من أقوال أهل العلم في تربية الأولاد ( 2 - 3 )


  

بسم الله الرحمن الرحيم

ثانياً: قول الإمام الغزالي:

ويقول الإمام الغزالي - رحمه الله -: (اعلم أن الطريق إلى تربية الصبيان من أهم الأمور وأول كدها، الصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرةً نفسية ساذجة، خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نقش، ومائل إلى كل ما يمال به إليه، فإن عّود الخير وعلّمه نشأ عليه، وسعد في الدنيا والآخرة، وشاركه في ثوابه أبوه وكل معلم له ومؤدب، وإن عوّد الشر وأهمل إهمال البهائم، شقي وهلك، وكان الوزرُ في رقبة القيِّم عليه، والوالي له، وقد قال الله- عز وجل -: ((يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُم وَأَهلِيكُم نَاراً)) (التحريم: من الآية6).

 

ومهما كان الأبُ يصونه عن نار الدنيا، فبأن يصونه عن نار الآخرة أولى. وصيانته: بأن يؤدِّبهُ ويهذبه، ويعلمه محاسن الأخلاق، ويحفظه من قُرناء السوء، ولا يعوده التنعم، ولا يحبب إليه الزينة والرفاهية، فيضعُ عمره في طلبها إذا كبر، فيهلك هلاك الأبد، بل ينبغي أن يراقبهُ من أولِّ أمره، ومهما رأى فيه مخايل التمييز، فينبغي أن يحسن مراقبته.

 

وأول ما يغلب عليه من الصفات شره الطعام، فينبغي أن يؤدب فيه، مثل أن لا يأخذ الطعام إلا بيمينه، وأن يقول عليه بسم الله عنده أخذه، وأن يأكل مما يليه، وأن لا يبادر إلى الطعام قبل غيره، وأن لا يحدق النظر إليه ولا إلى من يأكل، وأن لا يسرع في الأكل، وأن يجيد المضغ، وأن لا يوالي بين اللقم، ولا يلطّخ يده ولا ثوبه، ويقبّح عنده كثرةَ الأكل، بأن يشبه كل من يكثر الأكل بالبهائم، وأن يحبب إليه الإيثار بالطعام، وقلة المبالاة به، والقناعة بالطعام الخشن، أي طعامٍ, كان.

 

وأن يحبب إليه من الثياب البيض، دون الملون والإبر يسم (الحرير)، ويقرر عنده أن ذلك شأن النساء والمخنثين، وأن الرجال يستنكفون منه، ويكرر ذلك عليه، ويحفظ الصبي عن الصبيان الذين عُوِدوا التنعم والرفاهية، ولبس الثياب الفاخرة، وعن مخالطةِ كلٌّ من يُسمعه ما يُرغّبه فيه، فإن الصبي إذا أُهمل في ابتداء نُشُوّه، خروج في الأغلب رديءَ الأخلاق، كذاباً حسوداً سارقاً نماماً، لجوجاً ذا فضولٍ, وضحك، وكيدٍ, وخيانة، وإنما يُحفظ عن جميع ذلك بحسن التأديب، ثم يُشغل في المسجد، فيتعلم القرآن وأحاديث الأخبار، وحكايات الأبرار وأحوالهم، ليُغرس في نفسه حب الصالحين.

 

ويُجنب الأشعار التي فيها ذكر العشق وأهله، ويحفظ من مخالطةِ الأدباء، الذين يزعمون أن ذلك في الظرف ورقةُ الطبع، فانَّ ذلك يغرسُ في قلوب الصبيان بذر الفساد.

 

ثُمَّ مهما ظهر من الصبي خلقٌ جميل، وفعلٌ محمود، فينبغي أن يكرَّمَ عليه، ويجاري عليه بما يفرحُ به، ويمدحُ بين أظهرِ الناس، فإن خالف ذلك في بعض الأحوال مرةً واحدة فينبغي أن يتغافل عنه، ولا يهتك سترهُ ولا يكاشف، ولا سيما إذا ستره الصبي واجتهد في إخفائه، فإنَّ إظهارهُ ذلك عليه ربما يزيده جسارةً حتى لا يبالي بالمكاشفة، فعند ذلك إن عاد ثانياُ فينبغي أن يُعاتب سراً، ويعظم الأمر فيه، ويُقال له: إيَّاك أن تعودَ بعد ذلك لمثلِ هذا، وأن يُطلع عليك في مثل هذا فتفضح بين الناس.

 

ولا تكثر القولَ عليه بالعتاب في كل حين، فإنَّهُ يهوّن عليه سماع الملامةِ وركوب القبائح، ويسقطُ وقع الكلام من قلبه، وليكن الأب حافظاً هيبةَ الكلام معه، فلا يوبِّخهُ إلا أحياناً، والأمٌّ تخوفه بالأدب وتزجره عن القبائح.

 

وينبغي أن يمنع عن النوم نهاراً فإنَّه يورث الكسل، ولا يمنع منهُ ليلاً، ولكن يُمنع الفرش الوطيئةِ حتى تتصلب أعضاؤه، ولا يسمن بدنه، فلا يصبر عن التنعم، بل يعوّد الخشونة في المفرش والملبس والمطعم.

 

وينبغي أن يُمنع من كلِّ ما يفعله خفية، فإنَّهُ لا يخفيه إلا وهو يعتقدُ أنه قبيح، فإذاً يتركَ تعود القبيح.

 

ويعوّد في بعضِ النَّهار المشي والحركة والرياضة، حتى لا يغلب عليه الكسل، ويعوّد أن لا يكشفَ أطرافه ولا يسرع المشي.

 

ويمنع من أن يفتخر على أقرانه بشيءٍ, مما يملكهُ والده، أو بشيءٍ, من مطاعمه وملابسه، أو لوحه وأدواته، بل يعوّد التواضع والإكرام لكل من عاشره، والتلطف في الكلام معهم، ويمنع من أن يأخذ من الصبيان شيئاً حشمة، إن كان من أولاد المحتشمين، وإن كان من أولاد الفقراء فليعلم أنَّ الطمع والأخذَ مهانة وذلة، وأنَّ ذلك من أدبِ الكلبِّ، فإنَّهُ يُبصبصُ في انتظار لقمةٍ, والطمع فيها، وبالجملة يقبح إلى الصبيان حب المال والطمع فيها، ويُحذّر منه أكثر مما يُحذّ من الحيات والعقارب، فإنَّ آفةَ حُبِّ المال والطمع فيه أضر من آفة السموم على الصبيان، بل على الأكابر أيضاً.

 

وينبغي أن يعوَّدَ أن لا يبصق في مجلسه ولا يتمخط، ولا يتثاءب بحضرة غيره، ولا يستدبر غيره، ولا يضع رجلاً على رجل، ويُعلّم كيفية الجلوس، ويمنع كثرة الكلام، ويبين له أن ذلك يدلُ على الوقاحة، وأنَّهُ فعل أبناء اللئام، ويمنع اليمين (الحلف) مطلقاً أو كاذباً، حتى لا يعتاد ذلك في الصغر، ويُمنع أن يبتدئَ بالكلام، ويعوَّد أن لا يتكلم إلا جواباً وبقدر السؤال، وأن يُحسن الاستماع إذا تكلم غيره ممن هو اكبرُ منه سناً، وأن يقومَ لم فوقه، ويوسع له المكان، ويمنع من لغو الكلام وفحشه، ومن اللعنِ والسب، ومن مخالطةِ من يجري على لسانهِ شيءٌ من ذلك، فإنَّ ذلك يسري لا محالة من قرناءِ السوء، وأصلُ تأديب الصبيان من قرناءِ السوء.

 

وينبغي أن يُؤذن له بعد الانصراف من التعلم والحفظ، أن يلعب لعباً جميلاً يستريح إليه من تعب الذهب، بحيث لا يتعبُ في اللعب، فإنَّ منع الصبي من اللعبِ، وإرهاقه إلى التعلم دائما، يميت قلبه، ويبطل ذكاءه، وينغص عليه العيش، حتى يطلب الحيلة في الخلاص منه رأساً.

 

وينبغي أن يُعلّم طاعة والديه ومعلمه ومؤدبه، ومن هو أكبر منه سناً من قريب وأجنبي، وأن ينظر إليهم بعينِ الاحترام والتوقير، وأن يتركَ اللعب بين أيديهم.

 

وإذا بلغ سن التمييز: فينبغي أن لا يُسامح في ترك الطهارة والصلاة، ويُأمر بالصوم في بعض أيام رمضان، ويجنب لبس الديباج والحرير والذهب، ويعلّم كل ما يحتاجُ إليه من حدودِ الشرع. [1]

 

ويخوّف من السرقةِ وأكل الحرام، ومن الخيانةِ والكذب والفحش، وكل ما يغلب على الصبيان، فإذا وقع في ذلك في الصبا، فإذا قارب البلوغ أمكن أن يعرف أسرار هذه الأمور.

 

ويُذكر له أنَّ الأطعمة أدوية، وأن المقصود منها أن يقوي الإنسانُ بها على طاعة الله - عز وجل -.

 

وأن الدنيا كلها لا أصل لها إذ لا بقاء لها، وأن الموت يقطع نعيمها، وأنها دار ممر لا دار مقر، وأن الآخرة هي دارُ المقر، وأن الموت منتظر في كل ساعة، وأن الكيس العاقل من تزود من الدنيا للآخرة، حتى تعظم درجته عند الله - تعالى -ويتسع نعيمه في الجنان.

 

وإنَّ وقع الأمر بخلاف ذلك، حتى ألف الصبي اللعب، والفحش والوقاحة، وشرهِ الطعام، واللباس والتزين والتفاخر، نبا قلبه عن قبول الحقِّ، نبوة الحائط عن التراب اليابس، فأوائل الأمور التي ينبغي أن تراعى، فإنَّ الصبيَّ بجوهرهِ خُلِق قابلاً للخير والشر جميعاً، وإنَّما أبواه يميلان به إلى أحد الجانبين، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((كل مولودٍ, يولد على الفطرة، وإنما أبواه يهوّدانه، أو ينصرانه، أو يمجّسانه)) متفقٌ عليه عن أبي هريرة.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply