المراد بالوقاية:
اتخاذ إجراء بهدف الحماية والصيانة. يقال: وقاه وقاية: إذا حفظه وصانه، واتقيت الشيء أتقيه: حذرته. والوقاية غالبا من خطر محتمل وشيك، وتكون بتفاديه قبل وقوعه.
وتتعين الوقاية حينما يهدد الخطر إحدى الضرورات الخمس التي جاء الإسلام بحمايتها وصيانتها، وهي: الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال.
وقد اعتمد المنهج التشريعي في ديننا على الأسلوب الوقائي تربية وتعليما، حفاظا على الأفراد، وصيانة للمجتمعات، وتحقيقا للسلامة العامة، وتداركا للمحظور قبل وقوعه، أخذا بمبدأ: الوقاية خير من العلاج.
وسأحاول من خلال هذه الأسطر تسليط الضوء على بعض الأحكام الشرعية التي روعي فيها الجانب الوقائيº إبرازا لعظمة هذا الدين الذي لا يسعى إلى معالجة الأخطاء بعد وقوعها فحسب، وإنما يسعى لتفاديها قبل وقوعها أيضا.
فمن التشريعات الوقائية في الإسلام:
ما جاء في قوله - تعالى -: {ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن} الأنعام 151. وقوله - سبحانه -: {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا} الإسراء 32. وغيرهما من الآيات التي تنهى عن مجرد الاقتراب، سدا للذرائع، واتقاء للإغراء الذي تضعف معه الإرادة.
ومن هنا جاء الأمر الإلهي للنبي - صلى الله عليه وسلم -: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم، إن الله خبير بما يصنعون. وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن....} النور 30-31.
فما الأمر بغض البصر إلا للوقاية من الوقوع فيما هو أخطر من ذلك، فالعين بريد القلب، والنظرة سهم مسمومة من سهام إبليس، فربما أوصلت صاحبها - رجلا كان أو امرأة - إلى الفاحشة الكبيرة.
وجاء توضيح هذه الغاية عمليا من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وذلك حينما جاءته جارية شابة من خثعم تستفتيه يوم حجة الوداع، وقد أردف النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن عمه الفضل بن العباس - رضي الله عنهما -، فجعل الفضل ينظر إلى الشابة وهي تنظر إليه، فلما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك، لوى عنق الفضل عنها، فسأله عمه العباس: يا رسول الله، لم لويت عنق ابن عمك؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: (رأيت شابا وشابة، فلم آمن الشيطان عليهما) الحديث أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح.
لقد منع الإسلام النظرة الثانية بعد الأولى غير المتعمدة، ومنع الاختلاط لغير ضرورة وبأكثر من قدر الضرورة، ومنع التبرج والتعطر في الطرقات.
وكانت الحركات المثيرة، والضحكات المثيرة، والإشارات المثيرة، والخضوع بالقول، والمصافحة، والخلوة: كل هذا ممنوع في الحياة الإسلامية النظيفة.
فهذا الدين لا يريد أن يعرض الناس للفتنة، ثم يكلف أعصابهم عنتا في المقاومة، فهو دين وقاية قبل أن يقيم الحدود ويوقع العقوبات.
وهو دين حماية للضمائر والمشاعر والحواس والجوارح، وربك أعلم بمن خلق، وهو اللطيف الخبير. فيالروعة هذا الدين العظيم!
- ومن التشريعات الوقائية أيضا: الاستئذان.
قال - تعالى -: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها، ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون} النور 27.
ومعنى تستأنسوا: تستأذنوا، والاستئذان يكون بطلب الإذن قبل الدخول.
ومن آداب الاستئذان: ألا ينظر المستأذن في بيت أحد قبل أن يؤذن له، وعليه أن لا يقف مقابل الباب، بل يتنحى قليلا ذات اليمين أو ذات اليسار، فقد جاء في الحديث الذي رواه الشيخان: (إنما جعل الاستئذان من أجل البصر).
والاستئذان مطلوب أيضا عند الدخول على الأمهات والأخوات والمحارم عموما، حتى لا تقع عينه عليها وقد وضعت ملابسها، أو في حالة لا تحب أن يراها أحد عليه.
قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: عليكم أن تستأذنوا على أمهاتكم وأخواتكم.
حتى الطفل المميز الذي يعي ويدرك، وترتسم الأفعال والمظاهر بذهنه، يستأذن حين الدخول على محارمه أو غيرهم في أوقات الراحة ومظنة انكشاف العورات.
يقول - تعالى -: {يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر، وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة، ومن بعد صلاة العشاء، ثلاث عورات لكم} النور 58.
وما الاستئذان إلا تشريع وقائي لحفظ الأفراد وصيانة المجتمعات، وستر العورات، وعدم الاطلاع على أسرار البيوت، والمحافظة على الخصوصية.
ومن التشريعات الوقائية أيضا: التفريق في المضاجع بين الأولاد إذا بلغوا العاشرة، سواء أكانوا ذكورا فقط، أو إناثا فقط، أو مختلفينº لما قد يترتب على نومهم في مضجع واحد وتحت غطاء واحد - وهم في هذه السن - من الأمور التي لا يحمد عقباها، فجاء تشريع الإسلام وقائيا استباقيا: (وفرقوا بينهم في المضاجع).
ومن ذلك أيضا: تعويد الصغيرة على الحجابº لتعتاد عليه وتألفه، وتلتزم به إذا كبرت، وفي هذا وقاية من مظهر التبرج المحرم الذي قد تنشأ عليه من لم تتعود على ارتداء الحجاب، والذي يعود ضرره وإثمه عليها وعلى من ينظر إليه.
ومنه أيضا: الأمر للأولاد بالصلاة وهم في السابعة من عمرهم، وفي هذا تعويد لهم على العبادة، ووقاية لهم من نشأة الغافلين البعيدين عن الله - تعالى -.
ومنه أيضا: الأمر بالصمت وإمساك اللسان عن الخوض فيما لا يعني: وقاية للإنسان عن الوقوع في الكذب والبهتان، والغيبة والنميمة، والفحش والبذاءة، وغير ذلك، ووقاية للمجتمع من الآثار السلبية التي تترتب على آفات اللسان.
جاء في الحديث: (طوبى لمن ملك لسانه... ) الحديث رواه الطبراني في (المعجم الصغير) وأبو نعيم في (الحلية) عن ثوبان - رضي الله عنه -، وحسنه الهيثمي والمنذري والسيوطي.
وجاء في حديث آخر: (أمسك عليك لسانك) رواه الترمذي وحسنه، عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه -.
إن التشريعات الوقائية في الإسلام كثيرة، وليس الهدف من هذه المقالة إلا التنبيه على عناية الإسلام بهذا الجانب التربوي، الذي يعتمد على قطع سبل المحظورات، وتوفير الأجواء الملائمة للالتزام والطاعة، ولا يدع المجال للشر والفساد، لتأتي بعد ذلك ردود الأفعال ومحاولات الإصلاح بعد وقوع المحظور.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد