لا شك أن التلاحم العضوي بين القيادة والقاعدة يعكس قوة التنظيم الحركي ومتانة تماسك لبناته، ويدفع العمل الإسلامي إلى إحراز قدر كبير من الانتصارات المختلفة، وكثير من انتصارات المسلمين كانت تبرز هذا العنصر الأساس في هزيمة الأعداء ودحرهم.
ويمثل الانضباط التنظيمي أحد مظاهر هذا التلاحم، وهو لا يعني بأي حالٍ, من الأحوال إلغاء الشخصية، واللهف وراء القيادة في كل ما تقرر وتملي، فإن ضرر هذا أكبر من نفعه، وإن الفرد الذي يستمرئ هذه الحالة، ويكون مجرد إنسان آلي تحركه القيادة ولو بمجرد إشارة دون اعتراضٍ, أو استفسار على الأقل يعرض العمل الإسلامي للزوال والانطماس، وهذه نوعية من البشر لا تحل قومها إلا دار البوار، لأنـها ألغت شخصيتها، ومنهجيتها، ولا يفتح تناميها إلا منافذ سوء يصعب سدها، وفهمها للانضباط بـهذا الشكل مغاير لمنهج أهل السنة والجماعة، وهو أقرب ما يكون إلى الفهم الصوفي الذي يطلب من المريد أن يكون أمام الشيخ كالميت أمام غاسله، تسيره عبارة: \"لا تعترض فتنطرد\".
إن الانضباط في منهج الإسلام الصحيح هو الالتـزام بالأوامر القيادية ما لم تصادم نصاً جلياً وصريحاً، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وإذا كانت القاعدة ملزمة بالانضباط أمام قيادتـها فإن القيادة أيضاً ملزمة بالانضباط أمام منهج الحق والاستقامة الموروث عن جيل السلف الصالح، والتحرر من التبعية لأهوائها، ومطامعها الشخصية، أو العشائرية، ولا يتحقق هذا إلا من استشعار المسؤولية أمام الله والحرص على تقواه.
يقول الإمام ابن القيم: \" أما الذين يتقون فيعلمون أن الدار الآخرة خير من الدنيا فلا يحملهم حب الرئاسة والشهوة على أن يؤثروا الدنيا على الآخرة، وطريق ذلك أن يتمسكوا بالكتاب والسنة، ويستعينوا بالصبر والصلاة، ويتفكروا في الدنيا وزوالها وخستها، والآخرة وإقبالها ودوامها\" [1].
والقيادة عندما تنتهج هذا السلوك الانضباطي وتتقيد بالمنهج في رسم سياستها وجب على القاعدة الانضباط أمام توجيهاتـها، والتعاون معها على تنفيذ أوامرها، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: \" إن التعاون نوعانº تعاون على البر والتقوى من الجهاد، وإقامة الحدود، واستيفاء الحقوق، وإعطاء المستحقين فهذا مما أمر الله به ورسوله.. والثاني: تعاون على الإثم والعدوان كالإعانة على دم المعصوم، أو أخذ مال معصوم، أو ضرب من لا يستحق الضرب، ونحو ذلك فهذا الذي حرمه الله ورسوله\" [2].
وكثير ممن يتحدث عن أهمية الانضباط يبرز جانب الطاعة للقيادة ويورد في ذلك الأحاديث الواردة في طاعة الإمام، ويغفل الجانب الآخر من الانضباط وهو حق الفرد على القيادة، نعم إن من حق القيادة على القاعدة السمع والطاعة، ولكن كما يقول الشيخ محمد قطب: \"معظم الجماعات يعتقد المسؤولون فيها أنـهم هم وحدهم الذين يحق لهم أن يتناقشوا فيما بينهم، فإذا وصلوا إلى قرار ملزم لجميع الأعضاء في الجماعة وأن الآخرين كلهم واجبهم السمع والطاعة بغير اعتراض، وتلجأ تلك الجماعات إلى تـهديد المخالفين بالفصل من الجماعة إن لم يسمعوا ويطيعوا، ويجب أن نقرر حقيقة لا معدى عن تقريرها هي أنه لا يمكن أن تقوم جماعة بالفعل إن لم يكن لقائدها حق السمع والطاعة على الأعضاء، ويجب أن نقرر حقيقة تأريخية أن الذي هزم علياً كرم الله وجهه هو جيشه الذي لم يكن يتفق على رأي، ولم يرضخ لتعليمات قائده حتى يتناقش ويتباحث.. هذا حق.. ولكن الحق من جانب آخر أن استئثار بضعة أفراد في الجماعة بالسلطة بوصفهم المسؤولين، وإلزام الباقين بالسمع والطاعة بغير اعتراض فضلاً عن المخالفة الشرعية التي يحملها.. فإنه هو الذي جعل معظم هذه الجماعات تربي جنوداً ولا تربي قادة.. \" [3].
إذن لا تصلح الأمور بدون انضباط، ولا انضباط إلا بالسمع والطاعة، ولا طاعة إلا في معروف، ولكن مع ذلك لابد من لفت الأنظار إلى ما يلي:
أولاً: ليس من حق القاعدة أن تعرف عن كل صغيرة وكبيرة حتى تنضبط.
ثانياً: إذا ما هم فرد أو جماعة بالتصحيح والتغيير لما يطرأ من انحرافات فلابد أن ينهج القنوات الشرعية، والطرق الرسمية، حتى لا تتحول الأمور إلى فوضى تنظيمية، وحتى لا يكون هناك مجال لعبث العابثين.
ثالثاً: إن كل خطوة تصحيحية لمسار منحرف لا تلتـزم سلوك المنابر التنظيمية في أداء مقاصدها التصحيحية لا محالة في أنـها تفتح للفتن مداخل الولوج، ومنافذ التسلل ولذا لابد من اعتبار مآلات الخطوات التصحيحية قبل الإقدام عليها والنظر عما يترتب عليها من مصالح ومفاسد، فلا تـهدر مثلاً المصلحة الكلية في سبيل تحقيق مصلحة جزئية، لأن القاعدة المقررة، كما يقول الإمام الشاطبي أنه: \"إذا تعارض أمر كلي وأمر جزئي فالكلي مقدم، لأن الجزئي يقتضي مصلحة جزئية والكلي يقتضي مصلحة كلية، ولا ينخرم نظام في العالم بانخرام المصلحة الجزئية بخلاف ما إذا قدم اعتبار المصلحة الجزئية فإن المصلحة الكلية ينخرم نظام كلتيها.. \" [4].
ومعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كف عن تصحيح وضع الكعبة، وامتنع عن قتل المنافقين، ونـهى عن زجر الأعرابي البائل بمسجده مراعاة لسوء مآلات هذا التصحيح والتغيير، وقد أورد الشاطبي في تأصيل هذا المبدأ هذه الوقائع فقال: \"فقد قال في الحديث حين أشير عليه بقتل من ظهر نفاقه: أخاف أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه وقوله: لولا أن قومك حديثوا عهد بكفر لأسست البيت على قواعد إبراهيم. بمقتضى هذا أفتى مالك الأمير حين أراد أن يرد البيت على قواعد إبراهيم فقال: لا تفعل لئلا يتلاعب الناس ببيت الله.. \" [5].
ورب عمل تصحيحي يندفع إليه المرء بحسن نية وحماس ثائر دون دراسة مآلاته ومعرفة مفاسده ومصالحه وفق ضوابط الشرع وقواعده، لا يورثه والمسلمين معه إلا عظيم المفاسد من الانشقاق والانقسام، والتعادي، والتباغض، والإحباط، وفقدان الثقة، وغلبة العدو وتسلطه مع وهن الصف وتـزلزله.
رابعاً: إن الأمور الاجتهادية والإدارية ليس من حق القاعدة التمرد عليها، وعصيان أوامر الالتـزام بـها مادامت أقرت رسمياً عبر مؤسسات التنظيم الشورية وبعد حوار علمي ونقاش فكري.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: \"إن مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد، وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية فمن يثبت له صحة أحد القولين تبعه، ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه.. \" [6].
ومن حق القيادة أن تلزم القاعدة بما قررته فيها ضبطاً للأمور والمواقف، ودرءاً للمفاسد المترتبة على ترك كل فرد وشأنه أو قناعته، ومن الوعي والفقه السليم حينئذ أن تنضبط القاعدة ولا تنفلت، وأن يسير الكل خلف القيادة فيما اجتهدت، مع الاحتفاظ بوجهة النظر المخالفة، لأن ابن مسعود صلى خلف عثمان - رضي الله عنهما - حيث أتم في السفر مع إنكاره عليه، وقال: الخلاف شر [7].
ويضرب لنا الشيخ ابن عثيمين مثلاً فيما ينبغي أن نتخذه في المسائل الاجتهادية في تنظيم علاقات بعضنا ببعض برجلين أكلا لحم جزور ولكل منهما مذهبه في حكم الوضوء من أكله، فهل الذي يرى وجوب الوضوء منه يصلي خلف من لا يرى ذلك؟ قال: \"أنا أستطيع أن أصلي خلف هذا الذي صلى بدون وضوء بعد أن أكل لحم الإبل.. لماذا؟ لأني أعتقد أن الصلاة في حقه صحيحة، وأنا لو صليت بلا وضوء وأنا أعتقد وجوب الوضوء من لحم الإبل فصلاتي باطلة، إذن لا يجوز أبداً أن أحمل ضغينة، أو عداوة، أو كراهية، لأن هذه مسائل اجتهاد يسوغ فيها الاجتهاد\" [8].
وفي بعض الأحايين قد تتخذ القيادة بعض المواقف السياسية انطلاقاً من الموازنة بين المفاسد والمصالح، وهذا قد يبدو في حينه لبعض أعضاء القاعدة مجانبة للصواب، وانحرافاً عن المنهج، ومع حقهم في ممارسة النقاش والاستفسار بحثاً عن الحكمة السياسية التي وراء ذلك الموقف لا يحق لهم استنفار القاعدة لكسر حاجز الانضباط، وإعلان موقف العصيان، والتشنيع على القيادة بحق وبغير حق، فإن في فعل ذلك شيئاً من أخلاق الخوارج وتصرفاتـهم وهو ليس أسلوباً حضارياً ولا شرعياً في حسم الخلاف، ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما تألف بعض سادة عشائر العرب بدفع الأموال إليهم جاءه رجل كث اللحية مشرق الوجنتين غائر العينين ناتئ الجبين محلوق الرأس، فقال: اتق الله يا محمد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فمن يتق الله إن عصيته؟ أيأمنني على أهل الأرض ولا تأمنونني؟ [9].
ثم عقب شيخ الإسلام فقال: \"هذا النوع من العطاء وإن كان ظاهره إعطاء الرؤساء وترك الضعفاء كما يفعل الملوك فالأعمال بالنيات، فإذا كان القصد بذلك مصلحة الدين وأهله كان من جنس عطاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه، وإن كان المقصود العلو في الأرض والفساد كان من جنس عطاء فرعون، وإنما ينكره ذوو الدين الفاسد كذي الخويصرة الذي أنكر على النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى قال فيه ما قال، وكذلك حزبه الخوارج أنكروا على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ما قصد به المصلحة من التحكيم، ومحو اسمه وما تركه من سبي نساء المسلمين وصبيانـهم\" [10].
إن هذا يدلنا على أن هناك بعض المواقف السياسية يتعاطاها الفراعنة، وكذلك المؤمنون الصالحون، ولكن الفارق بين الموقفين أن الفراعنة يقصدون بـها الفساد في الأرض، بينما المؤمنون يقصدون بـها تمكين الدين وإصلاح العباد، وإذا كانت القاعدة لا تثق بنوايا قيادتـها فلاشك أنـها ستخلط بين الموقفين، وستجعل مواقفها في مثل هذه السياسات من جنس مواقف السياسات الفرعونية، ومن ثم ستنكر عليها وتفلت من زمامها، اعتقاداً منها أنـها انحرفت عن النهج، وحادت عن الصواب كما فعل الخوارج مع علي بن أبي طالب حين محا لقب أمير المؤمنين عن اسمه عند التحكيم لمصلحة قدرها، واعتبروا ذلك شكاً منه في خلافته وخروجاً عن منهج الحق. ناسين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك في صلح الحديبية لمصلحة رآها.
إذن توافر الثقة بين القيادة والقاعدة يزيل كثيراً من عوامل الالتباس التي تفقد الصف الحركي انضباطه، وتتركه عرضة لعواصف الشكوك والظنون.
والقيادة لكي تكسب ثقة قاعدتـها عليها أولاً أن تراعي خشية الله وعظمته، وتتخلص من نوازع النفس الشريرة، والميولات الحزبية، والقبلية، ثم تحرص قدر ما أمكن على التقيد بالقرارات الشرعية، وطرح مواقفها السياسية في المجالس الاستشارية، ثم تنضبط بعد ذلك بقراراته، ومن حقها أن تسعى في إقناعه بما تراه صائباً وتحاوره حواراً علمياً ثم تنفذ على أرض الواقع دون مجاملة أو مهادنة ما توصلت إليه معه من قرارات، كما أن القاعدة عليها أن تتحلى بقدر كبير من الصبر والثقة في قيادتـها وأن تكثف من وعيها الإسلامي بالتحصيل العلمي حتى تتقيد بقواعد الشرع في التعامل مع قيادتـها، وحتى لا يعبث بعواطفها من يؤلبها لفرض رأي فاسدٍ, على قيادتـها، وعليها أن تدرك أن خطأ كل فرد قيادي في العمل الإسلامي لا ينبغي أن يسوغ بحسن النوايا، وأن رفع كل شعار مستساغ لا يعني صحة الأعمال والممارسة، وحسن النيات، فكم من كلمة حق أريد بـها باطل، وإن العمل الإسلامي قد يخترق من أعدائه، وإن المخترقين قد يبلبلون الصف المسلم فيسلب انضباطه كما فعل السبئيون في خلافة عثمان رضي الله عنه، وكما فعلوا في معركة الجمل، ولا يحال بين نفاذ هذه السياسات السبئية إلى صفوفنا إلا بوعي القاعدة بواجبها الإسلامي، وتجردها لله رب العالمين، لا تغضب إلا له، ولا ترضى إلا له، وتكون على وعي وإدراك بمقاصد الشريعة، ومراتب تغيير المنكر.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: \"فأما من يغضب لنفسه لا لربه، أو يأخذ لنفسه ولا يعطي غيره فهذا.. شر الخلق لا يصلح بـهم دين ولا دنيا.. \" [11].
ولكي تترسخ مفاهيم الانضباط التنظيمي لدى القاعدة أرى التعامل معها على النحو التالي:
أولاً: تربية القاعدة على الوازع الإيماني وخشية الله وإخلاص النية له، والصبر على الأذى، يقول الشيخ الإسلام ابن تيمية: \"وأعظم عون لولي الأمر خاصة ولغيره عامة ثلاثة أمور، أحدها: الإخلاص لله، والتوكل على الله بالدعاء وغيره، وأصل ذلك المحافظة على الصلوات بالقلب والبدن، والثاني: الإحسان إلى الخلق بالنفع والمال الذي هو الزكاة، والثالث: الصبر على أذى الخلق وغيره من النوائب\" [12].
ثانياً: كسب قلوب القاعدة وثقتها بالإحسان إليها، وتفقد أحوالها، والتعامل معها بيسر. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: \"فهكذا ينبغي لولي الأمر في قسمه وحكمه، فإن الناس دائماً يسألون ولي الأمر ما لا يصلح بذله من الولاية، والأموال، والمنافع، والجود، والشفاعة في الحدود وغير ذلك، فيعوضهم من جهة أخرى إن أمكن أو يردهم بميسور من القول ما لم يحتج إلى الإغلاظ فإن رد السائل يؤلمه خصوصاً من يحتاج إلى تأليفه\" [13].
ثالثاً: مقاومة كل ما من شأنه أن يثير الاضطراب، وبتر كل ما من شأنه إضعاف عامل الثقة وهز الانضباط. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: \"وكذلك الشر والمعصية ينبغي حسم مادته، وسد ذريعته ودفع ما يفضي إليه إذا لم يكن فيه مصلحة راجحة. مثال ذلك ما نص عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: لا يخلون الرجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان\" [14].
رابعاً: محاسبة كل مسؤول من القيادة والقاعدة في المهام الموكلة إليه فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته...
----------------------------------------
[1] - الفوائد 100-101.
[2] السياسة الشرعية: 53.
[3] واقعنا المعاصر: 498 499.
[4] الموافقات: 1/324.
[5] الموافقات: 4/197 198.
[6] مجموع الفتاوي: 30/80.
[7] ابن تيمية: القواعد النورانية الفقهية: 43 44.
[8] إلى متى هذا الخلاف: 39 41.
[9] مجموع الفتاوى: 28/289، السياسة الشرعية: 59.
[10] مجموع الفتاوي: 28/290.
[11] السياسة الشرعية: 66.
[12] السياسة الشرعية: 139.
[13] السياسة الشرعية: 148.
[14] السياسة الشرعية: 148 149.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد