هكذا علمنا السلف ( 102 )


  

بسم الله الرحمن الرحيم

السبق في الهمم:

قال ابن القيم: \" قال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: ((يا حبذا نوم الأكياس وفطرهم، كيف يغبنون به قيام الحمقى وصومهم، والذرة من صاحب تقوى أفضل من أمثال الجبال عبادة من المغترين)) وهذا من جواهر الكلام وأدله على كمال فقه الصحابة وتقدمهم على من بعدهم في كل خير، - رضي الله عنهم -.

فاعلم أن العبد إنما يقطع منازل السير إلى الله بقلبه وهمته لا ببدنه، والتقوى في الحقيقة تقوي القلوب لا تقوى الجوارح قال - تعالى -: {ذَلَكِ وَمَن يُعَظِّم شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقوَى القُلُوبِ}، وقال: {لَن يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقوَى مِنكُم}، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((التقوى ههنا، وأشار إلى صدره »، فالكيس يقطع من المسافة بصحة العزيمة وعلو الهمة وتجريد القصد والنية مع العمل القليل أضعاف أضعاف ما يقطعه الفارغ من ذلك من التعب الكثير، والسفر الشاق، فإن العزيمة والمحبة تذهب المشقة وتطيب السير، والتقدم والسبق إلى الله - سبحانه - إنما هو بالهمم وصدق الرغبة والعزيمة فيتقدم صاحب الهمة مع سكونه صاحب العمل الكثير بمراحل فإن ساواه في همته تقدم عليه بعمله، وهذا موضع يحتاج إلى تفصيل يوافق فيه الإسلام الإحسان.

فأكمل الهدي هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان موفياً كل واحد منهما حقه، فكان مع كماله وإرادته وأحواله مع الله يقوم حتى ترم قدماه، ويصوم حتى يقال لا يفطر، ويجاهد في سبيل الله ويخالط أصحابه ولا يحتجب عنهم، ولا يترك شيئاً من النوافل والأوراد لتلك الواردات التي تعجز عن حملها قوى البشر.

والله - تعالى -أمر عباده أن يقوموا بشرائع الإسلام على ظواهرهم، وحقائق الإيمان على بواطنهم، ولا يقـبل واحـداً منهما إلا بصاحـبه وقـرينه، وفـي المسند مرفـوعاً: ((الإسلام علانية والإيمان في القلب)) فكل إسلام ظاهر لا ينفذ صاحبه منه إلى حقيقة الإيمان الباطنة فليس بنافع حتى يكون معه شيء من الإيمان الباطن، وكل حقيقة باطنة لا يقوم صاحبها بشرائع الإسلام الظاهرة لا تنفع ولو كانت ما كانت، فلو تمزق القلب بالمحبة والخوف ولم يتعبد بالأمر وظاهر الشرع لم ينجه ذلك من النار، كما أنه لو قام بظواهر الإسلام وليس في باطنه حقيقة الإيمان لم ينجه من النار.

وإذا عرف هذا فالصادقون السائرون إلى الله والدار الآخرة قسمان:

قسم صرفوا ما فضل من أوقاتهم بعد الفرائض إلى النوافل البدنية وجعلوها دأبهم من غير حرص منهم على تحقيق أعمال القلوب ومنازلها وأحكامها وإن لم يكونوا خالين من أصلها، ولكن هممهم مصروفة إلى الاستكثار من الأعمال.

وقسم صرفوا ما فضل من الفرائض والسنن إلى الاهتمام بصلاح قلوبهم وعكوفها على الله وحده، والجمعية عليه وحفظ الخواطر والإرادات معه، وجعلوا قوة تعبدهم بأعمال القلوب من تصحيح المحبة والخوف والرجاء والتوكل والإنابة ورأوا أن أيسر نصيب من الواردات التي ترد على قلوبهم من الله أحب إليهم من كثير من التطوعات البدنية، فإذا حصل لأحدهم جمعية ووارد أنس أو حب أو اشتياق أو انكسار وذل لم يستبدل به شيئاً سواه ألبتة إلا أن يجيء الأمر فيبادر إليه بذلك الوارد إن أمكنه وإلا بادر إلى الأمر ولو ذهب الوارد.

فإذا جاءت النوافل فهاهنا معترك التردد، فإن أمكن القيام إليها به فذاك وإلا نظر في الأرجح والأحب إلى الله: هل هو القيام إلى تلك النافلة ولو ذهب وارده كإغاثة الملهوف وإرشاد ضال وجبر مكسور واستفادة إيمان ونحو ذلك، فهاهنا ينبغي تقديم النافلة الراجحة، ومتى قدمها لله رغبة فيه وتقرباً إليه فإنه يرد عليه ما فات من وارده أقوى مما كان في وقت آخر، وإن كان الوارد أرجح من النافلة فالحزم له الاستمرار في وارده حتى يتوارى عنه فإنه يفوت والنافلة لا تفوت.

وهذا فصل يحتاج إلى فضل فقه في الطريق، ومراتب الأعمال وتقديم الأهم منها فالأهم، والله الموفق لذلك لا إله غيره ولا رب سواه)). الفوائد 186-187

تباين الهمم ونتائجها:

قال عبد الوهاب عزام: ((الفكر لا يحد، واللسان لا يصمت، والجوارح لا تسكن، فإن لم تشغلها بالعظائم: شغلتها الصغائر، وإن لم تُعملها في الخير: عملت في الشر)) (1)

 

أثر المجاهدة على الإيمان:

((وحقيقة الإيمان لا يتم تمامه في قلب حتى يتعرض لمجاهدة، لأنه يجاهد نفسه كذلك في أثناء مجاهدته للناس، وتتفتح له في الإيمان آفاق لم تكن لتتفتح له أبداً وهو قاعد آمن ساكن، وتبين له حقائق في الناس وفي الحياة لم تكن لتتبين له أبداً بغير هذه الوسيلة، ويبلغ هو بمشاعره وتصوراته، وبعاداته وطباعه وانفعالاته واستجاباته، ما لم يكن ليبلغه أبداً بدون هذه التجربة الشاقة العسيرة)) (2)

 

----------------------------------------

(1) مجلة (المسلمون) 1 / 595، الرقائق / 51.

(2) الرقائق / 52.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply