بسم الله الرحمن الرحيم
كيف تكون الحياة الإنسانية عندما يصل التعصب العاطفي إلى درجة يتحوّل فيها إلى أفظع القوى المدمرة للذات، وأقواها شراً، وحين تزيل ضوابط هذه القوى الفكر النيّر وتجرّد الإنسان من نزعته الإنسانية، إنها أفظع من القنبلة الذرية، إنها نيران كامنة من السهل أن تشتعل بدافع الحقد والإيحاء، وبدافع التعصب الأعمى الذي يغرسه الزعماء والمتبوعون في نفوس أتباعهم استبقاءً لدوام هيمنتهم وحفاظاً على منافعهم الخاصة. هذا التعصب الحاقد يمكّن أفراداً قلائل من المخادعين لتسخير المجموع والخضوع لإرادتهم، وإن الأساليب التي يستخدمونها مثل الاغتيال والتقتيل، والتي درج عليها الشعوبيون الباطنيون ليست وسائل تُقام عليها دولة، ويُبنى بها دين، ويُستصلح عليها بشر، \"لقد غاب عن هؤلاء القوم الجانب السويّ من الحياة، وحضر منهم الجانب الشرير، وعاشوا وصدورهم ملأى بالحقد، وعقولهم منغلقة، يتلذّذون بإبادة البشر ورؤية الدماء\"(1). وقد قال سلفهم القرمطي الحسين بن بهرام:
زعـمت رجـالُ الـغـربِ أني هبتُهـا فـدمـي إذن ما بينـهم مطلولُ
يا مصـرُ، إن لــم أسقِ أرضَك من دم يروي ثراكِ فلا ســقاني النيلُ
هذه هي قصة الصفويين الذين دمّروا بغداد، وقتلوا أهلها زمن الشاه إسماعيل، والشاه عباس في القرنين العاشر والحادي عشر الهجريين، والذين شيّعوا أهل إيران بالقوة، ومن لم يقبل فمصيره القتل، ولكنهم خرجوا من بغداد، واندحروا في معركة (جالدران).
من هم الصفويون؟
في أواخر القرن السابع الهجري التفّ جمع من المريدين وغالبهم من التركمان، حول رجل اسمه صفي الدين إسحاق من دراويش (أردبيل) في منطقة أذربيجان، والذين تغلب عليهم النزعة الباطنية، ويقولون بحلول الجزء الإلهي في أشياخهم، وادّعى أحفاد الشيخ أنهم من نسل موسى الكاظم، وهذه طريقة كل من يريد الترؤس على الناس والتلاعب بعواطفهم، واشتهرت هذه الفرقة بسبب عقيدتها المتطرفة، مما جعل تيمورلنك التتاري يوقف بلدة أردبيل على أحفاد الشيخ صفي الدين، وهذا مما أطمع هذه الفرقة بأن تكون قوة سياسية عسكرية، وعندما وصل الشيخ جنيد إلى رئاسة هذه الفرقة، حاول الاستيلاء على مناطق مجاورة، ولكنه قُتِل في إحدى المعارك مع حاكم إقليم (شروان)، وسيكون حفيده (إسماعيل) هو المؤسس لهذه الطائفة دولة في إيران، ويعد نفسه نائباً للإمام الغائب في المذهب الشيعي، وتسمى أتباعه بـ (القزلباش) أي أصحاب القبعات الحمراء، وفي كل قبعة اثنتا عشرة ذؤابة نسبة للأئمة الاثني عشر، (اللباس الأحمر هو لباس زرادشتي). استطاع إسماعيل التوسع، فوصل شرقاً إلى حدود دولة الأوزبك وغرباً إلى العراق، وجعل عاصمته تبريز، وفرض العقيدة الشيعية على أكثر السكان، وأعمل القتل في كل من يرفض اعتناق مذهبه\"، وقد اتخذ من سبّ الخلفاء الثلاثة وسيلة لامتحان الإيرانيين، وإذا امتنع السامع من السبّ قُطعت رقبته حالاً، وقد أمر أن يُعلن السبّ في الشوارع والأسواق وعلى المنابر\"(2). لم يكتفِ الشاه إسماعيل بما فعله في الداخل، بل راح يتحرّش بالدولة العثمانية التي كانت مشغولة بالفتوحات في أوروبا، وأرسل سفيراً إلى إمارة البندقية يعرض عليهم تحالفاً ضد السلطان بايزيد الثاني، وبدأ بإرسال دعاة ينشرون المذهب الشيعي في الأناضول، وكان من دعاته رجل اسمه نور خليفة، ولقّب نفسه (شاه قولي) أي عبد الشاه، والعثمانيون يقولون عنه (عبد الشيطان)، فكان يدعو للبيعة للشاه إسماعيل، ولما كثر أتباعه بدأ بمهاجمة القرى والقوافل في الأناضول، ووصل إلى مشارف مدينة (بورصة) واشتبك مع الدولة العثمانية في معارك كثيرة، وانتصرت الدولة عليه، ولكن بعد أن استنزف في هذه الفتنة دماء المسلمين وأموالهم، كل هذه الأحداث جعلت الأمير سليم بن بايزيد يستشعر هذا الخطر، وصمم على حسم هذا الداء، يقول في خطاب له: \"إن العالم المسيحي يتربص بنا، متحيناً الفرصة للقضاء علينا، ومن المؤسف أن فريقاً من الناس يذهبون إلى هذا الذي أراق دم أهل السنة (الشاه إسماعيل) وكأنهم ذاهبون إلى مكة، ووصل بهم الأمر إلى درجة السجود كلما ذُكر اسمه\"(3). تسلّم السلطان سليم مقاليد الحكم بعد أن اعتزل والده، ثم تجهّز للقاء شاه الصفويين، وفي منطقة (جالدران) شرقي الأناضول وشمال تبريز، التقى الجيشان في شهر رجب من عام 920هـ.
وكانت هزيمة ساحقة للجيش الصفويّ، وفر الشاه إسماعيل، ودخل الجيش العثماني عاصمته تبريز، واستُقبل من أهلها استقبال الفاتحينº إذ كانت غالبيتهم من السنة الأحناف الذين تظاهروا بالتشيع خوفاً من القتل و إرهاب الشاه إسماعيل، وأقاموا صلاة الجمعة لأول مرة، وبعد هذه الهزيمة حاول الشاه إسماعيل الاستعانة بملك إسبانيا (شارل الخامس)، ولكن الرسالة وصلت متأخرة، ثم إن الشاه هلك عام 930هـ، وجاء بعده ابنه طهماسب الذي استمر على سياسة أبيه.
في عهد السلطان سليمان بن سليم انتقلت الدولة العثمانية من نصر إلى نصر في داخل أوروبا، وتم فتح (بلغراد)، وانتصر السلطان على أوروبا مجتمعة في معركة (موهاج) الشهيرة، وتقدم بعدها الجيش العثماني نحو (فينا) وضرب الحصار حولها، فقامت قيامة أوروبا لهذه الانتصارات، وكتب السفير النمساوي في استامبول (إن الإيرانيين وحدهم يقفون بيننا وبين الدمار). ويقول المؤرخ: (هارولد لامب): إن الرسل الموفدين من مدينة البندقية ذهبوا إلى الشاه في إيران ليحثوه على ضرب الدولة العثمانية مما يخفف الضغط على فيينا (4).
استمر السلطان سليمان في حصار فيينا، ولكن الأنباء جاءت من الشرق بأخبار الفتن الباطنية الخطيرة مما جعله يتراجع ويعود إلى العاصمة، وقد كانت هذه الفتنة بقيادة الشيخ البكتاشي الباطني اسكندر جلبي، وقد التفّ حوله ما يزيد على الثلاثين الفاً من الباطنيين أعملوا السلب والنهب في أرجاء الأناضول، ولم تستطع الدولة التغلب عليهم إلا في عام 935هـ. وعندئذ قرر السلطان الالتفاف إلى المشرق واستعادة بغداد من الصفويين، وبمجرد أن سمع الشاه طهماسب باستعداد العثمانيين حتى اتصل بملك هنغاريا ليعاونه على العدو المشترك(5).
استطاع الجيش العثماني بقيادة الصدر الأعظم إعادة بغداد بعد حصار طويل، وأصبح للعثمانيين قاعدة بحرية في مدينة البصرة مما مكنهم من توجيه ضربات موجعة إلى الأسطول البرتغالي الذي يعيث فساداً في الخليج العربي والبحر الأحمر، واضطر الشاه طهماسب لتوقيع معاهدة هدنة مع العثمانيين، ولكن هل يفي الصفويون بالعهود؟ فعندما وصل إلى الحكم الشاه عباس بدأ اتصالاته مع الجبهة الصليبية لعله يجد حليفاً ضد العثمانيين، فقدم عروضاً للإسبان عن طريق دولة البندقية، وأرسل وفداً في عام 1001هـ برئاسة البريطاني (أنطون شيرلي) إلى كل من بابا روما وملكة بريطانيا وملوك فرنسا وبولونيا، ولم تكن هذه التحركات بخافية على السلطان العثماني الذي كتب إليه: \"علمنا بتصرفات لا تصدر عن عاقل قط، فلم يعد خافياً علينا أمر سفاراتك إلى الكفرة، إنك مع الكفرة على اتفاق، ومع المسلمين الموحّدين في نفاق\" (6).
لم ينتظر الشاه عباس حتى تؤتي هذه السفارات أكلهاº فقد واتته الفرصة بانشغال العثمانيين بالحرب النمساوية، وتمرد الولاة في بغداد، فسارع للاستيلاء على بغداد، كان ذلك في عام 1033هـ وأعقبها بالاستيلاء على كركوك والموصل \"وقد فعل عباس بأهل بغداد ما فعله إسماعيل قبله، وربما زاد عليه، فقد هدم مرقدي أبي حنيفة والشيخ عبد القادر الجيلاني، ثم وزّع دفاتر لتسجيل أسماء أهل السنة من سكان بغداد بقصد القضاء عليهم جميعاً، وقد قتل أكثر من أربعين ألفاً...\"(7)، هذه الأفعال الشنيعة جعلت السلطان مراد الرابع يخرج بنفسه وعلى رأس جيش كبير، فتوجّه إلى حلب والموصل، وحاصر بغداد، وطلب الصفويون الصلح وبعد مفاوضات، خرج الصفويون ورسمت الحدود النهائية ن بين العراق وإيران، والخلاصة التي تظهر من تسلسل هذه الأحداث أنه كلما اقترب العثمانيون من نصر في أوروبا كان الصفويون بالمرصاد لإفشال هذه الفتوحات، والغرب يعلم مدى الحقد الصفوي، فيطلب منهم في كل مرة التحرك لضرب العثمانيين.
يقول المؤرخ هنري لورنس: \"بناء على مطلب فعلي وحاجة حقيقية عند الأقليات غير السنية في المشرق دخلت أوروبا، وأنشأت هيكلية لهذه الجماعات في محاولة لجعل هذه المنطقة رديفاً للمجتمع الغربي\"(8).
ويقول الكاتب السياسي ومستشار الأمن القومي في أمريكا سابقاً برجنسكي: \"من المرجح أن يأتي التحدي السياسي الأكثر ديمومة من البلدان الإسلامية ذات الأغلبية السنية.. \" (9).
ويقول الأمير شكيب أرسلان: \"ولكني لا أشك في أمر واحد، وهو أن القومية الفارسية لم تندثر بالديانة الإسلامية(10).
----------------------------------------
1-انظر: محمد بهجة الأثري: ذرائع العصبيات العنصرية في إثارة الحروب /32
2-علي الوردي: لمحات اجتماعية في تاريخ العراق 1/58
3-محمد عبد اللطيف هريدي: الحروب العثمانية الفارسية /52
4-علي الوردي: لمحات اجتماعية في تاريخ العراق 1/52
5-المصدر السابق 1/53
6-3- محمد عبد اللطيف هريدي: الحروب العثمانية الفارسية/72
7-علي الوردي: لمحات في تاريخ العراق1/70، وانظر: سيار الجميل: تكوين العرب الحديث/167
8-جريدة الحياة 11/2/1994
9-الاختيار /68
10-حاضر العالم الإسلامي 1/166
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد