هكذا علمنا السلف ( 98 )


  

بسم الله الرحمن الرحيم

قاعدة جليلة : الخواطر والأفكار مبدأ كل علم نظري:

مبدأ كل علم نظري وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار، فإنها توجب التصورات، والتصورات تدعو إلى الإرادات، والإرادات تقتضي وقوع الفعل وكثرة تكراره تعطي العادة، فصلاح الخواطر بأن تكون مراقبة لوليها وإلهها صاعدة إليه دائرة على مرضاته ومحابه، فإنه - سبحانه - به كل صلاح، ومن عنده كل هدي، ومن توفيقه كل رشد، ومن توليه لعبده كل حفظ، ومن توليه وإعراضه عنه كل ضلال وشقاء، فيظفر العبد بكل خير وهدي بقدر إثبات عين فكرته في آلائه ونعمه وتوحيده وطرق معرفته وطرق عبوديته وإنزاله إياه حاضراً معه مشاهداً له ناظراً إليه رقيباً عليه، مطلعاً على خواطره وإرادته وهمته، فحينئذ يستحيي منه ويجله أن يطلعه منه على عورة يكره أن يطلع عليه مخلوق مثله، أو يرى في نفسه خاطراً يمقته عليه.

فمتى أنزله ربه هذه المنزلة منه ورفعه وقربه منه، وأكرمه واجتباه ووالاه وبقدر ذلك يبعد عنه الأوساخ والدناءات، والخواطر الرديئة والأفكار الدنيئة، كما أنه كلما بعد منه وأعرض عنه قرب من الأوساخ والدناءات والأقذار، ويقطع عنه جميع الكمالات ويتصل بجميع النقائض، فالإنسان خير المخلوقات إذا تقرب من بارئه والتزم أوامره ونواهيه وعمل بمرضاته وآثره على هواه، وشر المخلوقات إذا تباعد عنه ولم يتحرك قلبه لقربه وطاعته وابتغاء مرضاته، فمتى اختار التقرب إليه وآثره على نفسه وهواه فقد حكم قلبه وعقله وإيمانه على نفسه وشيطانه، وحكم رشده على غيه وهداه على هواه، ومتى اختار التباعد منه فقد حكم نفسه وهواه وشيطانه على عقله وقلبه ورشده.

واعلم أن الخطرات والوساوس تؤدي متعلقاتها إلى الفكر فيأخذها الفكر فيؤديها إلى التذكر، فيأخذها الذكر فيؤديها إلى الإرادة، فتأخذها الإرادة فتؤديها إلى الجوارح والعمل، فتستحكم فتصير عادة، فردها من مبادئها أسهل من قطعها بعد قوتها وتمامها، ومعلوم أنه لم يعط الإنسان إماتة الخواطر ولا القوة على قطعها، فإنها تهجم عليه هجوم النفس، إلا أن قوة الإيمان والعقل تعينه على قبول أحسنها ورضاه به ومساكنته له، وعلى رفع أقبحها وكراهته له ونفرته منه كما قال الصحابة: ((يا رسول الله إن أحدنا يجد في نفسه ما لئن يحترق حتى يصير حممة أحب إليه أن يتكلم به، فقال : أوقد وجدتموه؟ قالوا : نعم، قال : ذاك صريح الإيمان)).

وفي لفظ : ((الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة)).

وفيه قولان : أحدهما أن رده وكراهته صريح الإيمان.

والثاني : أن وجوده وإلقاء الشيطان له في النفس صريح الإيمان.

فإنه إنما ألقاه في النفس طلباً لمعارضة الإيمان وإزالته به، وقد خلق الله النفس شبيهة بالرحى الدائرة التي لا تسكن ولا بد لها من شيء تطحنه، فإن وضع فيها حب طحنته، وإن وضع فيها تراب أو حصي طحنته.

فالأفكار والخواطر التي تجول في النفس هي بمنزلة الحب الذي يوضع في الرحى ولا تبقى تلك الرحى معطلة قط، بل لا بد لها من شيء يوضع فيها، فمن الناس من تطحن رحاه حباً يخرج دقيقاً ينفع به نفسه وغيره، وأكثرهم يطحن رملاً وحصياً وتبناً ونحو ذلك، فإذا جاء وقت العجن والخبز تبين له حقيقة طحينه.

فإذا دفعت الخاطر الوارد عليك اندفع عنك ما بعده، وإن قبلته صار فكراً جوالاً، فاستخدم الإرادة فتساعد هي والفكر على استخدام الجوارح، فإن تعذر استخدامها رجعا إلى القلب بالمني والشهوة، وتوجهه إلى جهة المراد.

ومن المعلوم أن إصلاح الخواطر أسهل من إصلاح الأفكار، وإصلاح الأفكار أسهل من إصلاح الإرادات، وإصلاح الإرادات أسهل من تدارك فساد العمل، وتداركه أسهل من قطع العوائد، فأنفع الدواء أن تشغل نفسك بالفكر فيما يعنيك دون ما لا يعنيك، فالفكر فيما لا يعني باب كل شر.

ومن فكر فيما لا يعنيه فاته ما يعنيه واشتغل عن أنفع الأشياء له بما لا منفعة له فيه، فالفكر والخواطر والإرادة والهمة أحق شيء بإصلاحه من نفسك، فإن هذه خاصتك وحقيقتك التي تبتعد بها أو تقرب من إلهك ومعبودك الذي لا سعادة لك إلا في قربه منك ورضاه عنك، وكل الشقاء في بعدك عنه وسخطه عليك.

ومن كان في خواطره ومجالات فكره دنيئاً خسيساً لم يكن في سائر أمره إلا كذلك.

وإياك أن تمكن الشيطان من بيت أفكارك وإرادتك فإنه يفسدها عليك فساداً يصعب تداركه، ويلقي إليك أنواع الوساوس والأفكار المضرة، ويحول بينك وبين الفكر فيما ينفعك، وأنت الذي أعنته على نفسك بتمكينه من قلبك وخواطرك فملكها عليك، فمثالك معه مثال صاحب رحى يطحن فيها جيد الحبوب فأتاه شخص معه حمل تراب وبعر وفحم وغثاء ليطحنه في طاحونته، فإن طرده ولم يمكنه من إلقاء ما معه في الطاحون استمر على طحن ما ينفعه، وإن مكنه في إلقاء ذلك في الطاحون أفسد ما فيها من الحب وخرج الطحين كله فاسداً.

 

والذي يلقيه الشيطان في النفس لا يخرج فيما كان ودخل في الوجود لو كان على خلاف ذلك وفيما لم يكن لو كان كيف كان يكون، أو فيما يملك الفكر فيه من أنواع الفواحش والحرام، أو في خيالات وهمية لا حقيقة لها، وإما في باطن أو فيما لا سبيل إلى إدراكه من أنواع ما طوي عنه علمه فيلقيه في تلك الخواطر التي لا يبلغ منها غاية ولا يقف منها على نهاية، فيجعل ذلك مجال فكره ومسرح وهمه.

وجماع إصلاح ذلك أن تشغل فكرك في باب العلوم والتصورات بمعرفة ما يلزمك من التوحيد وحقوقه وفي الموت وما بعده إلى دخول الجنة والنار، وفي آفات الأعمال وطرق التحرز منها، وفي باب الإرادات والعزوم أن تشغل نفسك بإرادة ما ينفعك إرادته وطرح إرادة ما يضرك إرادته، وعند العارفين أن تمني الخيانة و إشغال الفكر والقلب بها أضر على القلب من نفس الخيانة، ولا سيما إذا فرغ قلبه منها بعد مباشرتها، فإن تمنيها يشغل القلب بها ويملؤه منها ويجعلها همه ومراده.

 

وأنت تجد في الشاهد أن الملك من البشر إذا كان في بعض حاشيته وخدمه من هو متمن لخيانته مشغول القلب والفكر بها ممتلئ منها، وهو مع ذلك في خدمته وقضاء أشغاله، فإذا اطلع على سره وقصده مقته غاية المقت وأبغضه وقابله بما يستحقه، وكان أبغض إليه من رجل بعيد عنه جنى بعض الجنايات، وقلبه وسره مع الملك، غير منطو على تمني الخيانة ومحبتها والحرص عليها، فالأول يتركها عجزاً واشتغالاً بما هو فيه، وقلبه ممتلئ بها، والثاني يفعلها وقلبه كاره لها ليس فيه إضمار الخيانة ولا الإصرار عليها، فهذا أحسن حالاً وأسلم عاقبة من الأول.

 

وبالجملة فالقلب لا يخلو قط من الفكر إما في واجب آخرته ومصالحها، وإما في مصالح دنياه ومعاشه، وإما في الوساوس والأماني الباطلة والمقدرات المفروضة.

 

وقد تقدم أن النفس مثلها كمثل رحى تدور بما يلقي فيها، فإن ألقيت فيها حباً دارت به، وإن ألقيت فيها زجاجا وحصى و بعراً دارت به، والله - سبحانه - هو قيم تلك الرحى ومالكها ومصرفها وقد أقام لها ملكاً يلقي فيها ما ينفعها فتدور به، وشيطانياً يلقي فيها ما يضرها فتدور به، فالملك يلم بها مرة، والشيطان يلم بها مرة، فالحب الذي يلقيه الملك إبعاد بالخير وتصديق بالوعد، والحب الذي يلقيه الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالوعد، والطحين على قدر الحب، وصاحب الحب المضر لا يتمكن من إلقائه إلا إذا وجد الرحى فارغة من الحب النافع، وقيمها قد أهملها وأعرض عنها، فحينئذ يبادر إلى إلقاء ما معه فيها.

وبالجملة فقيم الرحى إذا تخلى عنها وعن إصلاحها وإلقاء الحب النافع فيها وجد العدو السبيل إلى إفسادها وإدارتها بما معه، وأصل صلاح هذه الرحى بالاشتغال بما يعنيك، وفسادها كله في الاشتغال بما لا يعنيك، وما أحسن ما قال بعض العقلاء : ((لما وجدت أنواع الذخائر منصوبة غرضاً للمتالف، ورأيت الزوال حاكماً عليها مدركا لها انصرفت عن جميعها إلى ما لا ينازع فيه ذو الحجى أنه أنفع الذخائر وأفضل المكاسب وأربح المتاجر - والله المستعان)).

 

قال شقيق بن إبراهيم : ((أغلق باب التوفيق عن الخلق من ستة أشياء : اشتغالهم بالنعمة عن شكرها، ورغبتهم في العلم وتركهم العمل، والمسارعة إلى الذنب وتأخير التوبة، والاغترار بصحبة الصالحين وترك الاقتداء بفعالهم، وإدبار الدنيا عنهم وهم يتبعونها، وإقبال الآخرة عليهم وهم معرضون عنها)).

قلت:وأصل ذلك عدم الرغبة والرهبة، وأصله ضعف اليقين، وأصله ضعف البصيرة، وأصله مهانة النفس ودناءتها واستبدال الذي هو أدني بالذي هو خير، وإلا فلو كانت النفس شريفة كبيرة لم ترض بالدون، فأصل الخير كله بتوفيق الله ومشيئته وشرف النفس ونبلها وكبرها.

وأصل الشر خستها ودناءتها وصغرها قال - تعالى -: {قَد أَفلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَد خَابَ مَن دَسَّاهَا} أي : أفلح من كبرها وكثرها ونماها بطاعة الله، وخاب من صغرها وحقرها بمعاصي الله.

فالنفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء إلا بأعلاها وأفضلها وأحمدها عاقبة، والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات وتقع عليها كما يقع الذباب على الأقذار، فالنفس الشريفة العلية لا ترضى بالظلم ولا بالفواحش ولا بالسرقة والخيانة لأنها أكبر من ذلك وأجل، والنفس المهينة الحقيرة الخسيسة بالضد من ذلك فكل نفس تميل إلى ما يناسبها ويشاكلها، وهذا معنى قوله - تعالى -: {قُل كُلُّ يَعمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} أي : على ما يشاكله ويناسبه، فهو يعمل على طريقته التي تناسب أخلاقه وطبيعته.

وكل إنسان يجري على طريقته ومذهبه وعادته التي ألفها وجبل عليها، فالفاجر يعمل بما يشبه طريقته من مقابلة النعم بالمعاصي، والإعراض عن المنعم. والمؤمن يعمل بما يشاكله من شكر المنعم ومحبته والثناء عليه والتودد إليه والحياء منه والمراقبة له وتعظيمه وإجلاله.الفوائد ص224-230

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply