معالم دعوية وتربوية من حياة الإمام البخاري


 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وبعد:

فإن اجتماع الخلق على التسليم للإمام البخاري والإذعان لإمامته لدليل قاطع على أنه لا سبيل لاجتماع الأمة إلا على هدي الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح.

وإن الدارسين لحياة الإمام البخاري وترجمته الحافلة بالعلم ليقفون أمام سيرته العلمية وقفة إكبار وإجلال فقد حمل - رحمه الله - مشعل العلم فأضاء به السبيل للسائرين، فكان من أنبه من حفظ الله بهم سنة سيد المرسلين، وكبت بهم مساعي الزنادقة والمنحرفين من أهل البدع والضلالات ممن كذبوا على النبي الأمين، وشوهوا صورة الإسلام في نظر غير المسلمين، فصدوهم عن الإسلام، وحرموهم من نعمة الله المهداة، ورحمته المسداة إلى الخلق أجمعين، فتركوهم يعيشون في شقوة وتخبط وحيرة، بل إن الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  وخلط الصحيح من السنة بالضعيف والموضوع قد أضر بالأمة المسلمة أيما ضرر، وما هذه الملل والنحل والفرق والبدع والخلافات والبغضاء التي نراها بين كثير من المسلمين إلا ثمرة مرّة من ثمار الوضع والكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولهذا كان الإمام البخاري الذي قضى كل لحظة في عمره في خدمة السنة المشرفة، جمعاً وتمحيصاً ورقابة دقيقة على الأسانيد وكشفاً للخفي من العلل، وتصنيفاً للكتب النافعة، كان - رحمه الله - علماً بارزاً بين أعلام الهدى من أئمة الدين.

 

وإن الدارسين ليقفون وقفة تقدير لهذا الإمام الذي أجمعت الأمة على جلالته وإمامته وغزير علمه، وعظيم فضله، ووافر صلاحه وورعه، بل إن كل منصف ليسجل لهذا الإمام الكبير نيله أعلى المنازل بين العلماء لالتزامه التام بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولثباته على منهج أهل السنة الجماعة في كل مسألة من المسائل التي اختلف معهم فيها أهل البدع، ويسجلون له ثباته على الحق رغم ما عرض له في آخر عمره من جفوة، وتنكٌّر، وإغماض، وتشنيع، لكنه كان كالجبال الرواسي في ثباته على الحق، فلم يهن ولم يلجأ إلى الترخص في الدين وهو الإمام الذي يقتدي به الناس عامة وطلبة العلم خاصة، فقد سأل الله - تعالى - أن يقبضه إليه حين ضاقت عليه الأرض، وأريد على ترك ما يعتقد من الحق، فأضيفت صفحته المشرقة البيضاء تلك إلى صفحة الإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة، والتحق بها صفحات مشرفة لعلمائنا الأكابر كالعز بن عبد السلام وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهما.

 

اسمه وكنيته ونشأته:

هو الإمام الكبير أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبة، ولد في شوال سنة أربع وتسعين ومائة، وقال: محمد بن أبي حاتم قلت لأبي عبد الله: كيف كان بدء أمرك؟ قال: أُلهمت حفظ الحديث وأنا في الكتّاب، فقلت: كم كان سنٌّك؟ فقال: عشر سنين أو أقل. قال البخاري: فلما طعنت في ست عشرة سنة كنت قد حفظت كتب ابن المبارك ووكيع.

 

حسن نيته في تصنيفه الصحيح:

قال خلف الخيام: سمعت إبراهيم بن معقل، سمعت أبا عبد الله يقول: كنت عند إسحاق بن راهويه فقال بعض أصحابنا لو جمعتم كتابا مختصرا لسنن النبي - صلى الله عليه وسلم - فوقع ذلك في قلبي فأخذت في جمع هذا الكتاب. وقال: أخرجت هذا الكتاب من زهاء ستمائة ألف حديث. نصيحة مخلصة من إمام، نصح فيها للدين والعلم، فبارك الله فيها، فصيرها عملاً كبيراً نافعاً وأعان صاحبها على إتمامها على خير وجه، فانتفعت بها الأمة أيما نفع، وهمة صادقة من طالب علم أحاطها بنية صالحة فبارك الله فيها فكان صحيح البخاري \" أصح كتاب بعد كتاب الله، وكان صاحبه إماماً كبير الشأن.. ألا ما أنفع النية الصالحة وأكثرها بركة على أصحابها.

 

ومن تعظيمه - رحمه الله - للسنة، وإجلاله لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ما حكاه الفربري قال: قال لي محمد بن إسماعيل: ما وضعت في كتابي الصحيح حديثا إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين. وحدث إبراهيم بن معقل عنه فقال: سمعت البخاري يقول: ما أدخلت في هذا الكتاب إلا ما صح وتركت من الصحاح كي لا يطول الكتاب.

 

وقال: سمعت البخاري يقول: صنفت الصحيح في ست عشرة سنة وجعلته حجة فيما بيني وبين الله - تعالى -.

 

بشارات تعين على جليل الأعمال:

قال النجم بن الفضيل: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في النوم كأنه يمشي ومحمد بن إسماعيل يمشي خلفه فكلما رفع النبي - صلى الله عليه وسلم - قدمه وضع محمد بن إسماعيل قدمه.

 

صيانته لمكانة العلم وتوقير حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبتذل لأهل الدنيا من الأمراء والوجهاء.. وذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء: كتب بعض السلاطين إلى البخاري ليأتي إليه فيحدث عنده، فكتب إليه أبو عبد الله: سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد، وصل إليّ كتابك وفهمته، وفي بيته يؤتى الحكم، والسلام.

 

وقال سمعت إبراهيم الخواص مستملي صدقة يقول: رأيت أبا زرعة كالصبي جالساً بين يدي محمد بن إسماعيل يسأله عن علل الحديث.

 

ذكر حفظه وسعة علمه وذكائه:

كان جعفر بن محمد القطان إمام كرمينية يقول: سمعت محمد بن إسماعيل يقول: كتبت عن ألف شيخ وأكثر، عن كل واحد منهم عشرة آلاف وأكثر ما عندي حديث إلا أذكر إسناده. وقال أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ: سمعت عدة مشايخ يحكون أن محمد بن إسماعيل البخاري قدم بغداد فسمع به أصحاب الحديث فاجتمعوا وعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها وجعلوا متن هذا الإسناد هذا، وإسناد هذا لمتن هذا، ودفعوا إلى كل واحد عشرة أحاديث ليلقوها على البخاري في المجلس، فاجتمع الناس وانتدب أحدهم فسأل البخاري عن حديث من عشرته فقال: لا أعرفه، وسأله عن آخر فقال: لا أعرفه، وكذلك حتى فرغ من عشرته، فكان الفقهاء يلتفت بعضهم إلى بعض ويقولون: الرجل فهم، ومن كان لا يدري قضى على البخاري بالعجز ثم انتدب آخر ففعل كما فعل الأول والبخاري يقول: لا أعرفه ثم الثالث وإلى تمام العشرة أنفس وهو لا يزيدهم على لا أعرفه فلما علم أنهم قد فرغوا التفت إلى الأول منهم فقال أما حديثك الأول فكذا والثاني كذا والثالث كذا إلى العشرة فرد كل متن إلى إسناده وفعل بالآخرين مثل ذلك فأقر له الناس بالحفظ. أجل.. إنما تنال الإمامة بالصبر واليقين والصبر هو الصلاح والاستقامة، وصبر النفس على طاعة الله - تعالى - وإيثار محابه على هوى النفس، واليقين العلم النافع القائم على الكتاب والسنة وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون.

 

ثناء الأئمة عليه:

كان يحيى بن جعفر يقول: لو قدرت أن أزيد في عمر محمد بن إسماعيل من عمري لفعلت فإن موتي يكون موت رجل واحد وموته ذهاب العلم. هذه أمنيات الصالحين!! رحم الله يحيى بن جعفر، فكم في مقولته هذه من إخلاص لأمة الإسلام ونصح للمسلمين وشفقة عليهم. وكان نعيم بن حماد يقول: محمد بن إسماعيل فقيه هذه الأمة. وقال علي بن المديني: محمد بن إسماعيل لم ير مثل نفسه. وعن قتيبة قال: لو كان محمد في الصحابة لكان آية وقال محمد بن يوسف الهمذاني: كنا عند قتيبة بن سعيد فجاء رجل شعراني يقال له أبو يعقوب فسأله عن محمد بن إسماعيل فنكس رأسه ثم رفعه إلى السماء فقال يا هؤلاء نظرت في الحديث ونظرت في الرأي وجالست الفقهاء والزهاد والعباد ما رأيت منذ عقلت مثل محمد بن إسماعيل.

 

وكان قتيبة يقول: مثل محمد بن إسماعيل عند الصحابة في صدقه وورعه كما كان عمر في الصحابة. إمام أهل السنة يثني على إمام الحديث: وكان الإمام أحمد ابن حنبل يقول: لم يجئنا من خراسان مثل محمد بن إسماعيل. وقال أبو حاتم الرازي: محمد بن إسماعيل أعلم من دخل العراق. وكان محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول: ما رأيت تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأحفظ له من محمد بن إسماعيل.

 

ذكر عبادته وفضله وورعه وصلاحه:

حكى مسبح بن سعيد أن محمد بن إسماعيل كان يقوم بعد التروايح كل ثلاث ليال بختمة. وقال بكر بن منير: سمعت أبا عبد الله البخاري يقول: أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحدا. قال الذهبي: صدق - رحمه الله - ومن نظر في كلامه في الجرح والتعديل علم ورعه في الكلام في الناس وإنصافه فيمن يضعفه فإنه أكثر ما يقول منكر الحديث، سكتوا عنه، فيه نظر ونحو هذا وقلّ أن يقول فلان كذاب أو كان يضع الحديث حتى إنه قال: إذا قلت فلان في حديثه نظر فهو متهم واه وهذا معنى قوله لا يحاسبني الله أني اغتبت أحدا وهذا هو والله غاية الورع. فكم نحن بحاجة إلى أن ندرس تراجم علمائنا، فإن حياتهم التي أقاموها على هدي القرآن والسنة إنما هي منارات للسالكين في سبل السلام، والطالبين لمراقي الفلاح، وكم أضرّ بنا نسيان هذا الخلُق، وكم أفسدت علينا الغفلة عنه اجتماعنا، وأوغرت منا الصدور، وفرقت بين الأخَوين. وكان العلماء بالبصرة يقولون: ما في الدنيا مثل محمد بن إسماعيل في المعرفة والصلاح. وقد ذكرنا أنه لما ألف الصحيح كان يصلي ركعتين عند كل ترجمة وروى الخطيب بإسناده عن الفربري قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في النوم فقال لي \" أين تريد فقلت أريد محمد بن إسماعيل البخاري فقال: أقرئه مني السلام.

 

ورعه:

وقال محمد بن أبي حاتم: ركبنا يوماً إلى الرمي ونحن بفربر فخرجنا إلى الدرب الذي يؤدّي إلى الفرضة فجعلنا نرمي وأصاب سهم أبي عبد الله وتد القنطرة الذي على نهر ورادة فانشق الوتد فلما رآه أبو عبد الله نزل عن دابته فأخرج السهم من الوتد وترك الرمي وقال لنا ارجعوا ورجعنا معه إلى المنزل فقال لي يا أبا جعفر لي إليك حاجة تقضيها قلت: أمرك طاعة، قال حاجة مهمة وهو يتنفس الصعداء فقال لمن معنا اذهبوا مع أبي جعفر حتى تعينوه على ما سألته، فقلت: أية حاجة هي؟ قال لي: تضمن قضاءها؟ قلت: نعم على الرأس والعين، قال: ينبغي أن تصير إلى صاحب القنطرة، فتقول له: إنا قد أخللنا بالوتد فنحب أن تأذن لنا في إقامة بدله أو تأخذ ثمنه وتجعلنا في حِل مما كان منا، وكان صاحب القنطرة حميد بن الأخضر الفربري فقال لي أبلغ أبا عبد الله السلام وقل له أنت في حل مما كان منك وقال: جميع ملكي لك الفداء، وإن قلت نفسي أكون قد كذبت غير أني لم أكن أحب أن تحتشمني في وتد أو في ملكي فابلغته رسالته فتهلل وجهه واستنار وأظهر سروراً وقرأ في ذلك اليوم على الغرباء نحوا من خمس مائة حديث، وتصدق بثلاث مائة درهم. خشي الإمام من مظلمة لم يقصدها، وبقي مهموماً بها كأنها جبل يخاف أن يخرّ عليه شأن المؤمن، ثم تقرب إلى الله حين انزاح عنه الهم بقراءة خمسمائة حديث على الطلاب، وتصدق بالمال، أي رهافة حس، وصدق إيمان صاغها الحديث النبوي في شخص هذا الإمام الكبير. ورع وتواضع وحسن خلق قال: وسمعته يقول لأبي معشر الضرير: اجعلني في حل يا أبا معشر فقال: من أي شيء؟!، قال: رويتُ يوما حديثا فنظرت إليك وقد أعجبت به وأنت تحرك رأسك ويدك فتبسمت من ذلك، قال: أنت في حل رحمك الله يا أبا عبد الله. فهل نطمع من أناس انتسبوا إلى العلم أن يقولوا لأمتهم: اجعلينا في حل من فتاوى أضلت، أو مواقف أفسدت وأضرّت.. رحم الله أبا عبد الله، يطلب العفو من ابتسامة صدرت عفواً من حركة طالب أعمى لم ير ابتسامته، لكن الله - تعالى - رآها.. كم هو شاسع البون بيننا وبين أخلاق السنة وآداب الحديث النبوي الشريف.

 

علم.. وتربية.. ورباط:

قال: ورأيته استلقى على قفاه يوما ونحن بفربر في تصنيفه كتاب التفسير وأتعب نفسه ذلك اليوم في كثرة إخراج الحديث فقلت له: إني أراك تقول إني ما أثبتّ شيئا بغير علم قط منذ عقلت فما الفائدة في الاستلقاء قال: أتعبنا أنفسنا اليوم وهذا ثغر من الثغور خشيت أن يحدث حدث من أمر العدو فأحببت أن استريح وآخذ أهبة فإن غافصنا العدو كان بنا حراك. إدراك عميق للواقع، ويقظة عالية لحركة العدو، وتربص وترقب لغدره، وتهيؤ واستعداد للجهاد، كل ذلك مواز للحركة العلمية القوية التي كان يقودها رحمه فلم تشغله عن الشعور بأنه قريب من ثغر من ثغور الجهاد، ولم يُقم جهده الهائل في خدمة العلم والسنة مبرراً عنده القعود، فاستلقى بعد الدرس ليأخذ أهبة من الراحة ليكون على استعداد لملاقاة العدو، إنه الحق حين تتكامل أركانه في نفس المؤمن، إنه العلم النافع حين يجتمع إليه العمل الصالح وتشيعه النية الصالحة.

 

فهل يبصر البعض من سيرة هذا الإمام الكبير، أن العلم النافع لا يثمر إلا العمل الصالح، وأن ذروة سنام العمل الصالح هو ما ينبهنا إليه صنيع الإمام البخاري حين كان قريباً من ثغر.

 

 رحم الله الإمام البخاري فقد قام في ثغره، أما اليوم فكم حولنا من ثغور خالية؟!. قال: وكان يركب إلى الرمي كثيراً فما أعلمني رأيته في طول ما صحبته أخطأ سهمه الهدف إلا مرتين فكان يصيب الهدف في كل ذلك وكان لا يُسبق!

 

دروس نفيسة للدعاة:

وكان لأبي عبد الله غريم قطع عليه مالاً كثيراً فبلغه أنه قدم آمل ونحن عنده بفربر فقلنا له ينبغي أن تعبر وتأخذه بمالك فقال: ليس لنا أن نروعه ثم بلغ غريمه مكانه بفربر فخرج إلى خوارزم فقلنا ينبغي أن تقول لأبي سلمة الكشاني عامل آمل ليكتب إلى خوارزم في أخذه واستخراج حقك منه فقال: إن أخذت منهم كتاباً طمعوا مني في كتاب ولست أبيع ديني بدنياي فجهدنا فلم يأخذ حتى كلمنا السلطان عن غير أمره فكتب إلى والي خوارزم فلما بلغ أبا عبد الله ذلك وجد وجداً شديداً وقال: لا تكونوا أشفق عليّ من نفسي وكتب كتاباً وأردف تلك الكتب بكتب، وكتب إلى بعض أصحابه بخوارزم أن لا يتعرض لغريمه إلا بخير فرجع غريمه إلى آمل وقصد إلى ناحية مرو فاجتمع التجار وأخبر السلطان بأن أبا عبد الله خرج من طلب غريم له فأراد السلطان التشديد على غريمه، وكره ذلك أبو عبد الله وصالح غريمه على أن يعطيه كل سنة عشرة دراهم شيئا يسيراً وكان المال خمسة وعشرين ألفا ولم يصل من ذلك المال إلى درهم ولا إلى أكثر منه. أين هذا الدرس الكبير مما يقوله بعض الدعاة اليوم: نستفيد منهم ويستفيدون منا - يعني السلاطين - ، والحقيقة أنك - أيها الداعية - إنما تصيب من مالهم فليس عندهم غيره يبذلونه لك، أما هم فيصيبون من دينك، فيخدشونه أو يصدعونه أو يفسدونه عليك، لأن دنياهم لا تلتقي مع الدين وأهواؤهم لا تستقيم مع الحق، وهذا في غالب الأحوال، فانظر - أقال الله عثرتك - بم خاطرت؟، نسأل الله - تعالى - السلامة والعافية. وقال محمد بن أبي حاتم سمعت الحسين بن محمد السمرقندي يقول: كان محمد بن إسماعيل مخصوصاً بثلاث خصال مع ما كان فيه من الخصال المحمودة كان قليل الكلام وكان لا يطمع فيما عند الناس. وقال سمعت سليم بن مجاهد يقول: ما بقي أحد يعلم الناس الحديث حسبة غير محمد بن إسماعيل، وسمعت سليماً يقول ما رأيت بعيني منذ ستين سنة أفقه ولا أورع ولا أزهد في الدنيا من محمد بن إسماعيل قال عبد المجيد بن إبراهيم ما رأيت مثل محمد بن إسماعيل: كان يسوّي بين القوي والضعيف.

 

كرمه وسماحته:

قال محمد بن أبي حاتم: كانت له قطعة أرض يكريها كل سنة بسبعمائة درهم فكان ذلك المكتري ربما حمل منها إلى أبي عبد الله قثاة أو قثاتين لأن أبا عبد الله كان معجباً بالقثاء النضيج وكان يؤثره على البطيخ أحيانا فكان يهب للرجل مائة درهم كل سنة لحمله القثاء إليه أحيانا. أحسبه بصنيعه هذا أنه كان لا يرى له على أحد من المسلمين فضلاً ولا منة، وهذا إنما يكون إذا أخلص العبد عمله لله لا يبتغي عليه من الناس جزاء ولا شكوراً.

 

أخلاق العلماء:

سمعت عبد الله بن محمد الصارفي يقول: كنت عند أبي عبد الله في منزله فجاءته جارية وأرادت دخول المنزل فعثرت على محبرة بين يديه فقال لها كيف تمشين؟ قالت: إذا لم يكن طريق كيف أمشي، فبسط يديه، وقال لها: اذهبي فقد أعتقتك، قال: فقيل له فيما بعد: يا أبا عبد الله أغضبتك الجارية، قال: إن كانت أغضبتني فإني أرضيت نفسي بما فعلتُ. تُرى هل كان الإمام - رحمه الله - يسعى لإكمال الإيمان بمثل هذا الخلق الرفيع والحِلم الكبير، عملاً بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: \"أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً\"، فإننا نكاد نقطع أن السنة التي عايشها لحظة بلحظة إلى أن وافاه الأجل طبعت سلوكه وشعوره حتى بلغ هذه المرتبة العالية من حسن الخلق. وكان كثير من أصحابه يقولون له: إن بعض الناس يقع فيك. فيقول إن كيد الشيطان كان ضعيفا ويتلو أيضاً ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله، فقال له عبد المجيد بن إبراهيم: كيف لا تدعو الله على هؤلاء الذين يظلمونك ويتناولونك ويبهتونك؟! فقال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - \"اصبروا حتى تلقوني على الحوض\" وقال - صلى الله عليه وسلم -: \"من دعا على ظالمه فقد انتصر\".

 

كان - رحمه الله - عالي الهمة، فقد فرّغ نفسه للعلم وواجبات الإيمان، ولقد أعانته همته العالية على الانتفاع بكل لحظة في عمره بما هو أزكى وأرفع، وأكثر بركة ونفعاً. لقد عاش في رحاب السنة وحلق في فضائها الرحيب، وعلا في أجوائها السامية فلم يطمع أحد من الحكام أن يمد يده إليه أو يستعمله في تحريك الجماهير بعيداً عن إدراك مصالحها في الدين والدنيا، ولم يسمح الإمام لأحد أن يلعب بورقة الخصومات التي فرضت نفسها على هامش من حياته الخاصة، فظل محلقاً عالياً بعيداً عن أطماع أهل الدنيا.

 

ليت هذا الدرس قد وعاه بعض من نجح أهل الدنيا في أن يستخدموه في إحداث صخب مزعج ومفسد في ساحة الدعوة والعلم، بالتصنيف المنفر والنقد المر لإخوانهم من أهل العلم، ولم يستفد من هذا الصخب إلا خصوم الدعوة، ليتهم يسألون أنفسهم بعدما هدأ الصخب، هل كان السبب في كبوتنا نقص العلم أو ضعف الإخلاص، غفر الله لنا ولهم الزلات، وبصرنا وإياهم بمواقع العثرات. يقول الإمام الذهبي عنه: وكان لا يشتغل بأمور الناس، كل شغله كان في العلم. رحم الله الإمام البخاريº لقد كان إماماً في الأخلاق والسلوك كما كان إماماً في العلم، ولا عجب فإن السنة هي النبع الصافي الذي يستقى منها رفيع السلوك وروائع الأخلاق، أجل، ألم يشهد الله - تعالى - لصاحب السنة ومعلم الهدى - صلى الله عليه وسلم - بعظيم الخلق وكمال الشمائل وإنك لعلى خلق عظيم. ولهذا وقف الحكماء والدارسون أمام روعة الجانب الأخلاقي في حياة الإمام البخاري وقفة إكبار لا تقل عن وقفتهم أمام إمامته في العلم، لإدراكهم أن الجانب العلمي ملازم للجانب العملي، لا ينفك عنه إلا إذا فقد العالم صدقه، وذهب عن العلم بركته.

 

مثال لثبات العلماء، وعدم إذعانهم للعامة:

سئل محمد بن إسماعيل بنيسابور عن اللفظ فقال حدثني عبيد الله بن سعيد يعني أبا قدامة عن يحيى بن سعيد وهو القطان قال: أعمال العباد كلها مخلوقة فمرقوا عليه وقالوا له بعد ذلك: ترجع عن هذا القول حتى نعود إليك، قال: لا أفعل إلا أن تجيئوا بحجة فيما تقولون أقوى من حجتي. قال يحيى: وأعجبني من محمد بن إسماعيل ثباتُه. وقال القاسم بن القاسم: سمعت إبراهيم ورّاق أحمد بن سيّار يقول: لما قدم البخاري مرو استقبله أحمد بن سيار فيمن استقبله فقال له أحمد يا أبا عبد الله نحن لا نخالفك فيما تقول ولكن العامة لا تحمل ذا منك فقال البخاري: إني أخشى النار  أُسأل عن شيء أعلمه حقاً أن أقول غيره فانصرف عنه أحمد بن سيار. وفي محنته..

 

معالم على طريق الدعوة:

لما سئل - رحمه الله - عن القرآن أجاب بقول أهل السنة: \" القرآن كلام الله غير مخلوق، وأعمالنا مخلوقة، وقال: وألفاظنا من أعمالنا \" فروى أحمد بن منصور الشيرازي قال سمعت بعض أصحابنا يقول لما قدم أبو عبد الله بخارَى نصب له القباب على فرسخ من البلد واستقبله عامة أهل البلد حتى لم يبق مذكور إلا استقبله ونثر عليه الدنانير والدراهم والسكر الكثير فبقي أياما. قال: فكتب بعد ذلك محمد بن يحيى الذهلي إلى خالد بن أحمد أمير بخارى: إن هذا الرجل قد أظهر خلاف السنة، فقرأ كتابه على أهل بخارى فقالوا: لا نفارقه فأمره الأمير بالخروج من البلد فخرج.

 

قال أحمد بن منصور: فحكى لي بعض أصحابنا عن إبراهيم بن معقل النسفي قال: رأيت محمد بن إسماعيل في اليوم الذي أخرج فيه من بخارى فتقدمت إليه فقلت: يا أبا عبد الله، كيف ترى هذا اليوم من اليوم الذي نثر عليك فيه ما نثر؟ فقال: لا أبالي إذا سلم ديني قال فخرج إلى بيكند فسار الناس معه حزبين حزب معه وحزب عليه. أجل.. إن من عزّ عليه دينُه هانت عليه نفسه. فكم فينا من غلت عليه نفسه وعزت، ورخص عليه دينه وهان؟! كل ذي نعمة محسود..

 

وقال أبو سعيد حاتم بن أحمد الكندي سمعت مسلم بن الحجاج يقول لما قدم محمد بن إسماعيل نيسابور ما رأيت والياً ولا عالماً فعل به أهل نيسابور ما فعلوا به استقبلوه مرحلتين وثلاثة فقال محمد بن يحيى في مجلسه من أراد أن يستقبل محمد بن إسماعيل غداً فليستقبله فاستقبله محمد بن يحيى وعامة العلماء فنزل دار البخاريين فقال لنا محمد بن يحيى لا تسألوه عن شي من الكلام فإنه إن أجاب بخلاف ما نحن فيه وقع بيننا وبينه ثم شمت بنا كل حروري وكل رافضي وكل جهمي وكل مرجىء بخراسان قال فازدحم الناس على محمد ابن إسماعيل حتى امتلأ السطح والدار فلما كان اليوم الثاني أو الثالث قام إليه رجل فسأله عن اللفظ بالقرآن فقال أفعالنا مخلوقة وألفاظنا من أفعالنا فوقع بينهم اختلاف فقال بعض الناس قال لفظي بالقرآن مخلوق وقال بعضهم لم يقل حتى تواثبوا فاجتمع أهل الدار وأخرجوهم.

 

عزة العالم.. وإكرام حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -:

قال غنجار في تاريخه: بعث الأمير خالد بن أحمد الذهلي والي بخارى إلى محمد بن إسماعيل أن احمل إليّ كتاب الجامع والتاريخ وغيرهما لأسمع منك فقال لرسوله أنا لا أذل العلم ولا أحمله إلى أبواب الناس فإن كانت لك إلى شيء منه حاجة فاحضر في مسجدي أو في داري وإن لم يعجبك هذا فإنك سلطان فامنعني من المجلس ليكون لي عذر عند الله يوم القيامةº لأني لا أكتم العلم لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - \" من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار \".. فكان سبب الوحشة بينهما هذا!

 

وقال الحاكم: وكان محمد بن إسماعيل ورعاً يتجنب السلطان ولا يدخل عليهم.

عبرة وكرامة: يزول الملوك ويبقى الحق قال الذهبي: خالد بن أحمد الأمير قال الحاكم: له ببخارى آثار محمودة كلها إلا موجدته على البخاري فإنها زلة وسبب لزوال ملكه.

 

وفاته:

حين تضيق الأرض على أهل الحق.. قال ابن عدي سمعت عبد القدوس بن عبد الجبار السمرقندي يقول: جاء محمد بن إسماعيل إلى خرتنك قرية على فرسخين من سمرقند وكان له بها أقرباء فنزل عندهم فسمعته ليلة يدعو وقد فرغ من صلاة الليل اللهم إنه قد ضاقت عليّ الأرض بما رحبت فاقبضني إليك فما تم الشهر حتى مات وقبره بخرتنك، وكانت وفاته سنة 256هـ.

 

وللعلماء المجاهدين كرامات. قالوا: فلما دفناه فاح من تراب قبره رائحة غالية أطيب من المسك فدام ذلك أياماً ثم علت سواري بيض في السماء مستطيلة بحذاء قبره فجعل الناس يختلفون ويتعجبون.

 

وقال محمد بن محمد بن مكي الجرجاني سمعت عبد الواحد بن آدم الطواويسي يقول رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في النوم ومعه جماعة من أصحابه وهو واقف في موضع فسلمت عليه فرد علي السلام فقلت ما وقوفك يا رسول الله قال أنتظر محمد بن إسماعيل البخاري فلما كان بعد أيام بلغني موته فنظرت فإذا قد مات في الساعة التي رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها. وحدّث البلخي بقصة ذهاب عينه في صغره فقال: ذهبت عينا محمد بن إسماعيل في صغره فرأت والدته في المنام إبراهيم الخليل - عليه السلام - فقال لها يا هذه قد رد الله على ابنك بصره لكثرة دعائك قال: فأصبحنا وقد رد الله عليه بصره. ولبعضهم في مدح الصحيح:

 

صحيح البخاري لو أنصفوه *** لما خُط إلا بماء الذهب

 

هو الفرق بين الهدى والعمى *** هو السد بين الفتى والعطب

 

أسانيد مثل نجوم السماء *** أمامَ متونٍ, كمثل الشهُب

 

به قام ميزانُ دينِ الرسول *** ودانَ به العُجم بعد العرب

 

حجاب من النار لا شك فيه *** تميز بين الرضى والغضب

 

وستر رقيق إلى المصطفى *** ونص مبين لكشف الريب

 

فيا عالما أجمع العالمون على *** فضل رتبته في الرتب

 

سبقت الأئمة فيما جمعت *** وفزت على رغمهم بالقصب

 

نفيت الضعيف من الناقلين *** ومن كان متهما بالكذب

 

وأبرزت في حسن ترتيبه *** وتبويبه عجبا للعجب

 

فأعطاك مولاك ما تشتهيه *** وأجزل حظك فيما وهب

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply