضعه ما يحيره، حكى من صحبه سفرًا وحضرًا أنه ما سمع منه كلمة فحش في رضاه ولا في هجره\'. [السير 20/532].
وقال الموفق عبد اللطيف: كان نور الدين لم ينشف له لبد من الجهاد، وكان يأكل من عمل يده، ينسخ تارة ويعمل أغلافًا تارة، ويلبس الصوف، ويلازم السجادة والمصحف\'. [السير 20/543].
وكان ذكيًا ألمعيًا فطنًا لا تشتبه عليه الأحوال، ولا يتبهرج عليه الرجال.
وكان ينام بعد صلاة العشاء ثم يستيقظ في منتصف الليل فيصلي ويتبتل إلى الله بالدعاء حتى يؤذن الفجر، كما كان كثير الصيام.
وجاءه التشريف من الخليفة العباسي بأن يدعو له على المنابر على هذا الوجه: اللهم أصلح المولى السلطان الملك العادل العالم العامل الزاهد العابد الورع المجاهد المرابط المثاغر نور الدين وعدته، ركن الإسلام وسيفه، قسيم الدولة وعمادها، اختيار الخلافة ومعزها... سيد ملوك المشرق والغرب وسلطانها، محيي العدل في العالمين، منصف المظلوم من الظالمين، ناصر دولة أمير المؤمنين، فألغى ذلك كله واكتفى بدعاء واحد هو: [اللهم أصلح عبدك الفقير محمود بن زنكي]!!
المحور الثاني: تأسيس الوحدة النموذج:
لقد حرص نور الدين على تحقيق أكبر قدر من الوحدة الإسلامية دون أن يريق دماء المسلمين، فقد كان شديد الحفاظ عليها، وكان يقول: لا حاجة لقتل المسلمين بعضهم بعضًا، وأنا أوفرهم ليكون بذل نفوسهم في مجاهدة المشركين.
وكانت الإمارات ـ لما عُرف عنه من دين وحزم ـ تفرح بالانضمام إليه، وتسر بالدخول تحت حكمه.
ضم نور الدين حمص ودمشق وتوالت سيطرته على مدن وقلاع الشام حتى خضع معظمها له دون إراقة دماء، ثم تابع جهوده حتى تمكن من السيطرة على مصر التي كانت بيد الفاطميين.
تمكن نور الدين من السيطرة على الشام ومصر وطوق بذلك فلسطين التي كان يستولي عليها الصليبيون، وحقق بذلك وحدة طوقية رائعة كان لها أكبر الأثر في تحرير فلسطين. ثم تمكن بعد ذلك من ضم الموصل والمناطق التي تتبعها إلى حكمه، ثم ضم اليمن إلى حكم. وبذلك امتدت الجبهة الإسلامية المتحدة من العراق إلى الشام فمصر واليمن ما أنذر بقرب القضاء على الصليبيين.
ومن حرص نور الدين على وحدة الأمة أنه لم يستقل بدولته عن خليفة المسلمين بل كان يعلن نفسه أميرًا تابعًا للخليفة العباسي في بغداد، ولما فتح مصر أسقط الخلافة الفاطمية ودعا في المنابر للخليفة العباسي المستضيء.
المحور الثالث: تأسيس المجتمع المسلم النموذج:
حيث حرص على تطبيق أحكام الشريعة، ورفع المظالم، وإنصاف الناس، وكان يقول: حرام على كل من صحبني ألا يرفع قصة مظلوم لا يستطيع الوصول إليّ. ومن فقهه أنه لما كثرت غزواته قال له بعض مستشاريه: لو أخذت بعضًا من الأموال المرصودة للفقراء والمساكين وجعلتها في مصارف الجهاد، فقال - رحمه الله -: والله إني لا أرجو النصر إلا بأولئك، فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم، كيف أقطع صلات أقوام يقاتلون عني وأنا نائم على فراشي بسهام لا تخطئ، وأصرفها على من لا يقاتل عني إلا إذا رآني بسهام قد تصيب وقد تخطئ؟ وهؤلاء لهم نصيب في بيت المال كيف يحل لي أن أعطيه إلى غيرهم؟
كما حرص على البناء الإيماني التربوي والثقافي للجيل المسلم، فاستقدم العلماء العاملين، وأفسح لهم مجال العمل والدعوة، وسعى في بناء المدارس والمساجد، وحارب البدع والأضاليل، وأحيى سمت احترام العلماء وتوقيرهم، وكان يقول عن العلماء: إنهم جند الله وبدعائهم ننصر على الأعداء، ولهم في بيت المال حق أضعاف ما أعطيهم، فإن رضوا منا ببعض حقهم فلهم المنة علينا، وفي زمانه صارت بلاد الشام مقرًا للعلماء والفقهاء. وكان يقول: إن البلخي ـ وهو أحد العلماء ـ إذا قال لي: يا محمود، قامت كل شعره في جسدي هيبة له، ويرق قلبي!!
كما اعتنى بالإعمار والبناء الحضاري والاجتماعي، لأنه أدرك أن مجتمعًا مفكك الأوصال متخلف الحضارة لا يمكن أن يصنع نصرًا، ولذلك عمل على كفالة الأيتام وتزويج الأرامل وإغناء الفقراء، وبناء المستشفيات والملاجئ، ودور الأيتام، والأسواق، والحمامات، والطرق العامة، وتوطين البدو، وإقطاعهم الأراضي.
كما رتب الزكاة ونظم جبايتها وتوزيعها وفق الأسس الشرعية، وشجع التجارة بتأمين المواصلات، ورفع الضرائب التي تثقل حركة التجارة.
المحور الرابع: تأسيس الروح الجهادية:
لقد سعى نور الدين في إحياء المعاني الجهادية في النفوس وتربية الأمة على معانيها، وتكريس عزة المسلمين ومنعتهم وقوتهم، وبذل الجهد في توفير العدة والعتاد، وحماية المدن، وبناء الأسوار والحفاظ على أرواح المسلمين.
وكان يشجع ألعاب الخيل التي تعود على الكر والفر.
وكانت معاركه الفعلية، وحروبه التي خاضها ضد النصارى من أكبر ما أحيا روح الجهاد في الأمة.
فخلال فترة حكمه التي استمرت ثمانية وعشرين عامًا لم تتوقف معاركه مع الصليبيين مطلقًا. وقد تمكن من تحرير منطقة الرها وأنطاكية. كما أسهم في تحطيم الحملة الصليبية الثانية. وكان انتصاره الأعظم في تل حارم تاجا يتلألأ على جبينه - رحمه الله -. فقد استطاع في تلك المعركة الكبرى أن يقتل عشرة آلاف صليبي وأن يأسر عشرة آلاف، وكان من بين الأسرى أمير أنطاكية وأمير طرابلس وحاكم قلقيلية.
هكذا هيأ نور الدين كل شيء لقطف الثمرة وهي تحرير المسجد الأقصى.. وقد كان على وشك قطفها، فإنه في عام 569هـ أعد العدة للهجوم النهائي على بيت المقدس لتحريره من الصليبيين، حتى إنه قد جهز منبرًا جديدًا رائعًا للمسجد الأقصى يوضع فيه بعد الانتصار على الصليبيين.. ولكن المنية عاجلته فتوفي عام 570هـ، وهكذا أصبح الطريق معبدًا أمام خليفته صلاح الدين ليقطف الثمرة وينال شرف تحرير الأقصى.. وتم له ذلك عام 584هـ عقب معركة حطين.
لقد استمر إعداد نور الدين ثمانية وعشرين عامًا.. واستطاع صلاح الدين أن يقطف الثمرة خلال أربعة عشر عامًا..
لقد كان الإعداد أطول بكثير من قطف الثمرة.
وهذه سنة الحياة.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد