الأمم اليوم لا تقاس برصيدها من المواد الخام - مهما كانت كميتها أو نوعيتها - وإنما تقاس برصيدها من العنصر البشري الذي يعتبر أغلى ما في الوجود، وليس \"الكم\" هو معيار المفاضلة بين أفراد العنصر البشري و إنما \"النوع\"، فهناك رجل برجل، ورجل برجلين،... وهناك رجل بألف رجل. وإن مقياس النوعية هذا لا يقاس بمساطر الطول، ولا بموازين الكتل، ولا بمعدلات الاستهلاك، وإنما يحسب بعامل الزمن، وبآثار الفكر، وبمعدلات الإنتاج، ولن يتسن لأمة أن تبنى رجالها بالنوعية التي تريد إلا في ظل منهاج تربوي فعاّل يقوده معلمون أكفياء \"يزنون لكل فرد بميزان عقله\" من سؤال وجواب ومعلومات.
كم هي كثيرة مهام المعلمين التعليمية، ولكن ما يلزم لتحقيقها من كفايات هو أكثر و أكبر، فمهمة التخطيط للتدريس تحتاج إلى كفايات في تحديد الأهداف، وتحليل المضمون، واختيار الخبرات، ومهمة عرض الدرس تحتاج إلى كفايات في توظيف طرائق التدريس، وفي طرح الأسئلة، وفي إثارة الدافعية، ومهمة غلق الدرس تحتاج إلى كفايات في تلخيص الأفكار، وفي تقويم المنجزات، وفي اختيار الأنشطة البعدية والبيتية.
وينظر إلى مهمة \"عرض الدرس\" على أنها من أشد مهمات المعلم حساسية، ومن أكثرها خطورة لأنها المحك الذي من خلاله يتم تحقيق الأهداف. هذا ولقد تعددت أساليب عرض الدرس وتباينت حتى أنه يمكن وضعها على خط متصل يبدأ بأسلوب الإلقاء القائم على تبعية الطالب للمعلم، وتنتهي بأسلوب التعلم الذاتي القائم على استقلالية الطالب عن المعلم، ويحتاج المعلم إلى كفايات خاصة كي ينجح في عرضه لدرسه بأي أسلوب يشاء، منها كفايات تحديد حاجات الطلاب ومعرفة أنماط تعلمهم، وكفايات طرح الأسئلة وتوزيعها إلى جانب كفايات معرفة مجالات الأسئلة ومستوياتها و المواقف الملائمة لكل منها.
ويعتبر التدريس بالحوار من الأساليب الفاعلة في تدريس الطلاب في مراحل التعليم الأساسية، لأنها تأتي بعد مرحلة ما قبل المدرسة، حيث التعلم بالتلقين والمحاكاة، وتأتي قبل مرحلة التعلم الثانوي والجامعي، حيث التعلم بالاكتشاف، وتعتبر الأسئلة السابرة العمود الفقري لأسلوب التدريس القائم على الحوار، وتقوم فلسفة هذه الأسئلة على افتراض مؤداه: أن الطلاب قادرون على حل الإشكالات التي تواجههم في أثناء العملية التعليمة / التعلمية عبر سلسلة متدرجة من الأسئلة التي يطرحها المعلم ويكون في مقدور الطلاب الإجابة عليها حتى يصلوا إلى حل شامل وكامل لهذه الإشكالات.
(وينسجم هذا المعنى مع مقولة سقراط صاحب أسلوب التعليم بالحوار حيث يقول: كانت أمي قابلة تولِّد الأطفال، وأنا أولّد الأفكار)
ولتقريب هذا النمط من الأذهان فإن خير مثال على ذلك هو حديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - الذي يرويه أبو هريرة رضي الله عنه (البخاري، ج/ 9) حيث يقول:
جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غاضبا، فقال: يا رسول الله ولد لي غلام أسود!!
فقال له - صلى الله عليه وسلم -: هل لك من الإبل؟
قال: نعم!
قال: ما ألوانها؟
قال: حُمر!
قال: هل فيها من أورق (رمادي)؟
قال: نعم!
قال: فأني ذلك؟ (أي كيف حصل ذلك؟ )
قال: لعله نزعة عرق!
قال: فلعل ابنك نزعة عرق.
فهدأ الرجل.
وهكذا أوصل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك الرجل إلى أن يجد حلاً لإشكاليته المطروحة من خلال سلسلة من الأسئلة السابرة.
ولقد صنف (دقائق، 1988) الأسئلة السابرة إلى خمسة أصناف:
أسئلة السبر التذكيري : وهي أسئلة تقيس الخبرات السابقة.
أسئلة السبر الاستيضاحي : وهي أسئلة تستخدم للتأكد من صحة المعومات المطروحة.
أسئلة السبر التركيزي : وهي أسئلة تهدف إلى تثبيت المعلومات المطروحة.
أسئلة السبر الناقد : وهي أسئلة تهدف إلى محاكمة المعلومات المطروحة.
أسئلة السبر التحويلي: وهي أسئلة \"تدور\" بين الطلاب حتى يتمكن أحدهم من إعطاء الإجابة الصحيحة لها.
و المتدبر لمصادر التربية الإسلامية يرى أن هناك اهتماماً خاصاً \" بالسؤال \" لما له من دور في بناء الإنسان وضبط حركته وتطوير معرفته:
فالله - عز وجل - يقول: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)
وفي التربية يقولون: (السؤال نصف المعرفة)
ونسب إلى ابن عباس - رضي الله عنه - حينما سئل عن علمــه كيف اكتسبه أنه قال: (بلسان سئول، وقلب عقول)
ولكن واقع الحال يشهد بأن المعلمين اليوم قد انصرفوا عن هذا النهج التربوي الأصيل، نهج الحوار بهدف البحث و التثبت، فما يدور في قاعات الدرس سواء في المدارس أو المعاهد أو الجامعات يقوم في معظمه على التلقين و الترديد، أما أدوات توليد المعرفة من سؤال أو استفهام أو استعلام فلا نراها إلا كالدينامو المقطع الأسلاك \" فلا يصله \" معلم ولا يستضيء به طالب! فهل لعودة معلمينا إلى الأصول من سبيل!؟
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد