ذكرنا في الحلقة الماضية ثلاثة أسس كان لها الدور البارز في إيجاد جيل التأسيس أو القاعدة الصلبة التي كانت الأساس في نشر الدعوة وحمايتها فيما بعد، ويبقى معنا عامل من أهم العوامل التي هي لازمة في جيل التأسيس، وهو يختلف باختلاف في الأحوال، ويختلف باختلاف المربين إنه:
دور التربية: دور التربية التي قام بها النبي - صلى الله عليه وسلم - التربية الشاملة، ليس التربية مطلوبة لضبط النفس وهو حسها وانفعالاتها فحسب، وإن كان هذا من أسسها ولكنها أيضاً مطلوبة لمستويات أخرى من السلوك والقيم.
ولو تركت النفوس بدون تربية ولا رعاية ولا تعهد فإنها تصبح ضعيفة لا تقوى على مقاومة الضغط، مما يجعلها تتساقط بين الحين والآخر، وتستسلم ويظهر عند ذلك فسادها.
ودور التربية بارز مرة أخرى في أهمية اكتساب النفس للصلابة والقوة في مواجهة الضغوط، ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعطي أنواعاً من الأساليب لحماية هذا الجيل الذي هو جيل التأسيس من التأثر بغيره من المحدثات، أو بمن حوله من المناهج والأفكار الوافدة، وهذا يعني أننا بحاجة ماسة في هذا العصر لدراسة مثل تلك الوسائل لحماية هذا الجيل وتلك القاعدة، ولنضرب على ذلك مثالاً:
تعرفون عمر - رضي الله عنه - من خلال سيرته وفضائله وقوة حجته، وفضائله كثيرة، ويكفي أنه الفاروق الذي فرق بين الحق والباطل، وما كان ينزل وادياً إلا هرب الشيطان وادياً آخر فزعاً منه - رضي الله عنه -، ومع هذا فإنه في إطار حماية جيل التأسيس من التأثر الخارج للأفكار والمذاهب الأخرى أثناء التربية والتأسيس فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - رآه ذات يوم وهو يطالع في صحيفة من صحف التوراة - من صحف أهل الكتاب -، فلما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - غضب عليه، وقال: أو في شك فيها يا ابن الخطاب، والله لقد جئتكم بها بيضاء نقية، ولو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي.
ونحن نعرف أن كتب بني إسرائيل على ثلاثة أقسام: قسم موافق لما عندنا، وقسم معارض لما عندنا، وقسم لا موافق ولا معارض، والذي أتوقعه - وإن كنت لم أجد نصاً في ذلك لكن تحليلاً - أن الصحيفة التي كان يطلعها عمر من القسمين الأولين: إما الموافق، وإما الذي لا يوافق ولا يخالف عندنا وهو المسكوت عنه، أما المعارض فحري بعمر أن لا يقرأ ولا يطالع فيه، ولكن مع هذا كله فإن موقف النبي - صلى الله عليه وسلم - كان موقفاً حازماً وجاداً لحماية الأفراد أثناء التأسيس من أي تأثيرات أخرى خارج المنهج وهو ما يسميه علماء التربية اليوم (بأحادية المصدر)، مع الاتفاق على مصدر التلقي، فهذا مثال يبين لنا ذلك الدور الذي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - من حيث التربية، أو من حيث الحماية والمحافظة للأفراد أثناء مرورهم بفترة التأسيس، ولهذا يقول الله - سبحانه وتعالى - لرسوله في تلك الفترة: (( فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم ))، وعلى هذا فدور التربية مطلوب في جيل التأسيس، وإيجاد القاعدة الصلبة لحمل الدعوة، كما أنه مطلوب على مر المراحل والأدوار، وإن كان يختلف كماً وكيفاً من مرحلة إلى مرحلة إلا أنه مطلوب ومؤكد ولا بد منه، ولهذا كما ذكرت لكم كان هناك حرص من النبي - صلى الله عليه وسلم - على التربية، ثم أيضاً على الحماية، وبعد أن وصلت القاعدة أو الجيل من الفهم والإدراك وقوة الصلابة والفهم آنذاك قال: حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، وسمح لهم بعد تلك الفترة على الإطلاع على ما عند القوم من أفكار ومعلومات بعد أن وصلوا إلى مرحلة تجاوزت مرحلة جيل التأسيس، وهذا الموضوع في الحقيقة هو الذي يجب أن يركز عليه في هذا العصر، وقد يقول قائل: عظمة المبادئ موجودة اليوم بين أيدينا، فالتوحيد هو التوحيد، والسنة هي السنة، والمفاهيم والمناهج التي ربى النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها أصحابه هي موجودة ومدونة بين أيدينا، ولكن يبقى معنا شيء مهم جداً ربما لا نستطيع إيجاده مثل ما كان آنذاك - وإن كان لا بد من المقاربة والتأسي في ذلك - ألا وهو شخصية المربي - صلى الله عليه وسلم - فإن الوحي قد انقطع، وكل من أتى بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يمكن أن يبلغ درجته في التأثير والتربية، ولكنه التأسي والاقتداء، فلا بد من المقاربة والتسديد في هذا كله.
أما دور التربية فإنه باق وموجود، ويحتاج الإنسان إلى أن يبذل جهد في ذلك، لكنه مسترشد ومستعين بالطرق التي فعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - وربى أصحابه في الجيل الأول عليها.
وهذا أمر يحتاج إلى مزيد من العناية، فإن التربية لا تنتهي عند هذا الحد ولا عند هذا المستوى، بل لا بد من الاستمرار فيها، وأن تصل إلى مرحلة أعظم مما هي عليه، فإن النفس قد تتربى على الاستقامة وفهم المبادئ والتصورات ولكنها بحاجة إلى دفع لتصل إلى مرحلة مجاهدة الباطل، والوقوف في وجهة هذا الأمر يحتاج إلى تربية طويلة طويلة طويلة.
لماذا؟ إن الصعود أمر شاق على النفس البشرية حتى تتعود عليهº لأن قبضة الطين ثقلٌ يميل دائماً إلى الأسفل، فيحتاج إلى رفع مستمر حتى يتوازن، ويحتاج إلى رفع أكثر ليغلب دافع الصعود دافع الهبوط، وهذا يحتاج إلى مزيد من تعميق الإيمان بالله - سبحانه وتعالى - واليوم الآخر في النفوس، والتذكير الدائم بالله - جل وعلا -.
وإذا نظرنا أيها الأحباب إلى تلك القاعدة وذلك الجيل الأول الذي رباه النبي - صلى الله عليه وسلم - فلسائل أن يسأل ويقول: لقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبذل ذلك الجهد الضخم في التربية فلماذا كان يبذله؟ وإلى أي هدف يريد أن يصل بالمتربين عليه؟ هل لمجرد إيجاد أشخاص مؤمنين يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويقومون بالعبادة على أكمل وجه، أم أنه مع هذا يريد أن يصل بهم إلى هدف أكبر من هذا كله ومن هذه الأمور أيضاً.
فهل كان - صلى الله عليه وسلم - يريد من تلك التربية ومن ذلك الدور الذي يبذله ومن تلك الوسائل والحمايات يريد أن يصل بأولئك الأفراد إلى إيجاد جماعة مؤمنة تؤمن بالله واليوم الآخر، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتقيم العبادات وما أمره الله، وأيضاً لتدفع وتواجهه، وهذه مرحلة أخرى من مراحل التربية للجيل الأول، وللقاعدة الصلبة الأولى.
ولقد كانت هذه القاعدة الصلبة بهذه التربية وبتلك الأهداف، وبهذه المفاهيم والتصورات هي القاعدة التي تجمع حولها المسلمون، أو قل تجمعت بعدها حينئذ القاعدة الجماهيرية الكبرى التي نشرت الدعوة، وبينت للناس هذا الدين في الأقطار كلها.
وهذا لم يكن يأتي من فراغ بل كان يمشي خطوة خطوة على التربية الجادة، وحمل الأمانة، والأخذ بالوسائل التي ترفع الشخص شيئاً فشيئاً، وتنمي إيمانه، وتجعله يشعر بأنه عضو من مجتمع يسير إلى هذا الهدف، وإلى تلك الغاية، وهذا أمر ملاحظ في كل من اطلع ودرس في تربية النبي - صلى الله عليه وسلم -، واليوم تأتي الغربة الثانية للإسلام الذي قال - صلى الله عليه وسلم -: (بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ)، فهي غربة مثل الغربة الأولى، ولتسعى الثانية بل نقول أن دور التربية، ودور جيل التأسيس، وتربيته، ومواصفاته في هذا العصرº ربما يحتاج إلى مزيد عناية للأسباب التالية:
1- لأن المربي الأعظم - صلى الله عليه وسلم - غير موجود بين أفراد هذا الجيل وإن كانت سنته ومبادئه موجودة لكن التأثير العظيم منه على الأفراد لا يوجد إلا الشيء النزير في كل المربين الذين أتوا من بعده، لعدم اكتمال شخصيتهم التربوية، ولعدم عصمتهم وكمال تربيتهم.
2- فساد الفطرة: قلنا في عوامل الجيل الأول أن من أبرز العوامل في التربية آنذاك سلامة الفطرة، وأن القشرة هي التي فسدت، ولم يتغلغل الفساد كلياً إلى سائر الفطر.
أما اليوم فيوجد تغلغل في الفساد في كثير من فطر الناس، مما زاد العبء الثقيل على المربين لمزيد عناية وتربية في هذا العصر، وهذا يعني أننا يجب أن نكون صادقين في أمنياتنا وأهدافنا، وإن كنا نطمع أن يوجد القاعدة الصلبة أو جيل التأسيس بمثل ما وجد به الجيل الأول، لكن للأسباب السابقة لا نطمع اليوم في إنشاء أو إيجاد ذلك الجيل كما أنشأه وأوجده النبي - صلى الله عليه وسلم - سواء للقاعدة الصلبة أو القاعدة الجماهيرية، إلا أنه لا بد من التشابه في جزئيات أو كليات من ذلك البناء - لأنه لا بد من بناء -، وهذا البناء قد يتعرض لمزيد من المعاناة، وهذا يعني أن نتعرف بمزيد عناية على المواصفات التي ينبغي أن توجد في أجيال التأسيس الأولى لكل الدعوات التي تقوم على هذا المنهج، هل يصلح أن ينتمي إلى جيل التأسيس أو يكون عضواً في قاعدة صلبة تحمل من بعدها أي إنسان مجزئ انتمائه إلى الإسلام مجرد أن يقول أنه من المؤمنين بالله واليوم الآخر، يقيم الصلاة، أم أنه لا بد من مزيد وصف على هذا الوصف الذي ذكر، وإلى أي مدى يجب أن يكون الإيمان، وما هي تأثيرات الإيمان عليه، وما مدى الالتزام في نفسية ذلك الشخص، وإلى أي درجة يجب أن يكون عليها ذلك المؤمن من الوعي، والبذل، والتضحية ليكون واحد من الملتحقين بجيل التأسيس.
أيصلح وحاله كما قال الله: ((ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله))، طبعاً لا يصلح مثله لتحمل البناء فضلاً أن يكون واحد من أعمدته، وهل يصلح للبناء من عنده هذه الأمور ولكنه سرعان ما يفتتن في الخير أو في الشر - بل فتنة الخير في هذا العصر أعظم من فتنة الشر – ((ونبلوكم بالشر والخير فتنة))، وهنا أمران مهمان يجب أن ننتبه لهما أثناء الحديث عن مواصفات جيل التأسيس وحماية ذلك الجيل:
الأمر الأول: وهو حري بالنظر والمتابعة، أن ينظر الإنسان في كثير من المواصفات بل في كثير من الأمراض التي وقعت فيها الجاهلية العانية المحيطة بالإسلام، سنجد أن كثير من هذه الأمور ربما نفذت إلى الأشخاص المتأثرين بالدعوة، بل ربما أصيب بها بعض من أفراد جيل التأسيس من التأثر بالبنية والحال، لهذا لا بد أولاً أن نقول التجرد لله - سبحانه وتعالى -، وهذه صفة عظيمة، بل هذا حال لا يمكن أن يصل إليه إلا من وفقه الله - سبحانه وتعالى -، فإن من مداخل الشيطان إلى النفس فتنة الذات، فتنة الأنا، حين يكون الإنسان جندياً من جنود الدعوة ربما لا تظهر عليه هذه الفتنة واضحة وجلية، لكنه ما أن يكون واحد ممن تشار إليه البنان، ويكون قد وصل إلى مراحل متقدمة من الدعوة فإنه سرعان ما يصاب بهذا، وتصبح القضية كما هو مشاهد اليوم بين الكثير من العاملين الساحة فتنة في عنفوانها، يتهيأ لها الإنسان حين يصل إلى مراكز القيادة أو مراكز الزعامة، فتختلط المصالح الشخصية بالمصالح الدعوية، وتصبح الدعوة هي ذاته، وذاته هي الدعوة، فمن طعن في ذاته فقد طعن في الدعوة، ومن طعن في شخصة فقد طعن في الدعوة، وتتحول المعركة إلى فتنة عظيمة هي فتنة الذات، أو فتنة الأنا، حتى أنك تجد كثير من الناس يقول: أنا ممثل الدعوة، وأنا الذي تتوفر فيه صفات الدعوة والقيادة، فإذا طعن في شخصه طعن في الدعوة، وهكذا يدخل الشيطان من هذه المسالك، وهذا كله نتائج عن عدم التجرد لله - سبحانه وتعالى -، لهذا فإننا نقول: أن من أهم المواصفات التي ينبغي أن يركز عليها في جيل التأسيس ربط الناس بالله، وتجرد الناس بأعمالهم لله وحده، أنت جندي عامل في هذه الدعوة، وإن كان هذا ربما يكون يسيراً في مراحلك الأولى لكنه من الصعوبة بمكان حينما تتقدم أكثر وأكثر.
ولو قرأتم في تاريخ العمل الإسلامي لوجدتم أن هذا السبب وهذه الآفة العظيمة هي الآفة التي قوضت كثيراً من الأعمال والدعوات والجماعات، وجعلتهم يتناحرون ويتقاطعون فيما بينهم، فهي آفة عظيمة تصاب بها النفوس ولكن في المراحل المتقدمة من الدعوة، ولهذا يجب أن نكون متجردين لله - سبحانه وتعالى - سواء كان النقد لأشخاصنا أو لذاتنا أو لتصرفاتنا.
ويضرب هنا مثل لشخص وفرد من جيل التأسيس إنه جيل عمر، نضرب به هذا المثال:
قام عمر يوماً على المنبر وهو خليفة فقال: يا أيها الناس اسمعوا وأطيعوا!! فرد علبه سلمان الفارسي - رضي الله عنه -: لا سمع لك ولا طاعة اليوم علينا، فقال له عمر: ولمه؟ قال: حتى تبين لنا من أين لك هذا البرد، وأنت رجل طويل لا يكفيك برد واحد كما نال بقية المسلمين، يعني أن سلمان رأى بردين على عمر، واحد اتزر به، وواحد ارتداه، فنادى عمر عبدالله وقال: أنشدك الله هذا البرد الذي ائتزرت به أهو بردك، قال: نعم وبردي أعطيته لأبي ليأتزر بهº لأنه رجل طويل لا يكفيه برد واحد!! فقال سلمان الفارسي: الآن نسمع ونطيع.
هذا عمر وهو بمقام خليفة المسلمين، ولكنه في نفس الوقت كان واحداً من جيل التأسيس الذي رباه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ترى كم شخصاً منا اليوم يمكن أن يوجه له نقد من هذا النوع ولو من بعض تلاميذه وأفراده المحبين له، فهذا يدلنا دلالة واضحة على أن التجرد لله، والتربية على هذا النوعº من أهم المواصفات التي تقوم عليها القاعدة الصلبة، وتحمى بإذن الله - سبحانه وتعالى - بهذا السبب وهذه التربية من أي تفلت أو انحطاط، وعلى هذا فقل في الولاء والبراء، والحب والبغض وغير هذا من المسائل المتعلقة بالتجرد لله - سبحانه وتعالى -.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد