النـزعة الحزبية في العمل الإسلامي والموقف منها


 

بسم الله الرحمن الرحيم

النـزعة الحزبية من أهم ما يفتك بكيان العمل الإسلامي ويبعضه إلى أبعاض متناحرة. ودفعاً لشرورها، واتقاءً لمردودها السيء أبى الدين إلا أن يشدد النكير على إتيانـها ودعا إلى إخاء إسلامي يسع كل أبناء الإسلام ويربطهم برابطة العقيدة ووثاق الإيمان. والحديث عنها كتابة أو محاضرة يكتسب أهميته من واقع العمل الإسلامي الذي يعيش اليوم حاله التدابر والتلاوم، متأثراً بأطر تنظيمية ضيقة، وأفكار انعزالية تصرفه عن الوجهة التعاونية التكاملية مع نظرائه وشركائه في الفهم والغايةº إلى النظرة الأحادية، وهذه النـزعة أخطر ما فيها فساد ذات البين، وأخطر ما في فساد ذات البين حلاقة الدين كما ورد في الحديث، إضافة إلى أنـها تحمل حاملها على الانزواء والانكماش خلف أسوارها، بل وتذهب به إلى قلب الموازين فيرى الحق باطلاً، والباطل حقاً، ويستمرئ تطفيف المكيال في أقواله، وظلم العباد في أحكامه، وتعميق الخصومات في علاقاته.

 

يقول فيها الأستاذ البنا - رحمه الله -: \"بل فهمناها عداوة، وبغضاء تتعدى النظر في المصالح العامة إلى المقاطعة في كل الشؤون عامة، وخاصة، وإلى أن نرى الحق في جانب خصومنا الحزبيين باطلاً، والباطل في جانب أنصارنا الحزبيين حقاً، ونصدر من هذا الشعور في كل تصرفاتنا وصلاتنا، ويستفحل الداء، ويستشري حتى في أحرج المواقف فلا نستطيع أن نوحد صفوفنا في أي موقف قوي مهما يكن يتوقف عليه إصلاح أمرنا ومستقبل بلادنا\"[1].

 

وسواءً أكان البنا يقصد بكلامه هذا الأحزاب العلمانية التي تكاثرت في عالمنا الإسلامي وتخاصمت على مقاعد الحكم فيه، أم فكرة التحزب ذاتـها بغض النظر عن موطن نشوئها ومجال تناميها فإن الحقيقة التي لابد من تثبيتها هنا أن النـزعة الحزبية من العلل التي أضحت تنخر في جسم العمل الإسلامي وأخذت تدفع بكل أفراده إلى تأسيس الموالاة والمعاداة على أساس الانتماء الحزبي، وإن المتشبع بـها نراه يبلغ من الغي إلى درجة لا يبالي فيها بتقديم ما حقه التأخير، وتأخير ما حقه التقديم، وينقاد فقط لما يوحى إليه من جهة انتمائه، وعلى هذا يبني مواقفه العملية إقداماً أو إحجاماً ونصرة، أو نفرة.

 

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: \"وكثير من أتباع المتعبدة يتبع بعض المعظمين عنده في كل ما يأمر به، وإن تضمن تحليل حرام، أو تحريم حلال\"[2].

 

ولهذا تجده أسير حزبه يحبس نفسه بين جدران الحزب، ويحكم على عقله بالإلغاء، ولا يكلف نفسه بقراءة ما يصدر من مخالفيه في الرأي، وتسيطر عليه دائماً هواجس النفس المتربصة التي تَسِمُ الآخرين بالتآمر، ولا تظن بـهم إلا ظن السوء، بل لا تطيق منهم قولاً أو فعلاً ولا تتعامل معهم إلا بالمكر والمكايدة، ويقابل هذا بمغالاة في توقير ذاته، والاعتزاز برأيه، ومواقفه حتى أنه ليعتقد أنه وحده الناجي، وأن كل من سواه هالك، وأنه وحده المخلص، وأن كل من سواه خائن متآمر، وأنه ما لم يكن هو في القيادة والقمة فإن غيره لا يصلح أن يقود، وأنه وحده المصيب وغيره المخطئ، ومن ظلمه وتقتيره في العدل والإنصاف أنه في الوقت الذي يحاول فيه تسويغ تصرفاته الحزبية بحق وبغير حق لا يسمح لنفسه ولا لغيره تسويغ أعمال الآخرين وتصرفاتـهم فهو ممن قال الله - تعالى - فيهم: ]إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون[.

 

إن مثل هذا التفكير شائع في معظم أفراد الحركات الإسلامية إلا من رحم ربك، ولذا يصعب التحاور مع حملة هذا التفكير، ومن أم الكبائر عندهم نقد آرائهم الحزبية.

 

التخلص من الحزبية إخلاص للنية:

وإذا ما أردنا البراءة من الحزبية لابد من أن ندرك أن العمل الإسلامي بشتى مناشطه نوع من أنواع العبادة يشترط فيه إخلاص النية، وموافقة الكتاب والسنة، والمرء منا في الحركة الإسلامية أياً كان موقعه لابد من أن يجرد عمله لله رب العالمين، لا يعمل نصرة لحزب، ولا تأييداً لشخص، فإن من عمل عملاً تحزباً لفئة على فئة، أو لفرد على فرد فقد أحبط عمله، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: \"من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله\".

 

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: \"فإذا كان المجاهد الذي يقاتل حمية للمسلمين، أو يقاتل رياء للناس ليمدحوه، أو يقاتل لما فيه من الشجاعة، لا يكون قتاله في سبيل الله - عز وجل -، حتى يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فكيف من يكون أفضل تعلمه صناعة القتال مبنياً على أساس فاسدٍ, ليعاون شخصاً مخلوقاً على شخص مخلوق، فمن عمل من ذلك كان من الجاهلية الجهلاء، والتتر الخارجين عن شريعة الإسلام، ومثل هؤلاء يستحقون العقوبة البليغة الشرعية التي تزجرهم وأمثالهم عن مثل هذا التفرق والاختلاف، حتى يكون الدين كله لله، والطاعة لله ورسوله، ويكونون قاضين بالقسط يوالون الله ورسوله، ويحبون لله، ويبغضون لله، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر\"[3].

 

ويوضح شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً أن التحالف الذي يحدث بين شخص وآخر على أن ينصر كل منهما الآخر في معاداة من يعاديه، وموالاة من يواليه نوع من المجاهدة في سبيل الشيطان، فيقول - رحمه الله -: \"ومن حالف شخصاً على أن يوالي من والاه، ويعادي من عاداه كان من جنس التتر المجاهدين في سبيل الشيطان، ومثل هذا ليس من المجاهدين في سبيل الله - تعالى -، ولا من جند المسلمين، ولا يجوز أن يكون مثل هؤلاء من عسكر المسلمين، بل هؤلاء عسكر الشيطان\"[4].

 

وتحالف الحزبيين يقوم على هذا الفهم، وهو كما لاحظت فهم تتري وليس فهماً إسلامياً، ولضرر حامليه وخطورتـهم على الصف الإسلامي يستعيذ شيخ الإسلام أن يكونوا من معسكر المجاهدين وإن وضعهم الطبيعي بما يحملونه من أفكار حزبية هو معسكر الشيطان.

 

والتحالف الذي يكون بين معسكر الإسلام تكون صيغته التحالفية كما وضحها شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - على هذا النحو:

 

\"عليك عهد الله وميثاقه أن توالي من والى الله ورسوله، وتعادي من عادى الله ورسوله، وتعاون على البر والتقوى، ولا تعاون على الإثم والعدوان، وإذا كان الحق معي نصرت الحق، وإذا كنت على الباطل لم تنصر الباطل، فمن التزم كان من المجاهدين في سبيل الله الذين يريدون أن يكون الدين كله لله، وتكون كلمة الله هي العليا\"[5].

 

والتربية الإسلامية الصحيحة هي التي تقوم على تكريه التحزب في القلوب وعلى اقتلاعه بدل تعميقه، وعلى تقبيحه بدل تحسينه حتى تنشأ ناشئة المجاهدين، وليس في قلوبـها غل للذين آمنوا إخوة متعاونين، وأحبة متآزرين.

 

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: \"وليس للمعلمين أن يحزبوا الناس ويفعلوا ما يلقى بينهم العداوة والبغضاء، بل يكونوا مثل الإخوة المتعاونين على البر والتقوى.. وليس لأحد منهم أن يأخذ على أحد عهداً بموافقته على كل ما يريده، وموالاة من يواليه، ومعاداة من يعاديه، بل من فعل هذا كان من جنس جنكيز خان، وأمثاله الذين يجعلون من وافقهم صديقاً ولياً، ومن خالفهم عدواً باغياً.. \"[6].

 

وتمقت التربية الإسلامية عكس التربية الحزبية عقوبات الهجران التي تصدرها بعض الاتجاهات على كل من لم ينضو تحت لوائها، أو ينتقد فيها موقفاً مخالفاً لنهج الإسلام وهذا في الحقيقة نوع من الإرهاب الفكري، ومصادرة لحق الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ونمط من أنماط سياسات القساوسة والرهبان الذين يصدرون صكوك الحرمان عقوبة لكل من خالفهم، وخرج على آرائهم.

 

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: \"وإذا جنى شخص فلا يجوز أن يعاقب بغير العقوبة الشرعية، وليس لأحد من المتعلمين، والأستاذين أن يعاقبه بما يشاء، وليس لأحد أن يعاونه ولا يوافقه على ذلك مثل أن يأمر بـهجر شخص فيهجره من غير ذنب شرعي، أو يقول: أفقدته، أو أهدرته، أو نحو ذلك، فإن هذا من جنس ما يفعله القساوسة والرهبان مع النصارى، والحزابون مع اليهود، ومن جنس ما يفعله أئمة الضلال والغواية مع أتباعهم.. \"[7].

 

والداء الحزبي قد يتسرب إلى النفس مستغلاً فيها منافذ الخير، وحمية الحق أصلاً في استخدامها خارج ما استنفرت في سبيله، وتحويلاً لمسارها الصحيح إلى آخر منحرف يأخذ طابع الحزب أو القبيلة، أو الإقليم، بعد أن كان في الأصل نـهوضاً مخلصاً لنصرة الحق وتأييده.

 

يقول الإمام الذهبي مبيناً خطورة المؤثرات النفسية على صفاء النية وتجردها لله: \"فكم من رجل نطق بالحق، وأمر بالمعروف فيسلط الله عليه من يؤذيه لسوء قصده، وحبه للرياسة الدينية، فهذا داء خفي سار في نفوس الفقهاء، كما أنه داء سار في نفوس المنفقين.. وهو داء خفي يسري في نفوس الجند، والأمراء، والمجاهدين، فتراهم يلتقون العدو ويصطدم الجمعان وفي نفوس المجاهدين مخبئات وكمائن من الاختيال، وإظهار الشجاعة.. وينضاف إلى ذلك إخلال بالصلاة، وظلم للرعية، وشرب للمسكر، فأنى ينصرونه؟! وكيف لا يخذلونه؟! اللهم: فانصر دينك، ووفق عبادك.. \"[8].

 

ولابد من تلقف الحق أياً كان مصدره، والكف عن ازدراء المسلمين وتحقيرهم، أو التقليل من شأنـهم، وكل تربية خلاف ذلك تعد حالة مرضية تقتضي المعالجة. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: \"تجد كثيراً من المتفقهة إذا رأى المتصوفة، أو المتعبدة لا يراهم شيئاً، ولا يعدهم إلا جهالاً وضلالاً، ولا يعتقد في طريقهم من العلم والهدى شيئاً، ونرى كثيراً من المتصوفة، والمتفقرة لا يرى الشريعة ولا العلم شيئاً، بل يرى أن المتمسك بـها منقطع عن الله، وأنه ليس عند أهلها مما ينفع عند الله شيئاً، وأن ما جاء به الكتاب والسنة من هذا وهذا حق، وما خالف الكتاب والسنة من هذا وهذا باطل\"[9].

 

وكما ينبغي التحذير من التكتلات الحزبية وولاءاتـها المبنية على أسس غير إسلامية لابد أيضاً من التحذير عن التحزبات القبلية والإقليمية داخل العمل الإسلامي.

 

روى مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر قال: اقتتل غلامان غلام من المهاجرين، وغلام من الأنصار، فنادى المهاجر: يا للمهاجرين، ونادى الأنصاري: يا للأنصار، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما هذا؟ أدعوى الجاهلية، قالوا: لا يا رسول الله، إلا أن غلامين اقتتلا فكسح أحدهما الآخر، فقال: \"لا بأس، ولينصر الرجل أخاه ظالماً، أو مظلوماً، إن كان ظالماً فلينهه فإنه له نصرة، وإن كان مظلوماً فلينصره\".

 

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: \"فهذان الاسمان: المهاجرون والأنصار اسمان شرعيان جاء بـهما الكتاب والسنة، وسماهما الله بـهما كما سمانا المسلمين من قبل.. وانتساب الرجل إلى المهاجرين والأنصار انتساب حسن محمود عند الله وعند رسوله، ليس من المباح الذي يقصد به التعريف فقط كالانتساب إلى القبيلة، أو الأمصار.. ثم مع هذا لما دعى كل منهما طائفته منتصراً بـها أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - وسماه دعوى الجاهلية.. فأمر بمنع الظالم وإعانة المظلوم.. \"[10].

 

وقال أيضاً: \"بل الأشياء التي يسوغ التسمي بـها مثل انتساب الناس إلى إمام كالحنفي، والمالكي، والشافعي، والحنبلي، أو إلى شيخ كالقادري، أو العدوي، ونحوهم، أو مثل الانتساب إلى قبيلة، من القبائل كالقيسي، واليماني، وإلى الأمصار كالشامي والعراقي والمصري فلا يجوز لأحد أن يمتحن الناس بـها، ولا يوالي بـهذه الأسماء ولا يعادى عليها\"[11].

 

هذا هو منهج الإسلام السوي في موقفه من التحزب الفئوي، أو القبلي، أو الإقليمي، لا يوالي ولا يعادي إلا على أساس الانتماء للإسلام والتمسك بالحق، وما عدا ذلك خلل في التفكير والمفاهيم لا يؤدي بالعمل إلا إلى الهلاك بعد الضعف والشتات...

 

----------------------------------------

[1] مجموعة رسائل البنا/332.

[2] اقتضاء الصراط المستقيم 1/76 77.

[3] مجموعة الفتاوى 28/ 9 5.

[4] المصدر السابق.

[5] مجموع الفتاوى 28/9 5.

[6] المصدر السابق.

[7] مجموع الفتاوى 28/ 9 5.

[8] سير أعلام النبلاء 18/192.

[9] اقتضاء الصراط المستقيم 1/77 78.

[10] اقتضاء الصراط المستقيم 1/210 211.

[11] مجموع الفتاوى 3/415.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply