الاعتماد على النفس هو سبيل النجاح، والقدرة على إنجاز المهام هي علامة القوة والإرادة، وقيمة الفرد في المجتمع بقيمة ما يتقنه ويبدع فيه.
ولكن أين أنت من هذا كله؟ أيها الطفل الكبير...الطفل.... نعم، الكبير الذي بلغ من العمر أرذله، وهو إلى الآن بحاجة إلى دلال واهتمام، الطفل الكبير الذي خط الشيب في شعره، ومع ذلك فهو لا يعتمد على نفسه، وينتظر الآخرين دائمًا ليقضوا عنه حاجاته.
صار أسيرًا لنفسه وشهوته، أنانيًا لا تهمه أحوال الآخرين ولا يسأل عنهم، اللهم إلا لتحقيق رغباته.
الطفل الكبير يتمارض كثيرًا ليلفت أنظار الناس إليه ويحظى باهتمامهم.
هو كثيرًا ما يتكلم حول الهدف ولا يصيبه أبدًا، فحياته كلها مشاكل وعوائق وسدود وهروب من مواجهة الواقع وتحمل المسئولية.
سل نفسك أيها الأب هل أنت هذا الطفل الكبير؟
هل يئست من النجاح ورضيت بالدون، ودفعت الجميع ليقوموا عنك بواجباتك ومسئولياتك؟ هل أنت هذا الطفل الذي يلاقي المتاعب دائمًا في أي موقف صعب في حياته، ويقف حائرًا أمام أي اختيار، عند اختيار نوع الدراسة أو شريك الحياة، هو الطفل الذي يعتمد على غيره في القيام بتلك الأعمال وغيرها؟
وغالبًا ما يتعرض هذا الطفل للمتاعب والإحباطات المتكررة التي لا يقوى عليها، وتبدو مظاهر الضعف والقلق على هذه الشخصية والخوف من تحمل المسئولية، وعدم الثقة بالنفس وعدم القدرة على اتخاذ القرار، والشعور بالفشل والإحباط عند الاصطدام بمفترق الحياة ومشكلاتها.
إنه إذًا:
ـ لا يقوى على مواجهة الحياة ومشكلاتها.
ـ يصعب عليه تكوين علاقات ناجحة مع غيره من الناس.
ـ كما يبدو في سلوكه الانسحاب من مجالس الغرباء.
ـ الميل إلى الخضوع والطاعة في غير ما يجب طاعته.
ـ فقد الثقة بالنفس وفقد الشجاعة إذا واجهته مشكلة حيوية تمس صميم حياته.
هو طفل إذًا ولكنه.. كبير.
هو طفل لأنه يتصرف تصرفات الأطفالº من الدلال والكسل وانتظار خدمة الآخرين له دائمًا، وهو كبير لأن العمر يمضي وهو لا يزال في هذه الطفولة المفرطة فإن شئت قل: هي إذًا طفولة متأخرة.
ولكن متى سيغادر هذا الطفل سرير الأطفال ويترك ثدي أمه وجيب أبيه ويعتمد على نفسه؟
أم كيف ننأى بأطفالنا عن هذه الطفولة المتأخرة، ونعلمهم الاعتماد على أنفسهم لا على الغير.
كيف تصنع طفلاً يعتمد على نفسه؟
1ـ إياك والدلال المفرط:
فهو من العوامل الخطيرة في انحراف الولد النفسي والخلقي، لما يؤول في الغالب إلى شعوره بمركب النقص ونظرته الحاقدة إلى الحياة، ومن نتائجه في الأحوال العادية الخجل والخنوع، فقدان الرجولة والشجاعة، وضعف الثقة بالنفس، والتدرج نحو الميوعة والتخلف عن الأقران.
فهو يرى الناس في إقدام وشجاعة وهو في خوف وجبن، يرى الناس في حركة وعراك ومجاهدة، وهو في صمت وسكون وجمود، يرى الناس في تلاقٍ, واجتماع، وهو في انطوائية وعزلة، فولد هذا شأنه، وهذا حاله هل يكون إنسانًا سويًا؟
وهل يكون عضوًا نافعًا للمجتمع؟
وهل تكون نظرته إلى الحياة نظرة أمل وتفاؤل؟
وهل يكون إنسانًا ذا شخصية استقلالية يثق بنفسه ويعتمد عليها؟
فإذا كان الجواب: لا!!
فلماذا يغالي الأبوان في تدليل الولد؟
ولماذا يتعلقان به هذا التعلق الزائد؟ ولاسيما الأم.
فإن عندها من الرعاية المفرطة لوليدها أو من الوسوسة -إذا صح التعبير- ما يدفعها إلى أن تفرط في احتضان ابنها، وتدليلها له، بشكل يخرجها عن المألوف وحدود الاعتدال.
2ـ تربية الولد منذ نعومة أظفاره على الصلابة:
إن قلت: إن هذه قسوةº فعليك أن تتأمل كيف تربى محمد - صلى الله عليه وسلم - طفلاً، ليكون خاتم النبيين والمرسلين.
يقول - صلى الله عليه وسلم - عن نفسه فيما رواه البخاري: [ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم] فقال أصحابه: وأنت؟، فقال: [نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة].
وكان - صلى الله عليه وسلم - في صغره يلعب مع الغلمان، روى ابن كثير عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: [[لقد رأيتني في غلمان من قريش ننقل الحجارة لبعض ما يلعب الغلمان، كلنا قد تعرى وأخذ إزاره وجعله على رقبته يحمل عليه الحجارة، فإني لأقبل معهم كذلك وأدبر إذ لكمني لاكم -ما أراه- لكمة وجيعة، ثم قال: شد عليك إزارك، قال: فأخذته فشددته علَيّ، ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي وإزاري عليَّ من بين أصحابي].
وكان - صلى الله عليه وسلم - يقوم بعملية البناء، ولما شب - صلى الله عليه وسلم - وبنيت الكعبةº ذهب رسول الله ينقل الحجارة مع أشراف قريش لبنائها، فقال العباس لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اجعل إزارك على عاتقك من الحجارة، ففعل فخر إلى الأرض، وطمحت عيناه إلى السماء ثم قام، فقال: [إزاري، إزاري]، فشد عليه إزاره، وقال: [إني نهيت أن أمشي عريانًا]. وهذا دليل عصمته قبل النبوة.
وكان - صلى الله عليه وسلم - يخرج للسفر للتجارة، وقد ثبت أنه - عليه الصلاة والسلام - سافر مرتين: مرة قبل البلوغ مع عمه أبي طالب، والمرة الثانية بعد البلوغ بتوجيه خديجة - رضي الله عنها -، وكان - صلى الله عليه وسلم - في صباه ذا جرأة متناهية، فذكرت كتب السير أنه - عليه الصلاة والسلام - استحلف باللات والعزى وهو صبيº فقال للمستحلف: لا تسألني بها شيئًا، فو الله ما بغضت شيئًا بغضي لهما.
وكان - صلى الله عليه وسلم - قد شارك في الحرب وهو دون الحلم، فما ذكرته كتب السير أنه كان ينبل على أعمامه في حرب الفجار.
وكان - صلى الله عليه وسلم - ذا رأي وفصاحة فمما تناقلته كتب السير أن قريشًا حكمته في وضع الحجر الأسود، ولقد أعجبت برأيه وحكمته وحصافته.
فعلينا إذًا أن نربي أبناءنا على الخشونة منذ الصغر، اقتداء بفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقوله أيضًا في الحديث: [إياكم والتنعم فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين]. حسنه الألباني في صحيح الجامع.
3ـ علمه أن الحياة كفاح وتعب وصبر ومصابرة:
إن هذا الطفل المدلل لا يشعر بأهمية العمل والاعتماد على النفس، ولا يتقن فن السعي والدأب والمصابرة..... لماذا؟
لأنه تعود دائمًا أن كل مطلوب مجاب، وكل مرغوب متاح بسهولة ويسر.
كما أنه تعود أيضًا أن دمعتين على خده تكفي لتحريك الجبال لخدمته وإراحته، وتلبية طلباته، هذا الطفل إذا كبر سيجد نفسه عاجزًا عن مواجهة الحياة، عاجزًا عن تحمل المسؤولية والصبر والدأب والمصابرةº لأنه ببساطة لم يتعلم أن يبذل الجهد ليحصد الثمرة، بل تعود أن يجلس تحت الشجرة وتتساقط عليه الثمر بدون جهد، ولم يتربَ في حسه: {وَهُزِّي إِلَيكِ بِجِذعِ النَّخلَةِ تُسَاقِط عَلَيكِ رُطَباً جَنِيّاً} [مريم: 25]، فلم يتعلم فن الهز.
علمه إذًا فن الهز منذ الصغر:
1ـ لا مانع بأن يعمل الطفل بجانب دراسته أو حتى في فترة الإجازة حتى يتعود على بذل الجهد.
2ـ حدد له موعدًا للاستيقاظ من النوم وعلمه أن النوم وسيلة لغاية وليست حياة الإنسان كلها نوم، فيتعود الطفل منذ الصغر على الاستيقاظ المبكر حتى تقتل في نفسه الكسل.
3ـ علمه كيف يدير مصروفه، وليكن مصروفه بالشهر مثلاً، وعلمه كيف يحافظ على مصروفه طوال الشهر؟ وكيف يصرف بحكمة؟ وكيف أنه إن قصر أو تهاون أو لم يكن حكيمًا في الإنفاق سيبقى طوال الشهر بدون مال؟ ولا تكن متساهلاً معه في هذا الخطأ حتى يتعلم من أخطائه، ويعلم أن كل خطأ له عواقبه.
4ـ لا تقل له: [أنت صغير عندما تكبر ستفعل كذا]، وادفعه إلى فعل الأشياء التي أصبح قادرًا فعلاً على أدائها، كأن يذهب إلى المدرسة ويعود وحده، أو يعمل واجباته المدرسية بنفسه وبتوجيه بسيط من الوالدين، حتى وإن أخطأ، حتى وإن كانت النتيجة دون المستوى، يكفي أنه تعود الاعتماد على نفسه، ومع الوقت سيتحسن مستواه.
5ـ علمه كيف ينظم وقته، وعلمه دائمًا أن الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك.
6-أشعره بقيمة النجاح في كل الميادينº في المدرسة وفي النادي والمسجد والمنزل، وأن هذا النجاح ما هو إلا ثمرة الجهد وتنظيم الوقت.
وليكن للطفل جدول لتنظيم الوقت يضعه دائمًا منذ الصغر أمام عينيه، يراه فور استيقاظه من النوم، فعلى سبيل المثال يمكن أن يكون كالآتي:
من الساعة 8 إلى الساعة 2 المدرسة.
من الساعة 2 إلى الساعة 3 نوم القيلولة.
من الساعة 3، 30 إلى الساعة 7، 30 وقت المذاكرة.
من الساعة 9 إلى الساعة 10 وقت حفظ القرآن.
وهكذا يتعلم الطفل قيمة الوقت منذ نعومة أظفاره.
4ـ اتبع أسلوب النسر:
كثيرًا ما يقول الحكماء: [إنك لا تربي القادة والأبطال على أسرة من ريش]، إن أسلوب النسر هو أفضل شيء، فالنسور تبني أعشاشها على قمم الجبال الشاهقة مما يعرضها إلى الأمطار والجليد والرياح العاصفة، وعندما يبني النسر عشه الضخم يبدأ بوضع الأفرع القوية والعيدان الصلبة، وفي الداخل يضع الزجاج والحصى وما إلى ذلك؟ ثم يضع بعد ذلك أوراق الشجر والأقمشة وما شابه ذلك، وفي أعلى العش يضع النسر الريش، وفي داخل العش تضع الأنثى بيضها حينما تقفس صغار النسور يوفر لهم الآباء التغذية من طعامهم، وحينما يكبر الصغار تبدأ الأم تدريجيًا في زيادة مستوى قسوة الحياة في العش والتخلص من اعتمادية الصغار.
في هذا الوقت يبدأ الصغار في تسلق جوانب العش الضخم هربًا من هذه القسوة، وأخيرًا تزيد الأم في قسوة الحياة في العش إلى أبعد حد، فلا تترك في العش إلا الحصى والزجاج، في هذه الفترة يلزم الصغار جوانب العش، وهنا يبدأ الحب القاسي بالفعل فعندما يبلغ الصغار قمة العش تدفع الأم واحدًا منهم ليندفع بسرعة شديدة إلى أسفل حتى يبدو الأمر كما لو كان سيلقى حتفه على الصخور، وفي اللحظة الأخيرة تندفع الأم إلى أسفل وتتلقى صغيرها على ظهرها، ثم تكرر هذه العملية إلى أن يتعلم كل الصغار الطيران بأنفسهم.
وبعد أن تعتمد النسور الصغيرة على نفسهاº تكن أنثى النسر قد أنهت وظيفتها، وتلك هي التربية الناجحة، أن تنتهي أجزاء من وظيفتك بعد أن تكون قد أعددت أفرادًا أكفاء، ومستعدين لخوض غمار الحياة بكل قوة وعزيمة واعتماد على الذات.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد