الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر


  

بسم الله الرحمن الرحيم

ابتلي المسلمون، وخاصة في العصور الأخيرة في حياتهم بداء وبيل وخيم، تعدت آثاره إلى حياتهم الخاصة والعامة، ألا وهو الاستبداد السياسي، والطغيان في الحكم، والتسلط على الشعوب التي تحولت إلى قطيع ذليل ليس لها من الأمر شيء، إلا أن تطيع وتعيش ثم تموت، أما المطالبة بالحقوق أو الإصلاح، فهذا لا يكون أبداً، لأن نفسية الطاغية لا تطيق مثل هذا، وكان الذي يخفف من وطأة هذه الشرور صنفان من الناس:

 

أولهما: أن يأتي ملك صالح في نفسه، رحيم محب للخير، باسط للعدل، فيتنفس الناس الصعداء قليلاً، ولكن لا يلبث أن يعقبه من يعكر صفو الفترة السابقة.

 

وثانيهما: العلماء الذين يقومون بحق الله عليهم من تبيان الحق ونصرته، ومناصحة الحكام المسلمين وتخشين القول لهم، وزجرهم عن المعاصي والمنكرات. وقد كتبوا في ذلك كلاماً مسدداً موفقاً، وكان كثير من الحكام والسلاطين يهابونهم ولا يتجرؤون على ما يخفون في أنفسهم من فساد، فكان هؤلاء العلماء هم حماة الدول الإسلامية أن تتصدع وقتها، بل هم كما وصفهم الإمام الجويني: \"قدوة الأحكام وأعلام الإسلام وورثة النبوة، وقادة الأمة، وسادة الملة، ومفاتيح الهدى وهم على الحقيقة أصحاب الأمر استحقاقاً\" بل يذهب الجويني إلى أبعد من ذلك فيرى أن السلطان إذا لم يكن مجتهداً: \"فالمتبوعون هم العلماء والسلطان نجدتهم وشوكتهم، والسلطان مع العالم كملك في زمان النبي، مأمور بالانتهاء إلى ما ينهيه إليه النبي\".[1]

 

ولكن آفة المسلمين استمرت من جهة حكامهم، فإذا وجد من العلماء من يساعدهم على ظلمهم أو يسكت عنهم ويبرر تصرفاتهم، ويقول للناس: إن طاعة هؤلاء واجبة سواء كانوا صالحين أو طالحين، ولا يجوز الإنكار عليهم، فعندئذ يذر قرن الفتنة ويصبح الناس في حيرة من أمرهم، بل يقعون في الهرج والمرج، فلابد في مثل هذه الأحوال من قيام علماء أحرار يجتمعون على الحق، ويطالبون بالعدل، ويستعينون على مطالبهم بالوسائل المشروعة مثل نشر العلم، وبيان أوجه الفساد، حتى يُؤطَرَ الحاكم على الحق أطراً، قال الغزالي: \"قد ذكرنا درجات الأمر بالمعروف وأن أوله التعريف، وثانيه الوعظ، وثالثه التخشين في القول، ورابعه المنع بالقهر في الحمل على الحق بالضرب، والجائز من جملة ذلك على السلاطين (يتكلم عن سلاطين المسلمين في زمانه) الرتبتان الأوليان، وأما التخشين في القول، كقوله: يا ظالم، يا من لا يخاف الله وما يجري مجراه، فذلك إن كان يحرك فتنة يتعدى شرها إلى غيره لم يجز، وإن كان لا يخاف إلا على نفسه فهو جائز، بل مندوب إليه فقد كان من عادة السلف التعرض للأخطار والتصريح بالإنكار من غير مبالاة بهلاك المهجة، والتعرض لأنواع العذاب، لعلمهم بأن ذاك شهادة، قال رسول الله - صلى الله عليه و سلم -: \"سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله\".[2]

 

وقد روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قال: \"لابد للناس من إمارة، برة كانت أو فاجرة، فقيل: يا أمير المؤمنين هذه البرة قد عرفناها فما بال الفاجرة؟ فقال: يقام بها الحدود، وتأمن بها السبل، ويجاهد بها العدو ويقسم بها الفيء\".[3] فإذا كانت هذه الفاجرة بتعريف أمير المؤمنين، فكيف إذا كانت على الضد في ذلك مثل تنحية شرع الله والاستهزاء بالدين، ومساعدة أعداء الإسلام في كل مكان، (ولا تقوم بالجهاد ولا تقسم الفيء)؟!! أيجوز أن يقال عندئذ: لا تجوز المناصحة، ولا المطالبة ولا إنكار المنكر علناً، ويقرع باللوم العلماء الذين يجتمعون للإصلاح وإعزاز دين الله، وإخراج البلاد والعباد مما هم فيه من ورطات الجهالات والشهوات، اللهم غفرانك...

 

كان لابد من هذه التوطئة قبل متابعة الحديث عن الآمرين بالمعروف من العلماء، فالأمر جد لا هزل فيه، وإصلاح ما أفسده الطغاة لا يأتي في يوم أو ليلة، فلابد من الصبر والتعاون على البر والتقوى.

 

ولنعد إلى ذكر العلماء العاملين:

ومنهم: أمير المؤمنين في الحديث الإمام سفيان الثوري - رحمه الله -، يحدث عن نفسه فيقول: \"أدخلت على أبي جعفر (المنصور) بمنى، فقلت له: اتق الله، فإنما أنزلت في هذه المنزلة، وصرت في هذا الموضع بسيوف المهاجرين والأنصار، وأبناؤهم يموتون جوعاً، حجَّ عمر (الخليفة الراشد) فما أنفق إلا خمسة عشر ديناراً، وكان ينزل تحت الشجرة، فقال: أتريد أن أكون مثله؟ قلت: لا، ولكن دون ما أنت فيه، وفوق ما أنا فيه...\".[4]

 

ويحدث عن قصته مع الخليفة المهدي بن أبي جعفر المنصور، قال: \"أدخلت على المهدي، فسلمت عليه بالإمرة، فقال: أيها الرجل، طلبناك فأعجزتنا، فالحمد لله الذي جاء بك فارفع إلينا حاجتك، فقلت: قد ملأت الأرض ظلماً وجوراً، فاتق الله، وليكن منك في ذلك عبرة، فطأطأ رأسه ثم قال: أرأيت إن لم أستطع دفعه؟ قال: تُخلِّيه وغيرك...\".[5]

 

ومنهم الفقيه الكبير الليث بن سعد، يروي عن نفسه قال: قال لي الرشيد: ما صلاح بلدكم (مصر)؟ قلت: بإجراء النيل، وبصلاح أميرها، ومن رأس العين يأتي الكدر، فإن صفت العين صفت السواقي، قال: صدقت.[6]

 

ومنهم: الإمام الكبير الشهير أحمد بن نصر الخزاعي وكان أمّاراً بالمعروف، قوّالاً بالحق، قال الصولي: \"كان هو وسهل بن سلامة حين كان المأمون بخراسان بايعا الناس على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثم قدم المأمون فبايعه سهل، ولزم ابن نصر بيته، ثم تحرك في آخر أيام الواثق، واجتمع إليه خلق يأمرون بالمعروف، فنمَّ الخبر إلى نائب بغداد إسحاق بن إبراهيم فأخذ أحمد وأصحابه، وحملوا إلى سامراء مقيدين\".[7]

 

كان الواثق على مذهب أبيه المعتصم في امتحان أهل السنة في قضية خلق القرآن، ولذلك حاول ثني عزم أحمد بن نصر عن رأي أهل السنة وعندما أبى قال الواثق لمن حوله: ما تقولون فيه؟ قال قاضي الجانب الغربي من بغداد: هو حلال الدم [8] فقام إليه الواثق وضرب عنقه، - رحمه الله -، ويروي الذهبي عن المروذي قال: \"سمعت أحمد [9] ذكر أحمد بن نصر فقال: - رحمه الله -، لقد جاد بنفسه\".[10]

 

ومنهم: قاضي قرطبة، الفقيه المحقق والخطيب المِصقع منذر بن سعيد البلوطي، قالوا في وصفه: \"لم يكن بالأندلس أخطب منه، مع العلم البارع، والمعرفة الكاملة واليقين في العلوم، والدين والورع، وكثرة الصيام والتهجد، والصَّدع بالحق، كان لا تأخذه في الله لومة لائم\" \"ومن أخباره المحفوظة أن أمير المؤمنين [11] عمل في بعض سطوح الزهراء [12] قبة بالذهب والفضة، وجلس فيها، ودخل الأعيان، فجاء منذر بن سعيد فقال له الخليفة كما قال لمن قبله: هل رأيت أو سمعت أن أحداً من الخلفاء قبلي فعل مثل هذا؟ فأقبلت دموع القاضي تتحدر ثم قال: والله ما ظننت يا أمير المؤمنين أن الشيطان يبلغ منك هذا المبلغ، أن أنزلك منازل الكفار، قال: لِمَ؟ فقال: قال الله - عز وجل -: ((ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة)) إلى قوله: ((والآخرة عند ربك للمتقين)) [الزخرف/3335] فنكس الناصر رأسه طويلاً ثم قال: جزاك الله عنا خيراً وعن المسلمين، الذي قلت هو الحق، وأمر بنقض القبة\".[13]

 

وقد خطب مرة بجامع الزهراء، فتلا هذه الآية: ((أتبنون بكل ريع آية تعبثون، وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون، وإذا بطشتم بطشتم جبارين...)) [الشعراء 128/130].

 

ولابد أن تعلم أخي القارئ شيئاً من ترجمة بعض الحكام الذين ينكر العلماء عليهم بعض إسرافهم أو أخطائهم وأنهم في الذروة من حب الدين وأهله، وحماية بيضة الإسلام أن تنتهك، وأنه من الظلم والجهل أن نقارنهم بحكام العالم الإسلامي الذين يخدمون أعداء الإسلام ولا يخدمون شعوبهم.

 

قال الذهبي في ترجمة عبد الرحمن الناصر بن محمد بن عبد الله الأموي: \"صاحب الفتوحات الكبيرة، والغزوات المشهورة دامت دولته خمسين سنة، وكان لا يملّ من الغزو، فيه سؤدد وحزم، وإقدام وسجايا حميدة، وكان - رحمه الله - ينطوي على دين، وحسن خُلق ومُزاح، افتتح سبعين حصناً من أعظم الحصون، وإذا كان الرأس عالي الهمة في الجهاد، احتملت له هَنات، وحسابه على الله، أما إذا أمات الجهاد، وظلمَ العباد وللخزائن أباد، فإن ربك لبالمرصاد\".[14]

 

ويقول ابن كثير في ترجمة الرشيد: \"وفضائل الرشيد ومكارمه كثيرة جداً، وقد كان الفضيل بن عياض يقول: ليس موت أحد أعز علينا من موت الرشيد، لما أتخوف بعده من الحوادث، وإني لأدعو الله أن يزيد في عمره من عمري، قالوا: فلما مات الرشيد ظهرت تلك الفتن، وظهر القول بخلق القرآن\".[15]

 

ويروي ابن كثير أيضاً عن تدين الرشيد: \"وحدثه أبو معاوية يوماً عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة بحديث احتجاج آدم وموسى - عليهما السلام -، فقال عم الرشيد: أين التقيا يا أبا معاوية؟ فغضب الرشيد من ذلك غضباً شديداً، وقال: أتعترض على الحديث، عليّ بالنطع والسيف، فأحضر ذلك، فقام الناس يشفعون فيه، فقال الرشيد: هذه زندقة، ثم أمر بسجنه وأقسم أن لا يخرج حتى يخبرني من ألقى إليه هذا، فأقسم عمه بالأيمان المغلظة، ما قال هذا له أحد وإنما كانت هذه الكلمة بادرة مني وأنا أستغفر الله وأتوب إليه منها فأطلقه\".[16]

 

فأين مثل الرشيد وعبد الرحمن الناصر، ولا نطمع فنقول: مثل أبي بكر وعمر؟!...

 

__________________________

[1] غياث الأمم/274، ط دار الدعوة

[2] إحياء علوم الدين 2/343.

[3] سير أعلام النبلاء 7/263

[4] سير أعلام النبلاء 7/263

[5] المصدر السابق 7/264

[6] المصدر السابق 8/141

[7] سير أعلام النبلاء 11/166

[8] انظر إلى هذا النفاق

[9] أي الإمام أحمد بن حنبل

[10] سير أعلام النبلاء 11/166

[11] عبد الرحمن الناصر لدين الله، وهو أول من تلقب بإمرة المؤمنين في الأندلس، وكانوا قبل ذلك يلقبون بالأمير.

[12] مدينة الزهراء التي بناها عبد الرحمن وفيها قصور الحكم وهي من ضواحي قرطبة.

[13] سير أعلام النبلاء 16/174 – 177.

[14] سير أعلام النبلاء 15/562.

[15] البداية والنهاية 10/220.

[16] المصدر السابق 10/215.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply