مراحل التفكير ومراحل النهج الإيماني وخطواته


  

بسم الله الرحمن الرحيم

 طاقة التفكير طاقة عملية بصورة مستمرّة لا تتوقف، وتمضي على سنن ربّانية، قد ندرك بعضها ونجهل الكثير منها حتى اليوم. ويمرّ تفكير الإنسان وطاقته الفكرية بمراحل منذ ولادته حتى وفاته، من خلال نموّه وطاقاته المختلفة، ونموّ جهازه العصبي، وتزايد تفاعله مع ما حوله من بيئة ومجتمع وكون.

 ومن سنن الله الثابتة أن المسؤولية التي يُحاسِب الله عباده عليها تنمو مع نموّ الطاقة الفكرية وسائر الطاقات، أو مع نموّ الوسع الصادق الذي وهبه الله للإنسان.

 ونودّ أن نقسّم مراحل التفكير من حيث المبدأ إلى ثلاث مراحل كلّ مرحلة تمثّل حالة من حالات نموّ الطاقة الفكرية والمسؤولية. وهذه المراحل الثلاث هي:

أ ـ مرحلة التفكير الفطري: من الولادة حتى السنة الرابعة من العمر.

ب ـ مرحلة تفكير الطفولة: من السنة الرابعة حتى البلوغ.

ج ـ مرحلة التفكير المسؤول: من البلوغ حتى بقية العمر.

 

أ ـ مرحلة التفكير الفطري:

 هي المرحلة التي تبدأ مع ولادة الطفل، حيث يولد كلّ إنسان على الفطرة، والفطرة هي المستودع الذي أودع الله فيه أسرار الوسع والطاقة في الإنسان.

 في هذه المرحلة ينحصر دور الطفل نفسه بالتلقّي أو التأثّر، دون أن يكون مسؤولاً مسؤولية واعية عن الانتقاء والاختيار، والقبول أو الرفض ويستمرّ النموّ دون توقف، فالنموّ عملية ماضية ممتدة.

 ونعتبر على ضوء ذلك أن التفكير الفطري يمتدّ من الولادة حتى السنة الرابعة، حين يُعرب لسان الطفل، بعد أن يكون قد تلقّى اللغة والكلام والمشي والعادات وأشياء أخرى.

 مرحلة التفكير الفطري مرحلة تغلب قوى الفطرة فيها ما عداها من القوى المؤثّرة من البيئة والمجتمع والحياة، ويظل التلقي ممتداً حتى يكوّن مع قوى الفطرة الأساس الذي تُبنى عليه المرحلة التالية، وهي مرحلة تفكير الطفولة، المرحلة التي عندها يبدأ الطفل يعرب عن نفسه.

 

ب ـ مرحلة تفكير الطفولة:

 هي المرحلة التي يكون الطفل قد أخذ زاداً كافياً من حيث المبدأ حتى يقوى التفاعل في داخل الفطرة بين قوى الفطرة ذاتها من ناحية، وبينها وبين ما تتلقاه من خارجها من ناحية أخرى.

 في هذه المرحلة يكون إدراك الطفل قد اتسع، وقدرته على التلقي نمت، وتبدأ تبرز قدرات إيجابية شيئاً فشيئاً. ومن هذه القدرات وأبرزها قدرته على الإعراب عن نفسه. ولكنّه يظلّ من حيث المسؤولية الشرعية لا يتحملها، وإنما تنمو قدراته لتمهّد لمرحلة المسؤولية التي لا بدّ منها والتي هي الغاية من حياة الإنسان في الدنيا، وهي المرحلة التي تلي هذه المرحلة.

 وفي هذه المرحلة يكون الطفل قد أخذ زادين هامين جداً بالنسبة للتفكير، هما: اللغة العربية الصحيحة، وشرح مبسّط للإيمان والتوحيد من خلال الآيات والسور القصيرة من القرآن الكريم والأحاديث التي يحفظها ويعيها وتُشرح له معانيها.

 في هذه المرحلة تتفاعل جميع القوى الداخلية والخارجية المؤثرة في بناء التفكير ومنهج الفطرة، الأسرة والبيت والوالدان، والأرحام، المسجد، المدرسة، المجتمع وغير ذلك. وتصبّ هذه القوى المؤثّرة زادَها في كيان الطفل ونفسه وفطرته وينشط التفاعل بينها حتى توفر ما نسميّه \" قدرة المسؤولية \". والمسؤولية التي نعنيها هنا هي المسؤولية بين يدي الله يوم الحساب حين تقام الموازين القسط. في هذه المرحلة يجب أن تستقرّ في فطرة الطفل أسس بناء النهج الإيماني للتفكير.

 أما المسؤولية في الدنيا فتبتدئ قبل ذلك، حين يكون الطفل قد بلغ درجة من إدراك بعض الأمور ليعرف الصواب من الخطأ. فعندما يخطئ الطفل يوجّه وينصح ويعلّم، أو يعاقب على حسب الحالة. ومن خلال الخطأ والصواب يُعلّم كيف يفكّر.

 

ج ـ مرحلة التفكير المسؤول:

 وهي المرحلة التي تبدأ بسنّ البلوغ أو الخامسة عشرة في معظم الأحيان وهي السنّ التي تبدأ بها المسؤوليّة الشرعية في الدنيا وفي الآخرة. وبعضهم يعتبرها تبدأ من الثامنة عشرة تأثّراً بأجواء الحياة العصريّة واعتباراً لجزء واحد من المسؤولية هي المسؤولية في الدنيا.

 في هذه المرحلة يكون الطفل قد استكمل من الزاد ما يفرض عليه تحمل المسؤولية. من حيث الإيمان والتوحيد، واللغة العربية الصحيحة، والكتاب والسنة، وتدرّب على ممارسة بعض القضايا الإيمانية. وإذا نظرنا إلى أجيال المسلمين أيام النبوّة الخاتمة والخلفاء الراشدين لوجدنا أن المسؤولية كانت تبتدئ مع هذا السنّ من البلوغ.

 ففي معركة: \" بني قريظة \" كان يُقتل منهم كلٌّ من أنبت. وفي معركة بدر ردّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -، وقَبِلُه مقاتلاً في معركة أُحد بعد ذلك بسنة.

وفي قوله - تعالى -: (وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم …) [النور: 59]

 

 وعلى كلّ حال فإن مرحلة التفكير المسؤول تبتدئ مع بداية المسؤولية الشرعية. وتشمل المسؤولية هنا في هذه المرحلة المسؤولية في الدنيا والآخرة، المسؤولية عن النيّة والتفكير والعمل والكلمة.

 فإذا قامت التربية الإيمانية بواجبها في كلّ مرحلة، فإن أسس النهج الإيماني للتفكير تكون قد استقرّت في الفطرة، وأصبحت قادرة على توجيه التفاعل بين مختلف العوامل المؤثرة في النهج، حتى ينطلق النهج الإيماني على صراط مستقيم ممتدّ مع الحياة.

 

1ـ مراحل التفكير من حيث الإيمان والتوحيد والموقف منهما:

 غرس الله الإيمان والتوحيد في فطرة الإنسان وسهّل له سبل التمسّك بهما والتزامهما، فجعل آياته المبثوثة في الكون دالة عليه، وكذلك في أحداث الحياة والتاريخ، ثمّ بعث الأنبياء والمرسلين على مدى التاريخ البشريّ وختمهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وبالقرآن الكريم وسنة النبي الخاتم.

 ويمضي الإنسان في حياته على إيمان وفطرة حتى تبلغه رسالة الأنبياء والمرسلين، إلا إذا فسدت الفطرة، وتعطلت القوى الحقيقية للتفكير وعميت البصيرة، فلم تعد ترى أو تدرك الحقيقة الكبرى في الحياة، والقضية الأخطر والأكبر في حياة كلّ إنسان.

 الإيمان في هذه المرحلة هو إيمان الفطرة. وقد جعل الله برحمته فطرة الإنسان السليمة قادرة على تلقّي الدلالة من آيات الله المبثوثة في الكون و على تلقّي رسالة الأنبياء. وكلما سلمت الفطرة كان التلقّي أيسر وأسرع وإذا تسلّل الفساد للفطرة تبدأ الصعوبة في تلقّي هذه الرسالة من الآيات المبثوثة في الكون ومن الأنبياء والمرسلين. ويمكن أن تقسّم مراحل الإيمان والتوحيد والتفكير الذي يمضي معه ويُبنى عليه إلى ثلاث مراحل نوجزها كما يلي:

 

أ ـ مرحلة الإيمان الفطريّ والتفكير الفطري:

 وهي كما ذكرنا تكون الفطرة والإيمان المغروس فيها هو العامل الأول. ويشتدّ أثر هذا العامل بصفاء الفطرة ونقائها وسلامتها، ويضعف بضعفها وفسادها.

 

ب ـ مرحلة التأمل والنظر:

 إنها المرحلة التي تدفع إليها المرحلة السابقة ـ مرحلة الإيمان والتفكير الفطري ـ إن الفطرة السليمة تدفع الإنسان إلى أن يتأمل فيما حوله ويتفكّر، وينظر ويتدبّر.

(إن في خلق السّموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب. الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكّرون في خلق السموات والأرض ربّنا ما خلقت هذا باطلاً سُبحانك فقنا عذاب النّار) [آل عمران: 190-191]

 

 إن القرآن الكريم يلحٌّ بهذه القضيّة إلحاحاً كبيراً، لتكون باب إيمان وتوحيد، أو باب حماية للإيمان والتوحيد وتنمية له:

(أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشدَّ قوّةً وآثاراً في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون) [غافر: 82]

 

 وهكذا يستمرّ عرض آيات الله عرضاً جليّاً حتى لا يحقّ لأحد معه أن ينكر هذه الآيات:

(ويريكم آياته فأيَّ آيات تُنكرون) [غافر: 81]

 

ج ـ مرحلة إيمان التكاليف والمسؤولية:

 إنها مرحلة التفكير واتخاذ القرار وتحمّل المسؤولية. إن مرحلة الإيمان الفطري تدفع الإنسان إلى المرحلة الثانية ـ مرحلة التأمل والتفكر، والمرحلة الثانية هذه تدفع إلى مرحلة التفكّر الإيماني المنهجيّ المسؤول الذي يصاحبه القرار، ما دامت الفطرة سليمة لم تفسدها الآثام والمعاصي، والفتنة والفجور. أما إذا فسدت الفطرة فينحرف التفكير عن النهج الإيماني إلى الكفر والإلحاد. فإذا اتخذ قراراً بذلك فإنه يتحمّل مسؤولية القرار سواء أكان القرار بالإيمان وتبعاته ومسؤولياته، أم بالكفر وفتنته وعذابه في الآخرة. ولنستمع إلى الآيات من سورة الكهف تعرض هذه المرحلة بوجهيها:

(وقل الحقّ من ربّكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سُرادقها وإن يستغيثوا يُغاثوا بماء كالمُهل يشوي الوجوه بئس الشّراب وساءت مرتفقا. إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نُضيع أجرَ من أحسن عملاً. أولئك لهم جنّات عدن تجري من تحتهم الأنهار يُحلّون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثياباً خُضراً من سُندس وإستبرق مُتّكئين فيها على الأرائك نعم الثّواب وحسنت مُرتفقا) [الكهف: 29-31]

 

 \" وقل الحقّ من ربّكم … \"! أمرٌ من الله لرسوله ليبلغ الرسالة فَيَعيها ويؤمن بها وينهض لتكاليفها كلٌّ من سلمت فطرته، فيهديه الله. وأما من فسدت فطرته فينحرف إلى الكفر. ثم تذكر الآيات نتيجة كلّ قرار، القرار الذي يتخذه من آمن فهداه الله فالتزم، والقرار الذي اتخذه من انحرف وأضلّه الله.

 إن هذه المرحلة هي من أخطر مراحل التفكير، لأنها تتعلق بأخطر قضيّة في حياة الإنسان، بالحقيقة الكبرى في الكون والحياة. إنها المرحلة التي يُبلَّغُ فيها الإنسان دعوة الله ودينه الحقّ، والمرحلة التي يُدعى فيها الإنسان إلى إيمان التكاليف والمسؤولية والعلم. إنه الإيمان الذي ينطلق به الإنسان ليُحقّق مهمته التي خُلِق لها والعهد الذي ارتبط به مع ربّه وخالقه. إنه التفكير الذي يقرر مصيره في الدنيا والآخرة. إنه التفكير المسؤول، وإنه لإيمان التكاليف والمسؤولية.

 ولعلنا ندرك من هذا التصوّر معنى الآية الكريمة في سورة الشورى:

(وكذلك أوحينا إليك رُوحاً من أمرنا ما كنت تَدري ما الكتابُ ولا الإيمانُ ولكن جعلناه نُوراً نَهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السّموات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور) [الشورى: 52 53]

 

 فهل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يعرف الإيمان؟! كلا! إنه كان مؤمناً بالإيمان الفطري الذي وُلد عليه، والذي استمرّ معه في مراحل نموّه على فطرة صافية سليمة تعهّدها الله - سبحانه وتعالى- وأعدّها لتلقي الرسالة، ولتلقي إيمان التكاليف.

 

2- أنواع نهج التفكير بين الناس:

 إن التفكير، كما ذكرنا سابقاً، طاقة وهبها الله للإنسان، لكلّ إنسان مكلف في ميزان الله، ليكون الإنسان قد توافر لديه عامل رئيس من العوامل التي تجعله مسؤولاً محاسباً في حدود وسعه الصادق، وفي حدود مسؤوليّته. ومما يحدّد الوسع الصادق للإنسان هو مستوى طاقته الفكرية التي وهبها الله له.

 فبعد مرحلة التأمل والتفكر يتجه التفكير إلى ثلاثة مناحي، يحمل كلّ منحى نهجاً خاصاً به يميزه من غيره. ونوجز ذلك بما يلي:

أ ـ النهج الإيماني للتفكير: وهو النهج الذي يمضي على صراط مستقيم ينهض على قواعد الإيمان وأسسه وعلى منهاج الله: إيماناً وعلماً وممارسةً.

ب ـ النهج المنكر للإيمان المعلن لإنكاره: وهو النهج الذي يمضي على سبل شتى، كل سبيل يُعلن الكفر وإلحاده، تحت شعارات مختلفة وزخارف متنوّعة. وهو النهج الذي ينهض ابتداءً لمحاربة النهج الإيماني، وللصدّ عن سبيل الله بأساليب مختلفة علنية وخفيّة، صريحة أو مراوغة، فأولئك هم المعتدون في ميزان الله:

(لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمّة وأولئك هم المعتدون) [التوبة: 10]

 

ج ـ نهج المنافقين المعلنين خلاف ما يبطنون، يتقرّبون من المؤمنين ويظهرون الودّ الكاذب ليغتنموا فرصة البطش والعدوان. ويوادّون الكافرين ولو سرّاً ويمدّون الحبال بينهم وأسباب التعاون.

 وقد تلتقي هذه المناهج الثلاثة في ميدان أو أكثر من ميادين التفكير المادي، كالبحث في العلوم التطبيقية والصناعية وأمثال ذلك. وتختلف في ميادين شتى مثل التصوّر للكون والحياة والموت وما بعد الموت، وفي نشأة الحياة ونشأة الكون وخلق الإنسان وغير ذلك مما يتصل به من قريب أو بعيد. كما يختلف النهج الإيماني للتفكير عن النهجين الآخرين باستخدام العلوم التطبيقية والصناعية وفي النظرة السياسية والاقتصادية، وفي استخدام سائر العلوم. ثم تسخيرها لصالح الإنسان أو لشرّه وفساده.

 وتُصبح الحياة الدنيا دار ابتلاء وتمحيص حتى تتمايز هذه المناهج بعضها من بعض، وحتى تقوم الحجة لمن اتبع نهج الإيمان وتقوم الحجة على من اتبع المناهج الأخرى. ويمضي التمحيص والابتلاء على سنن ربّانيّة ثابتة في الحياة الدنيا.

 ويقع الصدام بين هذه المناهج قدراً من عند الله، من خلال السنن الربانية الثابتة. وليس أمام المؤمنين من سبيل أبداً على ضوء سنن الله الثابتة إلا أن يصدقوا الله بالتزام النهج الإيماني، حتى يُنزل الله نصره عليهم. فإن غفلوا تاهوا وضلّوا خسروا نصرة الله لهم.

 

3- مستويات الطاقة الفكرية:

 الطاقة الفكريّة ليست خاصة بالمؤمنين كما ذكرنا، ولكن مناهج التفكير تختلف. وفي كلّ نهج للتفكير مستويات مختلفة. وإن الله - سبحانه وتعالى- وهب كلّ إنسان طاقة فكرية تكفيه ليميز الباطل من الحق، ووهبه الفطرة والميول، ووفّر له جميع الأسباب التي لا تترك عذراً لإنسانٍ, أن يموت على الكفر ما دام مكلّفاً.

 والطاقة الفكريّة المتميّزة بعطائها، المتميّزة بقوّتها، نودّ أن نُسمّيها \" الموهبة \". و \" الموهبة \" نفسها تختلف في نوعها وميدانها، وتختلف في مستواها. فهنالك مستويات مختلفة من المواهب. فموهبة تبرز في الأدب أو بعض أجناسه وفروعه، وموهبة تبرز في الرياضيات أو علوم الطبيعة أو الكيمياء أو الهندسة أو الطب أو غير ذلك. ومواهب قد تبرز في ميدان الزراعة أو الصناعة أو التجارة أو الاقتصاد أو السياسة أو أيّ ميدان آخر.

 ومن أهم النواحي في أسس قياس مستوى التفكير في النهج الإيماني للتفكير هو تحديد الهدف بدقّة ووضوح، وتحديد الدرب الذي يؤدّي حقّاً إلى الهدف، وتحديد الوسائل والمراحل والأساليب على ضوء الواقع الذي يعمل فيه المؤمنون.

 ويتمثّل هذا فكراً وتصوراً وممارسةً بمستوى الولاء الأول لله، والعهد الأول لله، والحبّ الأكبر لله ورسوله، وبمستوى ارتباط كل ولاء وعهد وحب يُقام في الدنيا بالولاء الأول لله والعهد والحب الأكبر لله ورسوله.

 

4- الخطوات التطبيقية للنهج الإيماني للتفكير:

 النهج الإيماني للتفكير لا يقف عند مجرّد التفكير، ولكنه ينتقل إلى السعي والعمل والممارسة الإيمانية، ينتقل إلى الميدان، إلى ميدان الواقع، ويظلّ يعمل في مرحلة التأمّل أو النهج والتخطيط أو الممارسة والسعي.

 لذلك كان لا بدّ من البناء والإعداد، والتدريب والتعهّد، والإشراف والمراقبة، حتى يُعدّ المؤمن إعداداً سليماً ينطلق به على المنهج الإيماني للتفكير. وإنها مسؤولية الوالدين والبيت والمعاهد والبيئة والمجتمع ومؤسسات الأمة والمجتمع، ومختلف المستويات فيها. ويتحمل كلٌّ واحد من هؤلاء مسؤوليته عن حماية الفطرة وعن التربية والتعهّد، والبناء والتدريب وغير ذلك. النهج الإيماني للتفكير لا يتجاهل الواقع، وإنما يدرسه من خلال منهاج الله دراسة منهجيّة جادة ممتدّة، مصاحبة لدراسة منهاج الله. فهي دراسة قائمة على أسس، منضبطة بقواعد، غير متفلّتة ولا تائهة.

ويمكن أن نوجز خطوات تفكير المؤمن بنقاط كما يلي:

أ ـ النيّة.

ب ـ والخطوة التالية لذلك هي أداء الشعائر كلّها والوفاء بها خشوعاً وإقامة.

ج ـ طلب العلم من الكتاب والسنة.

د ـ ثمّ يمضي المؤمن على صراط مستقيم ينهض فيه إلى التكاليف الربّانيّة التي أمر الله بها، يصاحبه في مسيرته هذه منهاجه الفردي الذي يوفّر له زاد المسيرة، وكذلك يصاحبه منهج لقاء المؤمنين.

هـ ـ أثناء مسيرته تعترضه مشكلات مختلفة، يكون قد تزوّد بالزاد اللازم لمجابهتها وحلِّها، وهو ماضٍ, على صراط مستقيم لا ينحرف عنه.

و ـ فيبدأ أولاً بدراسة الموضوع وجمع كامل المعلومات عنه، ثمّ ترتيبها، ليسهل الرجوع إليها، وليسهل فَهمها، وليوفّر بذلك أكبر درجة من الوضوح والصدق. زـ ويلجأ إلى التبيّن لا إلى الظنّ والوهم، حتى يتوافر له درجة مقبولة من اليقين. ويظلّ البحث وجمع المعلومات والتبيّن أمراً ماضياً معه لا يتوقف، ويسجل ذلك في \" الدراسة النامية \" الخاصة بالموضوع المطروح.

ح ـ وبعد أن تتكامل المعلومات على هذا النهج يبدأ في ردّ هذه القضيّة والموضوع إلى منهاج الله ردّاً أميناً واعياً على أسس ثابتة لديه درسها وتدرّب عليها.

ط ـ اللجوء إلى الشورى إذا لزم الأمر.

ي ـ وضع الخطّة والنّهج لحلّ المشكلة بصورة مبدئيّة، وإعادة دراستها والاطمئنان إلى أنها نابعة من منهاج الله، مبنيّة على فهم القضيّة والواقع.

ك ـ دراسة الواقع ومدى إمكانية تنفيذ الخطة فيه.

ل ـ الاستخارة وكثرة الدعاء واللجوء إلى الله.

م ـ في جميع هذه المراحل يصاحبه: النية، الشعائر، الدعاء والاستغفار والأذكار، والتوبة، ومجاهدة النفس، وطلب العلم، ومحاسبة النفس.

ن ـ التنفيذ.

س ـ التقويم الدوري والمراجعة.

 إن هذه قواعد رئيسة في النهج الإيماني للتفكير، وفي معالجة الموضوعات والقضايا. والمؤمن مبتلى، وستظلّ القضايا تتكرّر كما يقضي الله الذي بيده الأمر كلّه، ويظلّ المؤمن يلجأ إلى الله حقّ اللجوء، ليكون هذا اللجوء أساس الفكر والعمل.

 وعند ما تدرس المذاهب التربوية والنفسية في الغرب طريقة مجابهة الموضوعات ومعالجتها، تضع أُسساً غير هذه الأسس. وذلك لأن الأهداف كلّها مختلفة، والمبدأ مختلف، فطريقة التفكير مختلفة.

 ولكن هناك مشكلات علميّة يجابهها الباحث أو الطالب في المدرسة فتظلّ القواعد الأساسية السابقة ماضية بالقدر الذي تحتاجه المشكلة العلمية. ولكن لابدّ من الإشارة إلى نقاط أخرى.

أ ـ دراسة المشكلة ومعرفة كلّ معطياتها بوضوح ودقّة.

ب ـ دراسة المطلوب من هذه المشكلة دراسة واعية فالمطلوب يمكن أن يكون منطلق الحل والبرهان.

ج ـ ثمّ يسير خطوة خطوة ليربط بين المعطيات والمطلوب، وليبحث عن نقطة البداية ثم طريقة الحلّ.

د ـ فقد يبدأ من النهاية، أي من المطلوب، فيقول إذا أردنا أن نثبت هذا الأمر، فهذا يتطلب كذا. وهذا يتطلب أمراً آخر، وهكذا حتى يصل إلى المعطيات. وقد يبدأ من المعطيات حتى يصل إلى المطلوب.

 إن أهمّ قضيّة يجب أن نثيرها في واقع المسلمين اليوم، هو واجب التفكير، لأنه فرض على المؤمن، لا تصحّ النيّة ولا العبادة دون التفكير. ولا يصدق النهج والتخطيط، ولا الإدارة والنظام، ولا العمل كلّه بغيره.

 لقد تعطلت في حياة المسلمين أمور كثيرة، كان التفكير من أهمها. وقد طُمست معالم التفكير الإيماني وغابت خصائصه وطُويت ميزاته وأُسسه، ومراحله وخطواته وأهدافه.

 إن المسلمين مكلّفون أن يجوبوا آفاق الكون والحياة، وأن يحملوا رسالة الله معهم في تجوالهم وتطوافهم، وأن يجمعوا أسباب القوة كلّها من صناعة وسلاح، كما أمرهم الله بذلك، حتى يوفوا بعهدهم مع الله والأمانة التي حملوها والعبادة التي خُلِقوا لها والخلافة التي جُعلت لهم، وعمارة الأرض بحضارة الإيمان.

 

5- مراحل الإدراك ودرجاته:

أ ـ المعرفة: إن أول درجة هي المعرفة، أي أن يعرف الإنسان المعلومة التي وصلت الفؤاد.

ب ـ الفهم: يقوم الفؤاد أو القلب أو الطاقة الفكرية بتحليل \" المعلومة \" تحليلاً أوليّاً ليتأكد الإنسان أنه قد فهم الرسالة ووعاها وعرف معناها ومضمونها.

جـ ـ الشك والظنّ: بعد أن يعي الإنسان الرسالة ويفهمها سيتساءل هل هي حق أم باطل. ومن خلال هذا التساؤل ينشأ لديه الشكّ والظنّ. وقد يتجاوز هذه المرحلة بسرعة، وقد يتأخر فيها، وقد يثبت عليها أو ينقلب إلى الإنكار، أو إلى التصديق الفكري.

د ـ التصديق الفكري أو الإنكار: وذلك حين يقتنع أن الرسالة التي وصلته حقّ وليست باطلاً. ونُسمي هذه الخطوة أو المرحلة بالتصديق الفكري. ونقصد به أن فكره ارتفع إلى هذه الدرجة، وأن عاطفته بقيت في مستوى أدنى من مستوى التفكير. فالفكر يعمل، والعاطفة تعمل ولكن بمستوى أدنى.

هـ ـ الإيمان: وهي المرحلة التي يرتفع فيها الشعور والعاطفة إلى درجة قريبة من مستوى التصديق الفكري.

و ـ اليقين: وهي المرحلة العليا من الإيمان والمستوى الأعلى منه حين يرتفع مستوى التصديق الفكري ومستوى التصديق العاطفي إلى الدرجة الأعلى، ويتفاعلان التفاعل الأقوى والأشدّ، فتنشأ النيّة الخالصة لله بكلّ شروطها، والعزيمة والتصميم الذي لا يسعى إلى الأعذار والمسوّغات التي يتفلّت بها من مسؤولياته، أو بعضها. وتنشأ في هذه المرحلة الحوافز الإيمانية على أقوى ما تكون من صدق وصفاء وعزم وتصميم.

 ونؤكد أخيراً أن جميع هذه الدرجات تمضي بأمر الله عدلاً منه وفضلاً، ويظلّ الإنسان يحمل المسؤولية التي سيحاسَب عليها حيث تكون هذه المسؤولية هي من مشيئة الله وقضائه وقدره، مشيئته العادلة الحقّ التي لا تظلم، والتي قضت أن يكون الإنسان مسؤولاً ومحاسباً في دائرة حدّدها الله - سبحانه وتعالى- وفصّلها، وجعل لها صراطاً مستقيماً واحداً وسبيلاً واحداً لا يضلّ عنه مؤمن صادق أبداً، وقد فصّله الله وبيّنه. والحمد لله ربّ العالمين.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply