تاسعاً: الآثار المترتبة على الغيرة:
إذا تصرف الغيور و أظهر غيرته بأي مظهر من المظاهر السابقة فإنه يترتب على هذا بعض الأشياء منها:
1- الذنب و المعصية: بعض المظاهر السابقة يترتب عليها أن يذنب الغيور فيكون بتصرفه هذا ارتكب معصية ربما كانت كبيرة من الكبائر و ربما استحق عليها الغيور العقاب، فمثلاً الغيبة ذنب و الغيور يكثر أن يغتاب في الحديث الذي رواه أبو داود عن عائشة قالت: قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم - حسبك من صفية كذا وكذا قال غير مسدد تعني قصيرة فقال: ((لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته قالت وحكيت له إنسانا فقال ما أحب أني حكيت إنسانا وأن لي كذا وكذا)) صححه الألباني في صحيح سنن أبي داود برقم 4875)
فهنا عائشة اغتابت صفية فأخبرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن كلمتها هذه لو مزجت بماء البحر لمزجته من شدة نتنها و قبحها.
2- ذهاب الحسنات: وذلك لأنه إذا كان يوم القيامة يؤتى ببعض الناس ولهم حسنات ولكنهم يأتون وقد ظلموا واعتدوا على الآخرين فتؤخذ من حسناتهم وتعطى للمظلومين.
والغيور ربما يعتدي على المغار منه أو يظلمه فإذا جاء يوم القيامة أخذ من حسنات الغيور وأعطيت للمغار منه المظلوم المعتدى عليه.
كما أن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب.
3- تفكك الأسرة: قد تكون نهاية الغيرة الطلاق وكثير من قصص الغيرة تبين ذلك حيث يتبرم الزوج من غيرة زوجته الزائدة حتى يأتي اليوم الذي يقرر فيه التخلص من هذا الجحيم بحسب رؤيته، وكذلك الحال بالنسبة للزوجة.
4- الأمراض النفسية: الغيور قد يصل بها الحد إلى الوصول إلى الأمراض النفسية كالانطواء والقلق والشعور بالإحباط و اليأس والشعور بالظلم ونحو ذلك.
5- الأمراض الجسدية: قد لا يقف الأمر عند حد الأمراض النفسية مع خطورتها بل يتطور الأمر إلى الأمراض الجسدية كالاضطرابات المعوية وفقد الشهية والصداع والتقيؤ ونحو ذلك.
6- الشيخوخة المبكرة: لأن الغيور سيعاني متاعب نفسية ومتاعب جسدية كما سبق مما يعجل بشيخوخته، فتبدو الغيور كعجوز كبيرة السن مع أنها لم تصل إلى هذه الدرجة.
عاشراً: بين الغيرة و المحبة والغيرة و الحسد:
بين الغيرة و المحبة علاقة وثيقة وهي علاقة طردية فلا توجد الغيرة إلا مع وجود المحبة، فالغيور إنما غار على الشخص الآخر لأنه يحبه ولو لم يحبه لم يغر عليه، هذا أيها الاخوة في الغالب و ربما يكون ما يخالف هذا الغالب.
وهناك فرق بين الغيرة والحسد نعم قد يكون الحسد نتيجة الغيرة وقد تتشابه الغيرة والحسد من الناحية الانفعالية، لكن في الحقيقة بينهما فرقاً يظهر في نوع المنافسة ففي الحسد يقارن الحاسد نفسه مع طرف آخر فهي إذن منافسة بين طرفين فقط، أما الغيرة ففيها ثلاث أطراف غيور ومغار منه و مغار عليه وبهذا تستطيع أن تميز بين الحسد والغيرة.
مثال: طالبة متفوقة في دراستها فتأتي أخرى وتتضايق من هذا التفوق فهنا العملية هنا حسد لأنه لا يوجد ثالث يتنافس على كسب رضاه وحبه بينما لو كانت هناك طالبة تحبها أستاذتها وربما تفضلها على الأخريات فتأتي طالبة أخرى تحب هذه الأستاذة و تتمنى لو نالت على إعجابها ورضاها فهنا تضايق هذه الطالبة الثانية من مكانة الطالبة الأولى نسميه غيرة.
حادي عشر: علاج الغيرة و الوقاية منها:
لا أزعم أني سأذكر علاجاً للغيرة لأن الغيرة أمر فطري جبلي فليس هناك علاج جسدي ولا نفسي للغيرة، و لكن هناك أمور نستطيع أن نقول أنها ربما قللت من الغيرة أو قللت من تأثيراتها
وهذه الأمور منها ما يفعله الغيور و منها ما يفعله المغار عليه
فما يفعله الغيور ما يلي:
1- تقوى الله ومراقبته: إذ إن المسلم الشأن فيه أن يخاف من الله فيضبط ألفاظه و أفعاله بناء على ذلك، و إذا اتقى الله امرؤ و راقبه جاهد نفسه على أن تبقى الغيرة في قلبه فلا يعبر عنها بما يضر الآخرين بأي نوع من الضرر، و لعل هذا يفسر لنا أمر النبي حفصة بقوله اتق الله يا حفصة في الحديث الذي رواه الترمذي ورواه أحمد والنسائي في الكبرى، وصححه ابن حبان وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي برقم (4166) عن أنس قال: ((بلغ صفية أن حفصة قالت بنت يهودي فبكت فدخل عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي تبكي فقال ما يبكيك فقالت قالت لي حفصة إني بنت يهودي فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - إنك لابنة نبي وإن عمك لنبي وإنك لتحت نبي ففيم تفخر عليك ثم قال اتقي الله يا حفصة)).
وإذا ارتفع الإيمان في قلب الغيور جاهد نفسه على أن لا يعصي الله بأي معصية باعثها الغيرة، ولو حصل له ذلك سرعان ما يندم و يتوب في الحديث الذي رواه أبو داود ورواه النسائي أيضاً وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود رقم 3568، وقال محقق جامع الأصول إسناده حسن، قالت عائشة - رضي الله عنها -: ((ما رأيت صانعا طعاما مثل صفية صنعت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - طعاما فبعثت به فأخذني أفكَلُ فكسرت الإناء فقلت يا رسول الله ما كفارة ما صنعت قال: ((إناء مثل إناء وطعام مثل طعام)).
فهنا عائشة غارت فترتب على غيرتها أذى للآخرين فندمت و طلبت الكفارة لتتخلف من التبعة.
وإذا قوي الإيمان في نفس الغيور و ازداد عنده الورع فعصمه هذا من المعصية التي باعثها الغيرة في الحديث عن زينب فعصمها الله بالورع.
2- استحضار الأجر عند الله إذا صبر الغيور، إذ إن الغيور يواجه أمراً قد يصعب تحمله لذا فإنه إذا صبر فلعله ينال أجر الصابر، إذا استحضر الغيور هذا الأجر الذي سيناله فإنه ربما لم يعبر عن غيرته بما لا يرضي الله. بل روي أن الغيور من النساء إذا صبرت فلها أجر المجاهد (عبد الرزاق في 7/302 حديث رقم 13270).
3- إحسان الظن: بعض مظاهر الغيرة إنما هي مبنية على سوء الظن و قد لا يكون لهذا الظن السيئ ما يسنده، فقد ترى الغيور أن الزوج إنما فعل هذا ليكون كذا وكذا فهو لم يسافر هذا اليوم ليكون عند الضرة الأخرى و هو إنما خرج في هذا الوقت لكي يذهب إلى الأخرى و هكذا ثم يتبين في النهاية أن ظنها لم يكن في محله.
عائشة - رضي الله عنها - حينما خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى البقيع في ليلتها وهي نائمة لحقت به تراقبه ظناً منها أنه سيذهب إلى امرأة أخرى.
4- الدعاء من الغيور و من المتنافس عليه: بأن يدعو الله الغيور أن يخفف عنه الغيرة وأن يحفظه من ارتكاب المحرم بسبب هذه الغيرة.
كما أن المتنافس عليه يدعو الله أن يذهب بغيرة الغيور التي تغار عليه أو يخففها في الحديث الذي رواه مسلم رقم918 أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث حاطب بن أبى بلتعة يخطب له أم سلمة فقالت أم سلمة إن لي بنتاً وأنا غيور فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((أما ابنتها فندعو الله أن يغنيها عنها و أدعو الله أن يَذهَبَ بالغيرة)).
5- البعد عن مواطن إثارة الغيرة سواء من الغيور أو من المغار منه، فإذا كان رؤية الضرة تثير غيرتها فلا ترها وإن كان سكناها قريباً من ضرتها يثير غيرتها فلتطلب الابتعاد في السكن، كما أن المغار منه عليه أن يبتعد عن مواطن إثارة الغيرة،
فالزوجة التي ترى أن أم زوجها تغار منها إن رأت عليها ذهباً جديداً لا تلبسه أمامها، والضرة لا تتحدث عن رضا زوجها عنها وحبه لها أو إعطائها شيئاً من قبله أمام ضرتها.
6- الرضا بما قسم الله و قضاه و قدره: فالغيور إذا رضي بما قدر الله له حق الرضا لم يدفعه هذا إلى ارتكاب المحظور نتيجة الغيرة، الزوجة التي لم ترزق بولد بينما ضرتها لها أولاد إذا أدركت أن هذا من الله وقد قدر عليها هذا لم تدفعها غبرتها إلى انتقاص الضرة أو انتقاص أولادها أو اتهامهم بالفساد عند أبيهم أو التقليل من شأنهم أو اتهامهم بعدم نفع أبيهم و هكذا.
7- عدم احتقار النعمة التي عندك: وإذا كان الله أعطى إنساناً شيئاً ماً فقد أعطاك الله غيره فلم الغيرة، إذن لا تزدري نعمة الله عليك و تتطلعي إلى غيرها.
و أما ما يفعله المغار عليه فمنها ما يلي:
1- الدعاء بأن يذهب غيرة الغيور أو يخففها و قد سبق حديث أم سلمة.
2- العدل سواء بين الأولاد أو بين الزوجات فالعدل بينهم واجب و إذا رأى الغيور أن المغار عليه عادل بينه و بين المغار منه ربما خفف من غيرته.
3- البعد عن مواطن إثارة الغيرة: فلا يمدح زوجة عند الأخرى وولد عند اخوته و لا يقارن بين الغيور و بين الزوجة الأخرى أو الأولاد الآخرين، و إذا رأى أن أمه ستغار من زوجته بسبب معرفتها أنه ذهب بها إلى نزهه مثلاً فلا يعلمها بهذا و إذا كانت أخته ستغار من زوجته عندما يتحدث عن حبه لها و إعجابه بصفاتها فلا يتحدث، و إذا رأى أن زوجته ستغار من أمه حينما تعلم أنه أعطاها مبلغاً من المال فلا يخبر زوجته، و إذا كانت ترى أن ضحكاتها مع عمها أو خالها أمام زوجها يثير غيرته فلا تفعل هذا و هكذا في بقية الأمثلة.
4- التفهم بالكامل للغيرة فلا يوبخ المغار عليه الغيور على غيرته، بل يجب أن يتفهم هذه الغيرة، لأنها أمر فطري وما دام أنه في حدود المعقول يجب أن يتفهم، الرسول - صلى الله عليه وسلم - حينما كسرت عائشة - رضي الله عنها - قصعة أم سلمة لم يعاقب عائشة بل قال: ((غارت أمكم)).
وحينما غارت حفصة فقالت لصفية إنها بنت يهودي قال: ((لها اتق الله يا حفصة)).
لكن حينما يكبر الأمر وتقع الغيور في المحظور وتتجاوز حدود الغيرة هنا يأتي أمر آخر وهو التأديب لا على الغيرة وإنما على ما حصل نتيجة الغيرة.
5- إظهار الحب والحنان للغيور، وأنه أي المغار عليه مستمر في حب الغيور و لم يفضل غيره عليه، فالزوج الذي تزوج ثانية لا يعني هذا أن يهجر الأولى و يمدح الثانية أمامها و يسمع الأولى من الكلمات ما يثير غيرتها بل عليه أن يظهر للأولى أن حبها لم يزل باقياً ولم يغيره الزواج الثاني، كذلك بالنسبة للولد حينما يقدم الولد الجديد.
6- تذكير الغيور بأن ما تفعله إنما هو نتيجة الغيرة، فلربما تستحي و توقف تصرفاتها، في الحديث الذي رواه مسلم عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خرج من عندها ليلا قالت فغرت عليه فجاء فرأى ما أصنع فقال: (مالك يا عائشة أغرت فقلت وما لي لا يغار مثلي على مثلك فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أقد جاءك شيطانك) قالت يا رسول الله أو معي شيطان قال: (نعم) قلت ومع كل إنسان قال: (نعم) قلت ومعك يا رسول الله قال: (نعم ولكن ربي أعانني عليه حتى أسلم)).
صحيح أنه أحياناً تنفي الغيور أن يكون ما بها غيرة فربما قالت و من قال لك إني أغار منها، ما تستحق الغيرة منها و نحو ذلك.
7- التهيئة النفسية لقدوم المغار منه الجديد، فلا يحرم الغيور فجأة مما كان يحصل عليه من ميزات، و قد نمثل لذلك بإخبار الزوجة الأولى بنية الزواج من ثانية وأن هذا الزواج لا يعني حرمانها مما كانت تحصل عليه ولا يعني عدم رضائه عنها و لا يعني عدم حبه لها ولا يعني أنه كان لتقصير منها كما أنه لا يلزم عليه أن يهملها أو أن يقصر في حقها ربما هذه التهيئة قد تساعد في تخفيف الغيرة أو على الأقل تساعد في تقليل الأثار المترتبة على الغيرة.
وأما الطفل الغيور الذي يغار من المولود الجديد فيمكن اتباع ما يلي:
1- إخباره بأنه سيأتي إليه أخ جديد.
2- يفطم عاطفياً شيئاً فشيئاً بحيث تعوده أمه على الابتعاد عنها والانشغال بأمور تكفل عدم ملازمته لها.
3- تغيير ما سيتغير قبل مجيء المولود الجديد فإن كان سينقل سريره من غرفة والديه فلينقل قبل الولادة بأشهر تدريجياً.
4- لا تنشغل كلياً بالمولود الجديد عنه.
5- أظهر الاهتمام به أكثر من المولود الجديد لأنه يفهم بينما الرضيع الجديد لا يفهم.
6- عدم التفرقة بين الأولاد و عدم المقارنة بينهما.
7- عدم الدلال الزائد للولد حتى يرى أنه كل شيء و أنه لابد من تلبية ما يريد و أنه يجب أن لا ينتقد.
8- عدم الاهتمام الزائد بالولد المريض أو المعاق.
ثاني عشر: هل تعاقب الغيرى:
إذا ترتب على الغيرة إتلاف فإن الغيراء تضمنº فإذا جنت اقتص منها، وإذا أتلفت مالاً ضمنته، أما إذا كان الأمر يتعلق بالألفاظ فقط، فقال بعض العلماء إن الغيراء لا تلام، وأنها لا تؤاخذ بما يصدر منهاº لأنها في تلك الحالة يكون عقلها محجوباً بشدة الغضب الذي أثارته الغيرة، وقد أخرج أبو يعلى بسند لا بأس به كما قال ابن حجر عن عائشة مرفوعاً ((إن الغيراء لا تبصر أسفل الوادي من أعلاه)).
وقال بعضهم: إنها تؤاخذ بما تفعل.
ولكل الفريقين أدلة ليس المقام مقام بسطها، ولكن نستطيع أن نقول: إنها إذا أفرطت في الغيرة وزادت الغيرة عن معدلها الطبيعي فإنها تلامº وضابط ذلك كما يقول ابن حجر في فتح الباري 9/336 (ما ورد في الحديث الآخر عن جابر بن عتيك الأنصاري رفعه: ((إن من الغيرة ما يحب الله ومنها ما يبغض الله فاما الغيرة التي يحب الله فالغيرة في الريبة وأما الغيرة التي يبغض فالغيرة في غير ريبة)).
وهذا التفصيل يتمحض في حق الرجال لضرورة امتناع اجتماع زوجين للمرأة بطريق الحل وأما المرأة فحيث غارت من زوجها في ارتكاب محرم إما بالزنا مثلا وإما بنقص حقها وجوره عليها لضرتها وإيثارها عليها فإذا تحققت ذلك أو ظهرت القرائن فيه فهي غيرة مشروعة فلو وقع ذلك بمجرد التوهم عن غير دليل فهي الغيرة في غيرة ريبة وأما إذا كان الزوج مقسطا عادلا وأدى لكل من الضرتين حقها فالغيرة منهما إن كانت لما في الطباع البشرية التي لم يسلم منها أحد من النساء فتعذر فيها ما لم تتجاوز إلى ما يحرم عليها من قول أو فعل وعلى هذا يحمل ما جاء عن السلف الصالح من النساء في ذلك.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد