من دروس يعقوب في التربية : ( وكذلك يجتبيك ربك... )


 بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

نقف في هذه المقالة مع بعض الأساليب التربوية في قول يعقوب الذي حكاه الله تعالى في قوله: \"وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث\".

إن يعقوب - عليه السلام - أدرك بأن ابنه انشغل بهذه الرؤيا، فلا بد أن يكون قد شده قوله: \"لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً إن الشيطان للإنسان عدو مبين\"، فأراد بعدها أن ينقل الابن من ما قد يجول بخاطره من أفكار إلى أمر آخر بعيد. أراد أن يخرجه مما يسمى بالاستغراق في اللحظة الحاضرة إلى معنى بعيد جداًº لأنه لو ترك ابنه أيضاً على ما ذكره له ونقلته الآية الأولى لبدأ الابن يتساءل لماذا لا أقصص رؤياي؟ لماذا يكيد لي إخواني؟ لماذا، لماذا، لماذا؟ أسئلة أصغر من عمره، فناسب أن ينقل ذهنه نحو معنى مشرق، فقال له: \"وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك كما أتمها على أبويك\" الآية.

والدرس التربوي في هذه الآية أيها الأحبة هو أنك إذا رأيت إنساناً قد حزبه أمر فأهمه فسارع بنقله إلى جانب آخر مشرق يبعث في نفسه التفاؤل ويقوده إلى الاطمئنان ويحثه على العمل الدؤوب، انقله إلى ما يقود إليه هذا الأمر الذي حزبه من خير وأره الجوانب المشرقة في النازلة.

وقد كان ذلك من منهج نبينا - صلى الله عليه وسلم -، ففي صلح الحديبية -وهو من أشد ما مر على الصحابة رضوان الله عليهم- عندما جاء سهيل بن عمرو، نقلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - نقلة عجيبة، فقال: سهل أمركم سهل أمركم.

فجعلهم يتعلقون بأمل مرتقب، وبعث في نفوسهم التفاؤل.

إن من الأساليب التربوية والقيادية الحكيمة الكفيلة بتخفيف آثار المصيبة، بل ربما الخروج منها هو هذا الأسلوب، فما أحوج الآباء والأمهات، والمربون، والقادة، والموجهون، والدعاة، والعلماء إليه إذا رأيت من وقع في أمر عظيم، سواء كان فرداً أو جماعة أو أمة، فانقلهم إلى التفاؤل، انقلهم إلى الصورة الأخرى.

فيعقوب - عليه السلام - نقل ابنه من هذا الهم الذي يعيشه إلى ما وراءه من مستقبل مشرق، فقال له: \"وكذلك يجتبيك ربك\".. أبشر يا بني، هذه الرؤيا عظيمة، ستكون حياتك في المستقبل. هذا اجتباء واصطفاء من الله - جل وعلا - وتأتي البشائر \"وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك\" الله أكبر! هل يتصور بعد ذلك أن يجلس يوسف - عليه السلام - يفكر في مكيدة إخوته أو ينتقل بفكره إلى هذا الخير المقبل عليه؟ من اجتباء الله - جل وعلا - واصطفاء الله له وبإتمام نعمته عليه؟

 

إن هذا الأسلوب قد يغيب عنا ونحن نواجه المشكلات، سواء على المستوى الفردي في بيوتنا مع أبنائنا، مع زوجاتنا، مع جيراننا، مع أقاربنا، أو على المستوى العام، على مستوى الأمة، فالأمة الآن تواجه هزيمة وبلاء وتسلط من الأعداء، وليست بحاجة إلى من يزيد من جروحها ويضخم أعداءها لها، كما يفعل كثير ممن في قلوبهم مرض، وكما فعل أسلافهم من المنافقين في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هي في حاجة إلى من يرفع معنوياتها، إلى من يقول لها: أبشري هذا الذي ترينه طريق النصر بإذن الله إذا أخذت بمقومات النصر.

فيا أخا الإسلام.. إذا نزلت بساحتك مصيبة أو حل بك بلاء على المستوى الفردي أو على مستوى أعلى، فالتمس أوجه الخير فيما نزل فالله لا يخلق شراً محضاً، وانظر إلى ما انطوت عليه المصيبة من خير ثم اعمل على إظهاره واستثماره، ليتم لك الخروج من تلك المحنة، بل لتعود المحنة منحة، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: \"عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن\".

ما أحوجنا لهذه المعاني في الواقع الذي نعيشه.. فالأمة لا تحتاج إلى من يزيد من جروحها وبلائها، بل تحتاج أن نفتح لها الأفق الأوسع ونريها المستقبل المشرق تسعى إليه، كما فعل يعقوب مع يوسف - عليه السلام - وكما كان يفعل محمد - صلى الله عليه وسلم - مع صحابته، في الخندق وفي الشدة التي صورها الله - عز وجل - بقوله: \"إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً\"، إذا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - يضرب الكدية ويبشر صحابته رضوان الله عليهم، لا يبشرهم بالخروج من الأزمة الراهنة فحسب بل يبشرهم ببشائر عظمى دونهم ودونها مفاوز بعيدة! ولكنها حق نبأه بها اللطيف الخبير.

وهكذا ينبغي أن يكون الداعية مبشراً، على أن يبشر الأمة بالحق الذي ظهرت أدلته الشرعية أو الكونية، وإياه أن يبشرها بغير دليل ولا برهان فإن هذا يضرها ويؤثر في مسيرتها.

ووقفة تربوية أخرى يشير إليها يعقوب - عليه السلام - في هذه الآية، وهي أن كثيراً من الناس يتصور أن الأبناء لا يفقهون، ولا يفهمون، ويتعامل معهم بناء على هذا الاعتقاد، وهذا خطأ تربوي مركب.

فالطفل يتذكر ويفقه ويتأثر، بل أحياناً أكثر مما يحصل للكبار! وارجع بذاكرتك إلى الوراء سنين عدداً عندما كنت صغيراً، ثم عد بها إلى أحداث مرت بك قبل سنتين أو ثلاث، فستجد أن ما فعلته أو ما وجدته وأنت صغير راسخ في ذهنك، تستطيع أن تصفه بدقة، بينما بعض ما وقع قبل سنة أو سنتين بل ربما قبل أيام قد نسيته، وربما أثر على أحدهم حدث مر به في صغره لرقة نفسه وصفائها أيام الصبا، وبالمقابل لم يؤثر عليه مثله عندما كبر وتبلدت المشاعر لديه.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى فالصغار يفهمون ويدركون ويعقلون، ولكنهم قد لا يحسنون التعبير إما لخوف أو لأسباب أخرى.

وأذكر قصة عجيبة تتعلق بهذا الصدد، فقبل سنوات عقد مؤتمر في بلاد الشام لمعدي برامج الأطفال في التلفزيون، وقدمت في المؤتمر بحوث عدة، فجاءت أغلب البحوث شارحة طرقاً وأساليب لمن يكتبون برامج الأطفال تبين كيف يستطيع أحدهم أن ينزل بعقله إلى مستوى يخاطب فيه الأطفال، إلا بحثاً واحدا كان لرجل بولندي، فقد كان بحثه ينصب على قضية واحدة وهي كيف ترفع من طاقة عقلك لأقصى درجة إذا خاطبت الأطفال حتى تستطيع أن ترضي دقة ملاحظتهم، ويكون خطابك مؤثراً فيهم، فكان هذا البحث هو البحث الأول في المؤتمر، ونال البولندي جائزة على بحثه القيم.

 

ومما لفت نظري كلام أحد علماء التربية الغربيين يوجه فيه المربين إلى الاهتمام بملاحظة البيت وما فيه قائلاً: \"راقب بيتك بعيني طفل\"!

وقد سجلت لنا كتب الأدب قصة طرفة بن العبد يوم كان طفلاً يلعب مع الصبيان والمتلمس ينشد عند علية القوم، فلما بلغ قوله:

وقد أتناسى الهم عند احتضاره *** بناج عليه الصيعرية مكرم

ففطن لها طرفة دون وجوه الناس، فقال وهو يلعب: استنوق الجمل! فالصيعرية سمة توسم بها النوق باليمن لا الجمال.

والشاهد أننا نخطئ في تقيمنا للأطفال، فلا نعاملهم معاملة تتناسب مع عقولهم، بل يشعرهم البعض بأنهم لا وزن لهم، فتكون النتيجة تخريج نوعين من الشبابº شباب يعاني من هزيمة نفسية، يستصغر نفسه ويقلل من شأنه ويقيد نفسه بحبال وهمية نسجها المجتمع من حوله، وشباب آخر متهور يحاول أن يتفلت من كل قيد ليثبت أنه رجل ولو بكل سبيل منحرف! كما أن من الآثار السيئة المترتبة على سوء تقيمنا لقدرات الأطفال قيام البعض بتصرفات خاطئة في حضرتهم لا ينبغي أن تفعل عندهم بحجة أنهم لا يفهمون، وكم من رجال الآن يذكرون قضايا مرت بهم في طفولتهم يستحون من ذكرها فما أحوجنا إلى أن نتنبه لهذا.

وبالمقابل من يقدر عقول أطفاله ويحترم قدراتهم ويخاطبهم خطاب الكبار فما أسرعهم إلى فهم كلامه والتزام توجيهه والتهيؤ لحمل المسؤولية في عمر الشباب، ومثل من حظوا بهذا المنهج في التربية قل أن تظهر فيهم أعراض الطفولة المتأخرة التي نشهدها في كثير من رجال عصرنا، وقد شكا من عوارضها مَن سبقنا، ولعل القائل

أرادهم في قوله:

 

ودهر ناسه ناس صغار *** وإن كانت لهم جثث ضخام

 

وربما صور أصحاب هذه الحالة الأولى في قوله:

 

لا بأس بالقوم من طول ومن عظم *** أجسام البغال وأحلام العصافير

 

لقد بين الله - جل وعلا - في القرآن -كما في سورة النور- أدب التعامل مع الأطفال، ومتى يحق لهم أن يدخلوا على آبائهم وأهلهم ومتى لا يدخلوا، وليس ذلك عبثاً بل تقديراً لعقولهم وفهومهم وملاحظاتهم، فما أحوجنا إلى هذا المنهج في تعاملنا مع أبنائنا، وقصة يوسف مع أبيه يعقوب تبين كيف تعامل مع يوسف كرجل يفهم يدرك يعقل، وفي السنة مواقف عدة تبين كيف كان محمد - صلى الله عليه وسلم - يحترم عقول الأطفال ويتعامل معهم المعاملة التي تؤهلهم لأن يكونوا رجالاً يتحملون الأعباء، ومن ذلك قصته مع الحسن - رضي الله عنه - في تمر الصدقة.

فلننتبه لهذا الأسلوب التربوي في تعاملنا مع أبنائنا، ولنتذكر بأن طفل اليوم هو رجل الغد، وقد يكون هو القائد، هو الزعيم، هو الإمام، هو العالم، هو المجدد، بعيد أن كان الغلام، فلنتعامل معهم التعامل الذي يؤهلهم لذلك.

ومن الوقفات التربوية المهمة في هذه الآية أيضاً: في أسلوب يعقوب - عليه السلام - وهو يخاطب ابنه \"وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحق إن ربك حكيم عليم\" الإشارة إلى أهمية ربط الابن بآبائه الصالحين، فإن من أقوى مؤثرات التربية قوة الارتباط بالأسرة، فإذا كانت الأسرة على سمت وخلق وعمل، ورث الصغار من الكبار ما لديهم من أخلاق فاضلة، ومكارم محمودة، فالوراثة أيها الأحبة ليست خاصة بالمال، بل الصفات والأخلاق والآداب والعلوم تورث، ومن ذلك الحديث \"وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً بل ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر\"، ولذلك نبه هنا يعقوب - عليه السلام - ابنه إلى تركة آبائه، فربطه بآبائه الصالحين عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام وهذا الأسلوب أشار إلى عظم أثره في أبناء يعقوب قول الله تعالى في سورة البقرة عندما ذكر وصية يعقوب: \"أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون\"، فبان أن منهج يعقوب في ربطهم بما كان عليه أسلافهم الصالحون آتى ثماره بدليل قول بنيه عند وفاته: \"نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون\"، إن الأبناء يقتدون بالآباء في الأخلاق الحسنة، فيما هم عليه من أعمال طيبة، يتوارثونها جيلاً بعد جيل.

 

وإلى هذا الأسلوب التربوي أشار يعقوب - عليه السلام - عندما ربط يوسف بآبائه الصالحين الأخيار.

وأخيراً نجد في الآية إعادة الفضل لأهله \"وكذلك يجتبيك ربك\"، فالله هو الذي اجتباه، وهو الذي اصطفاه، وتلك نعمة من أعظم النعم تدفع حلاوتها كل سوء جاء به ابتلاء، وقد رُوي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال عندما أصابه الهم المقيم المقعد: إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي.. وهكذا أولياء الله ومن قبلهم رسله لسان حالهم مع ربهم قول القائل:

 

فليتك تحلو والحياة مريرة *** وليتك ترضى والأنام غضاب

وليت الذي بيني وبينك عامر *** وبيني وبين العالمين خراب

إذا صح منك الود فالكل هين *** وكل الذي فوق التراب تراب

 

نسأل الله أن يرزقنا العلم بكتابه والتدبر لآياته، والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply