في الحلقة الأولى وقف الكاتب مع قـصـة إبراهيم - عليه السلام - وأحداثها سواءً مع ابنه وزوجه أو أبيه وقومهº يقتبس الدرس تلو الدرس، والعظة بعد العظة مفصلاً الكلام مع كل وقفة. وفي هذه الحلقة يستكمل الكاتب باقي الوقفات.
الشرط الكمي ... الجماعية:
تنمية روح الجماعية: عندما جاء إبراهيم - عليه السلام - في المرة الثالثة يزور ابنه، ويستطلع أحواله، وجده هذه المرة في الديار جالساً يبري نبله تحـت تلك الدوحة التي تركه تحتها صغيراً عندما جاء به أول مرة لتلك الديار، فقام إسماعـيـل - عليه السلام - فـصـنـعا ما يصنع الوالد بــالـولــــد والولد بالوالد من التسليم والمعانقة والتقبيل ونحو ذلك، ثــم قال إبراهيم - عليه السلام -: (يــا إســمـاعيل إن الله أمرني بأمر!! قال: فاصنع ما أمركَ ربُكَ. قال: وتـعـيـنـنـي؟ قال: وأعينُكَ. قال: فإن الله أمرني أن أبني بيتاً ها هنا ـ وأشار إلى أكمةٍ,(1) مـرتـفـعــةٍ, على مـــا حـولـهــا ـ فعند ذلك رفع القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة، وإبراهـيـــم يـبـني، حتى إذا ارتفع البناء، جاءَ بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه وهو يبني ـ أثناء البناء، وهو مقام إبراهيم الآن ـ وإسمـــاعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: ((رَبَّنَا تَقَبَّل مِنَّا إنَّكَ أَنـتَ الـسَّـمِـيـــعُ العَلِيمُ)). [البقرة: 127](2).
من هذه الحادثــة، في تاريـخ تشـيـيد هـذا البيت، نستشعر كيف أن الخليل - عليه السلام - بعد أن عرّفـه الحـق - سبحانه - مكان البيت، ثم أوحى إليه - سبحانه - بأن يبنيه، ذهب إلى المكان، ثم طلب معونة ابـنـــه - عليهما السلام - والذي لم يتردد كالعهد به دائماً مع والده، فبادر وشاركه في بناء هذا الصرح العظيم.
وهكذا انتقل هذا الـمـشــروع العظيم إلى مرحلة جديدة، وآن لحامل تلك المهمة العظيمة أن يـنـتـقـل بـهـــا إلى أرض الواقعº إلى التطبيق. لقد انبعثت من قلب الخليل - عليه السلام -، وبوحيٍ, من الله - سبحانه -، لتترجم إلى عمل عظيم، وكان من ضروريات الحركة في مجال الـتـطـبـيـق أن تـقـوم على عمل جماعي يشارك فيه كل من يقدر عليه، وذلك بعد إعداده وإعداد أسرته لتحمل التبعات.
ومن هذه اللمحة الإبراهـيـمـيــة التربوية، يستشعر الداعية أهمية (الشرط الكمي) للمشروع الحضاري المنشود لإنقاذ الأمـــــة، أي ضــــــرورة العمل الجماعي، وأهمية انتقاء الأفراد المشاركينº فالتنفيذ يستلزم جماعية، والجماعية لا يقوم عليها إلا من أعد لها.
وهذا الملمح يرسم تحذيراً يربأ بالداعية عن خـطـر الفردية، ويذكره بمصير الشاة القاصية، كما حذّر الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم -: (إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ الشاة القاصية والناحية، وإياكم والشـعاب، وعليكم بالجماعة والعامة) (3).
وهو أيضاً، يرسم ويخط أملاً عظيماً، وغاية مـنـشــــودة: (من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة) (4).
الشرط المكاني... الأرض:
أهمية وجود نقطة تجميع وانطلاق: وهـذا المرتكز الدعوي والمعلم المهم نستشعره مـن قوله - سبحانه - وهو يقص على أجيال حملة المنهج الإلهي في كل عصر وفي كل مكان تلك الخطوة الـمـهـمة في تاريخ هذا العمل العظيم، والمشروع الكبير: ((وَإذ بَوَّاًنَا لإبرَاهِيمَ مَكَانَ البَيتِ)) [الحج: 26]، ((وَإذ يَرفَعُ إبرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيتِ)) [البقرة: 127].
هكذا أراد الحق - سبحانه - أن تكون الخطوة العظيمة في هذا العمل العظيم، أن يُحدد المكان المختار، وأن تُحدد له الأرض التي سيقام عليها.
فلا بد من مركز تجميع وانـطــــلاق، مركز يجتمع حوله المؤمنون بالفكرة، ويثوبون إليه، ويحتمون به. وهو في الوقت نفـســـه مركز لانطلاق الفكرةº فراية الخير تحتاج إلى مكان توضع عليه، ويُعرف بها.
وأي فكرة وإن كانت صحيحة وأصيلة لا بد لها من عوامل تجعلها فعالة، ولا بد لها من شروط تجعلها قابلة للتنفيذ.
وأهم هذه الشروط هو وجود الأرض التي ستترجم عليها عملياً، ثم تنطلق منها.
هكذا فهمها رائـــد الـدعاة وسيد الأولين والآخرين - صلى الله عليه وسلم -º وكان مشروع الهجرة الكبير إلى المديــنــة، ليجعل منها ـ وذلك بعد دراسة وتخطيط ـ مرتكزاً للانطلاق، ومركزاً للإشعاع الحضاري، وأرضــاً صالحة ثابتة راسية توضع على قمتها علامة التجميع ومنارة الهدى، وتثبت فوقها راية الخير.
وعـلـى الـمـربـيـن أن يـركــزوا على أهمية هذا المَعلم الدعوي العظيم الذي يعتبر من أخطر المنعطفات في سير الدعوةº لأهميته بالنسبة للفكرة ولحامليها.
ظاهرة التآكل الروحي:
تـنـمـيـة الجانـب الروحي: ورد عن الخليل - عليه السلام - في سياق قصة بناء البيت الحرام عديد من المواقف التي كان يداوم فيها على التوجه إليه - سبحانه - بالأدعية الطيبة التي شـهــدت لها الأحــداث بعدها بالقبول والاستجابة، منها: ((رَبَّنَا إنِّي أَسكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بــِــوَادٍ, غَـيــرِ ذِي زَرعٍ, عِندَ بَيتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجعَل أَفئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهوِي إلَيهِم وَارزُقهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُم يَشكُرُونَ)) [إبراهيم: 37].
ومنها: ((وَإذ قَالَ إبرَاهِيمُ رَبِّ اجعَل هَذَا بَلَداً آمِناً وَارزُق أَهلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَن آمَنَ مِنهُم بِاللَّهِ وَاليَومِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضطَرٌّهُ إلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئسَ المَصِيرُ)) [البقرة: 126].
ومنها: ((وَإذ يَرفَعُ إبرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيتِ وَإسمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّل مِنَّا إنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجعَلنَا مُسلِمَينِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مٌّسلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُب عَلَينَا إنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابعَث فِيهِم رَسُولاً مِّنهُم يَتلُو عَلَيهِم آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَيُزَكِّيهِم إنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ)) [البقرة: 127 - 129].
وماذا في ثنايا الدعاء؟ إنه أدب النبوة، وإيمان النبوة، وشعور النبوة بقيمة العقيدة في هذا الوجود. وهو الأدب والإيمان والشعور الذي يريد القرآن أن يعلمه لورثة الأنبياء وأن يعمقه في قـلـوبـهـم ومشاعرهم. إنه طلب القبولº هذه هي الغايةº فهو عمل خالص لله، والغاية المرتجاة من ورائه هي الرضا والقبولº والرجاء في قبوله متعلق بأن الله سميع الدعاء.
ثـم تـأتــي الـدعــوة الـتـي تـكـشـف عن اهتمامات القلب المؤمنº فإن أمر العقيدة هو شغله الشاغل، وهو همه الأول، وهو الـشــعـور بنعمة الإيمان الذي دفعهما - عليهما السلام - إلى الـحـرص عـلـيـهــا في عقبهما، وإلى دعاء ربهما ألا يحرم ذريتهما هذا الإنعام، وهو نعمة الإيــمـان، وأن يريهم جميعاً مناسكهم، ويبين لهم عباداتهم، وأن يتوب عليهمº لأنه هو التواب الرحيم، وألا يتركهم بلا هداية في أجيالهم البعيدة بأن يبعث في أهل بيته رســولاً منهم، فـاسـتـجـاب الله لهما، وأرسل من أهل البيت محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -، وحقق على يديه الأمة المسلمة القائمة بأمر الله، الوارثة لدينه. وكانت الاستجابة بعد قرون وقرونº إن الدعوة المستجابة تتحقق في أوانها الذي يقدره الله بحكمتهº غير أن الناس يستعجلون(5).
من هذا الملمح الـطــيـــب، يمكننا أن نتبين أهمية تلك الدعامة المهمة التي ذكرناها تحت الركيزة الثامنة التي تـدعـو إلى وجوب (تنمية فن استمطار التوفيق الإلهي)، وذلك بالدعاء الخاشع، والثقة فيما عنده وحسن الظن به - سبحانه - ولذلك فإننا نقول: إن دعائم طريق الداعية ثلاث: الفكرة الربانية، والعمل الدؤوب، والدعاء الخاشع.
إنها أسرار مباركة للدعــاء، لا يشعر بها إلا من مر بتجربة خاصة يستشعر فيها كيف أن الحق - سبحانه - يمن عـلـى عـبــــاده المتقربين إليه، المتذللين له بأنواع العبادة المختلفة، فيجدونها وقد استحالت من مجرد قوى معنوية، إلى قوى مادية ربانية ذات آثار ملموسة ومعلومة. وبذلك يُفتح للعبد أبواب متعددة من أبواب التربية الروحية.
ولـقـد كـانـت وصايا الحبيب - صلى الله عليه وسلم - بالدعاء وآثاره القوية العظيمة تفوق الحصر، مـنـها: (لا يُغني حذرٌ من قدر، والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وإن الدعاء ليلقى البلاء فيعتلجان إلى يوم القيامة) (6).
من هذه اللمحة التربوية، نستطيع أن نضع أيدينا على بعض الحلول التي تفيدنا في علاج ظاهرة تربوية مرضية وهي (ظاهرة الـتـآكـــل الروحي) عند الداعية، وهي ظاهرة تنشأ من خلل في التوازن التربوي بين طاقات العبد الثلاثة وهي: طاقة العقل، وطاقة البدن، وطاقة الروحº حيث يقل حظ الجانب الروحي في أعـمـــال الـعـبد مثل التفريط في بعض الفرائض وغيرها من أعمال اليوم والليلة من السنن، كالذكر والـدعــاء والاسـتـغفـار، وتلاوة القرآن، ويـنــشــأ نـــوع من الانـفـصــام المركب: داخلياً يستشعر فيه العبد قسوةً وجفاءً مع نفسه، وخارجياً يستشعر فيه قسوةً وجفاءً مع الوجود كله، فيتنكران لهº فما هي بالنفس وما هو بالوجود الذي يعرفهما. وخطورة هذه الظاهرة هو أن هذا التآكل يهدد الأساس الذي يبني الربانيين الذين سيحملون القول الثقيل ليس إلى البشرية فقط، بل إلى الوجود كله، وتدبر مغزى هذه التوجيهات الكريــمـــة المبكرة في عمر الدعوة والداعية: ((يَا أَيٌّهَا المُزَّمِّلُ(1)قُمِ اللَّيلَ إلاَّ قَلِيلاً(2)نِّصفَهُ أَوِ انقُص مِنهُ قَلِيلاً(3)أَو زِد عَلَيهِ وَرَتِّلِ القُرآنَ تَرتِيلاً(4)إنَّا سَنُلقِي عَلَيكَ قَولاً ثَقِيلاً(5)إنَّ نَاشِئَةَ اللَّيلِ هِيَ أَشَدٌّ وَطئاً وَأَقوَمُ قِيلاً)) [المزمل: 1 - 6].
العلاقات الصحيحة:
أهمية بناء الثقة بين الأفراد: وفي تدبرنا لطبيعة العلاقات الداخلية بين أفراد هذه الأسرة المباركة الطيبةº وذلك من خلال قراءتنا لمواقفهم في كل مراحل بناء البيت الحرام، يمكننا ملاحظة الآتي:
1- عــلاقــة الزوج والأب بالأفــراد: وبتأملنا سيرة الخليل - عليه السلام - مع أسرته، نجد العلامة الواضــحـــة فيها هي بروز الدور التفقدي والراعي لهم جميعاً، دون محاباة لأحد على حساب أحد، ولــكــن مـــا يهمنا هنا هو ثقة إبراهيم - عليه السلام - في زوجتهº بحيث يستأمنها على وليده ووحيده، وينطلق وكله ثقة في رعايتها له في تلك الظروف الصعبة، ثم ثقته في ولده - عليه السلام - عندما طــلـــب مـــنـه تغيير زوجته، ثم مشاركته في بناء البيت الحرام.
2- علاقة الزوجة بزوجها: فتدبر تلك القـنـاعـة الرفيعة، وذلك الرضا السابغ الذي ملأ قلب هاجر المؤمنة الصابرة حين تركها وولـيـدها وحيدين في الصحراءº وهذا لا ينشأ إلا في ذلك الجو الصحي الذي يظلل العلاقة بينها وبين زوجهاº ذلك الجو أو البيئة التي تقطر ثقة واحتراماً.
3- علاقة الابن بوالده: في المواقف المخـتـلـفـة لإسماعيل مع والده - عليهما السلام - أثناء زيارة الخليل - عليه السلام - الأولى إلى أسرته في مكة، وقصده المكان الذي تركهما فيه.
فتدبر هذين الموقفين العظيمين من إسماعيل مع أبيه - عليهما السلام - وهو يطيع توجيهاته كما تصله من زوجته، وما يوحيانه في النفس مـن إكـبــار وإجلال لتلك العلاقة القدوة بين الابن وأبيه، والمبنية على الثقة والاحترام.
ثم في أثناء الزيارة الثالثة، عندما قصده والده - عليهما السلام - لإعانته على بناء البيت.
وعندما نأتي إلى قمة المحنةº حيث تعرضت هذه العلاقة لاختبار عظيم، عندما أمر الله ـ - عز وجل - ـ إبراهـيـم عليه السلام أن يذبح ابنه إسماعيل - عليه السلام -: ((قَالَ يَا بُنَيَّ إنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذبَحُكَ فَانظُر مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افعَل مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِي إن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)) [الصافات: 102].
فتدبر أيضاً هذه المبادرة إلى الطاعة بمجرد أن يأمر الــوالــــد ولــده، وذلك في كلا الموقفين العصيبين، وما كانت هذه الطاعة لولد إلا في أجواء الثقة العميقة.
ونـسـتـزيــد من سيرة القيادة العظيمة في مجال آخر، من مواقف الحبيب - صلى الله عليه وسلم - والجنود من حوله، ونستشعر مدى الثقة العظيمة المتبادلة التي كانت تظلل العلاقة بينهم، وما تؤدي إليه من حب للبذل، واستشرافٍ, للعطاء، وقوةٍ, في البناء.
لأنه (على قـــدر الـثـقــة المـتـبـادلة بين القائد والجنود تكون قوة نظام الجماعة، وإحكام خططها، ونجاحها في الوصول إلى غايتها، وتغلبها على ما يعترضها من عقبات وصعاب، ((فَأَولَى لَهُم * طَاعَةٌ وَقَولٌ مَّعرُوفٌ)) [محمد: 20، 21]، والثقة بالقيادة هي كل شيء في نجاح الدعوات)(7).
ولنا أعظم مثال في ثـقـة الجندي في قيادته ما كان من موقف أبي بكر ـ رضوان الله عليه ـ عندما سعى إليه رجال يسألونه عن حادث الإسراء والمعراج، فقال قولته الخالدة: (إن كان قال ذلك فقد صدق، قالوا: أتصدقه على ذلك؟ قال: إني لأصدقه على أبعد من ذلك. فسُمي من ذلك اليوم صديقاً)(8).
وتدبر ثقة القيادة المتبادلة، في جـنـودها وأنصارها، فيما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - قــال: قــال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (بينا راعٍ, في غنمه عدا عليه الذئب ـ أي هـجـم عـلـيـه ـ فـأخذ منه شاة، فطلبه الراعي ـ أي أراد إنقاذ الشاة منه ـ حتى استنقذها منه، فالتفت إليه الذئب، فقال له: من لها يوم السبع ـ أي عند الفتن حين يتركها الناس نهبة للسباع ـ، يوم ليس لها راع غيري؟!) فقال الناس: سبحان الله! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (فإني أومن بذلك أنا وأبو بكر وعمر)(9).
وظيفة عظيمة... وأجرٌ أعظم!
أهمية فقه الدور المطلوب وأجره الموعود: لقد أمر الحق - سبحانه - الخليل ا أن يؤذن في الناس، فيبلغهم ويدعوهمº ووعده بالإجابة: ((وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالحَجِّ يَاًتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ, يَاًتِينَ مِن كُلِّ فَجٍ,ّ عَمِيقٍ,)) [الحج: 27]، (أي: نـــادِ في الناس بالحج داعياً لهم إلى الحج، إلى هذا البيت الذي أمرناك ببنائه، فُذكر أنه قـــال: يا رب كيف أبلّغ الناسَ صوتي ولا ينفذهم. فقال: نادِ وعلينا البلاغ. فقام على مـقـامـه، وقيل على الحجر، وقيل على الصفا، وقيل على أبي قبيس، وقال: يا أيها الناس! إن ربكم قد اتخذ بيتاً فحجّوه. فيقال إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسـمــع مــن فـي الأرحـــام والأصـــــلاب، وأجابه كل شيء سمعه من حجر ومدر وشجر، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة: لبيك اللهم لبيك)(10).
من هذه اللمحة التاريخيـة، يـمـكـنـنـا أن نــضـع أيدينـا علـى قاعـدة ذهبيـة مـن قـواعد الدعـوة إلى الله ـ - عز وجل - ـ وركيزة هامة من ركائز البناء.
ونحن نضيف بها مَعلَماً جديداً، وهو أن حَمَلَة هــــذه الفكرة الربانية العظيمة، ودعاة هذا المشروع الحضاري، قد كلفهم الحق - سبحانه - بوظيفة ووعدهم بالأجر العظيم على حسن أداء تلك الوظيفة.
أما الوظيفة: فهي هداية الناس إلى هذا المـنـهــج، وإرشادهم إلى الحق والهدى، وهو دور عظيم يقع بمجرد البلاغ: ((فَهَل عَلَى الــرٌّسُــلِ إلاَّ البَلاغُ المُبِينُ)) [النحل: 35]، ويتضح ذلك في أمره - سبحانه - لإبراهيم - عليه السلام -: ((وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالحَجِ)).
وأما الأجر: فهو عظيم وشامل وســابــــغ، ويمتد من الدنيا إلى الآخرة، فيبدأ من تضاعف الــثــواب: (مــن دل على خــيـر فله مثل أجر فاعله)(11) ويرقى إلى بلوغ مقام الخيرية والشهادة على الخلقº لأن خيرية هذه الأمة، إنما كانت بخروجها إلى الناس، والاختلاط بهم، ودعوتهم إلى الخير، ونهيهم عن الشر، وإيمانها بالله - سبحانه -: ((كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ, أُخرِجَت لِلنَّاسِ تَاًمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَتَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤمِنُونَ بِاللَّهِ)) [آل عمران: 110].
ثم يصل إلى الجزاء العظيمº وهو النجاة في الدنيا والآخرة: ((وَلَمَّا جَاءَ أَمرُنَا نَجَّينَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحمَةٍ, مِّنَّا وَنَجَّينَاهُم مِّن عَذَابٍ, غَلِيظٍ,)) [هود: 58].
وهذا الأجر يقع بمجرد الدعوة، ولا يتوقف على الاستجابة: ((فَإن أَعرَضُوا فَمَا أَرسَلنَاكَ عَلَيهِم حَفِيظاً إن عَلَيكَ إلاَّ البَلاغُ)) [الشورى: 48]º لأن أمر الهداية بيده - سبحانه -: ((إنَّكَ لا تَهدِي مَن أَحبَبتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهدِي مَن يَشَاءُ)) [القصص: 56].
إذن فلا حرج على الداعية ولا تثريب ولا إحباط إذا لم يثمر بلاغه، ولم يستجيبوا له: ((فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفســَـكَ عَلَى آثَارِهِم إن لَّم يُؤمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أَسَفاً))[الكهف: 6]، وتدبر أمـــر الـحـــق - سبحانه - للخليل - عليه السلام -: (نادِ وعلينا البلاغ). أي أدّ دورك بأمثل طريقة، ودع النتائج عليه - سبحانه -.
والداعية يخرج من هــذا الملمح التربوي الفريد بسهام وافرة الغنائم حول فقه هذه الوظيفة من حيث ماهيتها ومنهجية تنفيذها والأجر المترتب عليها، وكيفية تلقي التكاليف وحسن تنفيذها، وحسن عــرض البضاعة الربانية العظيمة، وضرورة استشعار خطورة بلوغ درجة البلاغ المبين للفكرة، وفهم الدور المطلوب، واستشعار عظم الأجر.
ثم ـ وهذا هو الأهم ـ اســـتـشـعـار هذا التفاعل والتعاضد الفريد بين دور البشر ودور المدد الرباني في تنفيذ المشروع الـحـضـاري المنشود. وهذه النقطة هي النبراس الذي يعطي الأمل للعاملين، وهي العلامة الفارقة التي تميزهم عن غيرهم من أصحاب المشاريع المغايرة.
السنن الإلهية... وحماقة الوعل(*)!
أهمية فقه سنة المرحلية والتدرج: هكذا كان منهج التكليف يسير بتدرج ليس فيه تعسف، وبمرحلية ليس فيها تعجل، وبـخـطـة تأخذ في الاعتبار سمو الهدف، ومبلغ الإمكانيات، وكثرة المعوقات.
لقد أمر الحق - سبحانه - إبراهيم - عليه السلام - أن يُسكن زوجه وولده في ذلك الوادي المقفر، ثم تركهم وكرر زياراته لهذا المكان لـيـتـفـقـد أحــوال أسرته المباركة المرشحة لهذا العمل والمشروع العظيم، وكانت تلك هي مرحلة الإعداد والتهيئة.
وبعد ذلك عرّفه الحق - سبحانه - مكان البيت، وسلمه له، وملكه أمرهº فكانت هذه مرحلة إعلان نقطة الانطلاق.
ثم أمره أن يقيم البيت على أساس قاعدة التوحيدº فيكون خالصاً له - سبحانه - وحده، وأن يجهزه تجهيزاً خاصاً، وكانت هذه بمثابة مرحلة إعلان الفكرة العظيمة للمشروع العظيم.
ثم جاءت بعد ذلك مرحلة الانطلاق والدعوة للفكرة العظيمةº حيث أمره أن ينادي في الناس بالحج، وأن يدعوهم إلى بيت الله الحرام، ووعده أن يلبي الناس دعوته، فيأتوا من كل طريق بعيدة، مشاةًَ على أرجلهم، وركوباً على كل بعير مهزول من بُعد الشقة. وما زال وعد الله يتحقق إلى اليوم والغد، وما تزال أفئدة من الناس تهوي إليه تلبية لدعوته - عليه السلام - منذ آلاف الأعوامº وذلك حتى يتحقق المطلوب، وتتحقق غايات هذا اللقاء السنوي العظيم.
وهكذا الشأن في أمر الأعمال الكبرى، والمشاريع الحضارية العظيمة أن تسير في مراحل، وكل مرحلة لها فقهها ولها ظروفها، وأن تتم هذه المرحلية في تدرج ومنهجية حتى تبلغ الهدف المنشودº وذلكº لأن (التدرج سنة كونية، وسنة شرعية أيضاً. ولهذا خلق الله السماوات والأرض في ستة أيام، وكان قادراً أن يقـول: كـوني فتكـونº ولكنه خلقها في أيام ستة مـن أيـام الله - تعالى - أي في ستة أطـوار أو أزمنة يعلمها الله. وفي هذا المعنى تقول عائشة - رضي الله عنها - واصفة تدرج التشريع ونزول القرآن: (إنما أنزل أول ما أنزل من القرآن سور فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحـرام، ولو نزل أول شـيء: لا تشربوا الخمر ولا تزنـوا لقالوا: لا نـدع الخمر ولا الزنـى أبداً)) (12)(13).
وقد يستعجل بعض الناس الخُطى، كما استعجل ذلك الفتى الصالح المتحمس عبد الملك بن عمـر بن عبد العزيز ـ رضوان الله عليهما ـ عندما دخل على والده مستبطئاً ومستعجباً من سياسة والده التدرجية، فقال: (يا أبت! ما يمنعك أن تمضي لما تريده من العدل؟! فو الله ما كنتُ أبالي لو غلت بي وبك القدور في ذلك. قال: يا بني! إني إنما أروّض الناس رياضة الصعب ـ أي الجمل الفحل العنيد ـ إني أريدُ أن أحيي الأمـر مـن العدل فأؤخـر ذلك حتى أخـرج معه طمعاً مـن طمـع الدنيـا، فينفـروا مـن هـذه، ويسكنـوا لهـذا)(14).
حتى إذا عاوده الاستغراب كرر محاولته ودخل على أبيه، فقال: يا أمير المؤمنين! ما أنت قائل لربك غداً إذا سألك فقال: رأيتَ بدعة فلم تُمِتها، أو سنة فلم تُحيِها؟! فقال أبـوه: رحمك الله مـن ولد خير. يا بُني! إن قومك قد شدوا هذا الأمر عقدةً عقدة، وعروةً عروة، ومتى أردتُ مكابرتهم على انتزاع ما في أيديهم لم آمن أن يفتقوا عليّ فتقاً تكثر فيه الدماء. والله لزوال الدنيا أهون عليّ من أن يُهراق في سببي محجمة من دم، أَوَما ترضى أن لا يأتي على أبيك يوم من أيام الدنيا إلا وهو يُميتُ فيه بدعة ويُحيي فيه سنةً؟! (15).
لهذا كان على المربين من الدعاة ألا يغفلوا هذه الركيزة، وذلك المعلم الدعوي المهم، والسنة الإلهية العظيمة، ولا يتعجلهم متعجل، ولا يستبطئهم مستبطئ.
ظاهرة بخس الناس أشياءهم:
بث روح التقدير والتشجيع: وعندما نستمر في قراءتنا لهذه الأوراق، فإنه يستوقفنا على إحدى صفحات الملف هذا المعلم القرآني الفريد: ((وَاذكُر فِي الكِتَابِ إبرَاهِيمَ إنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِياً)) [مريم: 41]، وهي دعوة قرآنية تدعو الحبيب - صلى الله عليه وسلم - وكل من سار على دربه أن يستزيدوا من سيرة الخليل - عليه السلام - بقراءة دعوته، والاستفادة من منهجيته. وتتجاوز هذه الدعوة عمقها التربوي العظيم بهذا التقدير والتشريف الكريمº حيث وسمت ملف الخليل - عليه السلام - بختم رباني وعلامة مميزة يُعرف بها، وهي: ((إنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً)) أي كثير الصدق أو كثير التصديق.
وفي موضع آخر أثناء الحديث عن الخليل - عليه السلام -، نعرف أحد أسباب هذا التقدير والتشريف الموحى به عن خليل الرحمن: ((وَإبرَاهِيمَ الَذِي وَفَّى)) [النجم: 37]، قال سعيد بن جبير والثوري: أي بلّغ جميع ما أُمر به. وقال ابن عباس: ((وَفَّى)) لله البلاغ، وقال سعيد بن جبير: ((وَفَّى)) ما أمر به، وقال قتادة: ((وَفَّى)) طاعة الله وأدى رسالته إلى خلقه. وهذا القول هو اختيار ابن جرير وهو يشمل الذي قبله ويشهد له قوله ـ - تعالى - ـ: ((وَإذِ ابتَلَى إبرَاهِيمَ رَبٌّهُ بِكَلِمَاتٍ, فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَاماً)) [البقرة: 124]، فقام بجميع الأوامر، وترك جميع النواهي، وبلغ الـرسـالـة على التمام والكمالº فاستحق بهذا أن يكون للناس إماماً يُقتدى به في جميع أحواله وأقواله وأفعاله)(16).
فتدبر هذا التكريم والـتـشـريف والتقدير الإلهي للخليل - عليه السلام - الذي وفّى كل ما أُمـر به، وقدّم نموذجاً طيباً في البذل، وفي إنشاء مشروع حضاري متكامل.
وتــأمــل كـيـف أن إبراهيم - عليه السلام - وهو من هو ـ كان في حاجة للطيفة ربانية تشعره بالتقدير لـتـاريخه الناصع، وكذلك بالامتنان على دوره الدعوي، وعلى طاعته لربه - جل وعلا - فما بــالـك بمن هو دون تلك القمة، ويـسـكـن السفح؟! ويكون في مسيس الحاجة لكلمات تقديرية بسيطة.
من هذه اللـطـيـفـة الـربـانية الكريمة، نستشف مدى السمو والرقي الأخلاقي الذي يتعلمه الناس من هذا القرآنº حـيـث ورد في غـيـر موضع لمحات تربوية قرآنية كلها تحث على وجوب بث روح التقدير وتنمية خلـق التشجيـعº وذلك لكل مـن شارك في أي بذل، وفـي أي مجـال من شأنه أن يُسـدي خيـراً للنـاس.
وعلى هذا النهج التربوي، ومن هذا المـعــيـن الصافي نجد أن حَمَلَةَ مشعل الدعوة على مـر الـتـاريـخ الـبـشــري، ورواد مسيرة الحركة الدعوية قد خَطّوا معالم خالدة في هذا الباب، ويـقـف فـي الـمـقـدمـة الحبيب - صلى الله عليه وسلم - في وصيته الرائعة: (أنزِلوا الناس منازلهم)(17).
ولو تدبـرنـا الجانب الأخلاقـي في دعـوة نبـي الله شعيب - عليه السلام - لوجدنـاه يتمثل في قـوله - تعالى -: ((وَلا تَبخَسُوا النَّاسَ أَشيَاءَهُم))، وهي دعوة كريمة، إلى عدم بخس أشياء الـنـاسº ولـو استشعرنا مغزاها التربوي البعيد لوجدناه يشمل عدم بخس أي شيء من أي نوع مثل: تقدمهم في العمر، ومكانتهم، وسبقهم الدعوي، ودورهم الريادي، وتقدير كل ما يقدمونه من خير، وكذلك تشجيعهم على أي عمل أو بذل، بل أيضاً بمدح ما يسعدهم من صفاتهم!
وخطر تجاهل هذا المعلم تربوياً من شأنه أن يؤدي إلى ظاهرة دعوية مرضية تسمى: (ظاهرة بخس أشياء الناس) والتي من أدنى مـظاهرها تجاهل أعمال الآخر، ومن أعلاها التجريح لأعماله وصــفـاتـه، ومن أبـســط آثـارها على الآخر هو الإحباط، والتثبيط، ومن أخطرها الجروح النفسية التي قد تستعصي على العلاج! ومن آثارها على صاحب هذا السلوك أنه من جهـة: يصنف نفسه مـع نوعية مذمومة سلوكياً قال عنها - سبحانه -: ((كُلَّمَا دَخَلَت أُمَّةٌ لَّعَنَت أُختَهَا)) [الأعراف: 38]، ومن جهة أخرى: أنه يظلم نفسه، ويحرمها من أن يــضــمـهـا ركب نوعية ممدوحةº حيث ينسى أنه (لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذوو الفضل).
__________________________
الهوامش:
(1) الأكمة: التل.
(2) رواه البخاري، ح/ 3364، وأحمد، ح/2285.
(3) رواه أحمد، ح/21524، وصححه الألباني.
(4) رواه الترمذي: جزء من حديث حسن صحيح غريب 2254، تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، المباركفوري 6/385.
(5) في ظلال القرآن، سيد قطب، 1/114 ـ 115 بتصرف.
(6) رواه أحمد، 5/234، وقال الألباني في صحيح الجامع 7739: حسن.
(7) مجموعة الرسائل ـ التعاليم، الإمام حسن البنا، 364 بتصرف.
(8) نور اليقين في سيرة سيد المرسلين، الخضري، طبعة دار الجيل 68.
(9) رواه مسلم ـ كتاب فضائل الصحابة 2388، والترمذي ـ كتاب الفتن 9/29، وأحمد في مسنده 3/84.
(10) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، 3/226.
(11) رواه مسلم، ح/ 1893.
(*) حماقة الوعل: إشارة إلى قول الشاعر:
كناطحٍ, صخرةً يوماً لِيُوهنهـا*** فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
(12) رواه البخاري، ح/4993.
(13) الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف: د. يوسف القرضاوي، 104 ـ 105 بتصرف.
(14) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: الخلال 99.
(15) تاريخ الخلفاء: السيوطي 240.
(16) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، 4/276.
(17) رواه أبو داود، ح/4842.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد