بسم الله الرحمن الرحيم
التخلص من مظاهر عدم الجدية:
ومن أخطر تلك المظاهر: الرضا بالظواهر والشكليات، ونسيان القلب والأعمال، فليس جل الدين في اللحية والقميص القصير والنقاب، إنها من شعائر الإسلام، وينبغي علينا أن نلتزم بها، لكن لأنَّ هذه السنن صارت شعارًا لأهل الإيمان ومعشر الملتزمين في هذا الزمان، فلا شك تسرب بينهم من ليس منهم، واكتفى بهذه الأمور، ومن هنا عدنا نقول: الملتزم هو الصوَّام القوَّام، الملتزم هو القائم بالقسط، الملتزم هو من خلا بيته من المنكرات، من يتفقه في دينه، من يفهم عن ربه، من يعمل في تزكية نفسه، هذه هي المعايير، ومن ابتعد عن هذا فليس من الملتزمين، فقف لتحاسب نفسك.
إنني أسأل: منذ أن التزم الواحد ماذا حصَّل من العلم الشرعي الذي زاده قربًا إلى ربه؟ ماذا حصَّلت من العقيدة؟ ماذا درست في الفقه؟ كم كتاب قرأت؟ وعلى من تعلمت؟ هل تجيد قراءة القرآن الذي هو فرض عين عليك؟ كم حفظت منذ أن التزمت من القرآن؟ ما أخبار قيام الليل وصيام النهار والمحافظة على الأذكار؟
أيها الأخ الحبيب.. ينبغي أن يكون الفرق بينك الآن وبين أيام الجاهلية شاسعًا، لابد أن تتغير جذريًا، فاللسان يلهج بالذكر، والعين تبكي خشية لله، القدم تتورم من القيام، قلبك لا تجده إلا في دروس العلم، أذنك تعودت على سماع القرآن وهجرت الموسيقى والغناء.
أين الإخلاص؟! أين حملة الدين؟ أما رأيتم الرويبضة وهم يمرقون من الدين، إن هؤلاء ما تجرأوا على الدين إلا بسبب تقصيرنا؟ تقصير في طاعة الله، تقصير في الدعوة إلى الله، والواحد منَّا جل ما يصنع أن يقول: أنا مقصِّر، ادعُ الله لي!!. مقصر!! فلابد من علاج، فليس الأمر أن تتهم نفسك في العلن، ثمَّ لا يتبع ذلك ندم وتوبة.. نحن لا نيأس من رحمة الله، والله وعدنا إن أصلحنا من أنفسنا أن يغير ما نحن فيه من غربة، فالأمل سيظل معقودًا أبدًا، والمستقبل للإسلام، وإن كره الملحدون والكافرون، والتمكين للدين آتٍ, بإذن الله، نسأل الله أن يمكن لدينه في الأرض.
زيادة الطاعات وعدم الاغترار بالعمل اليسير: معتقد أهل السنة والجماعة أنَّ الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فإن لم يكن يزيد فإنه ينقص. أريد أن يزيد إيمانك كل يوم، تقرب إلى الله بما تستطيع، ولا تغتر بالعمل اليسير، ولا تكثر التشدق بالإنجازات، لأنَّ هذا قد يورث العجب والفرح بالعمل والاشتغال بالنعمة عن المنعم، فقد تجد أن الأخ إذا وجد نفسه مقيمًا للصلوات في الجماعة، وقام ليلة أو ليلتين، ظن نفسه من أولياء الله الصالحين، وهذا قد يبتلى بترك العمل، لأنه لم يشكر النعمة وإنما نسب الفضل لنفسه، ولذلك كان المؤمنون هم أكثر الناس وجلًا، فليس الشأن في العمل وإنما في قبوله، قال - تعالى -:{ وَالَّذِينَ يُؤتُونَ مَا ءَاتَوا وَقُلُوبُهُم وَجِلَةٌ أَنَّهُم إِلَى رَبِّهِم رَاجِعُونَ[60]}[سورة المؤمنون]. فالاغترار بالعمل اليسير، وكثرة الكلام عن الأعمال التي يقوم بهاº دليل أنه لن يكمل، ولن يتم فاستر نفسك، قال الإمام ابن القيم في مدارج السالكين: ولله در أبي مدين حيث يقول: ومتى رضيت نفسك وعملك لله، فاعلم أن الله عنك غير راضٍ,، ومن عرف نفسه وعرف ربهº علم أن ما معه من البضاعة لا ينجيه من النار، ولو أتى بمثل عمل الثقلين .
نعم الذي يرى نفسه مؤمنًا خالصًا فهذا معجب مغتر بنفسه، لابد أن ترى دائمًا نفسك بعين النقص والعيب، ولا تأمن، فإنَّ إبراهيم الخليل - عليه السلام - لم يأمن على توحيده، بل ابتهل إلى ربه وقال:{ وَاجنُبنِي وَبَنِيَّ أَن نَعبُدَ الأَصنَامَ[35]}[سورة إبراهيم].
عدم التسويف: فمن مظاهر عدم الجدية في الالتزام: كثرة الوعود والأماني مع التسويف، فتجد المرء منَّا يمني نفسه، تقول له: احفظ القرآن، فيقول: سأحفظ إن شاء الله عندما أجد الوقت. وبطبيعة الحال لا يجد الوقت فهو مهموم دائمًا، يقول: عندما أنتهي من الدراسة سأتعلم العلم الشرعي، وأتفرغ للدعوة إلى الله، ثمَّ تنتهي فيبدأ في البحث عن العمل، ثمَّ يقول: لابد أن أتزوج، فيظل مهمومًا بأمر الزوجة والبحث عنها، ثمَّ يجدها فيهتم بأمر الشقة وتجهيز المنزل، ثمَّ يتزوج فيبدأ في السعي لتحسين وضعه الاجتماعي، ثمَّ يرزق بالأولاد فيظل مهمومًا بأمورهم هكذا دواليك. والعجيب أنّك قد تجد رجلًا من هؤلاء في النهاية قد رضي بهذا الضنك، ويقول: هذه سنة الحياة!! سنة الحياة أن تهجر الطاعات من أجل الهوى والشهوات!! بسيف التسويف قُتل أناس كثيرون، فالتسويف رأس كل فساد، فمن أجَّل الطاعات لغد وبعد غد لا يلبث أن يتركها بالكلية، فالشيطان يسول له، ويمنيه، ويغريه بطول الأمل، والموت يأتي بغتة، والقبر صندوق العمل.
* فالحذر الحذر من التسويف، وطول الأمل، قبل فجأة الموت، وحسرة الفوت:
يا من تعمل في أعمال محرمة، إياك أن تسوِّف، فقد تموت قبل أن تتخلص منه، هيا الآن، لا تؤجل، لا تعطل، واتخذ هذا القرار الحاسم في حياتك فهذا دليل توبتك حقًا، لا أن تتشدق بالأوهام.
يا من يريد حفظ القرآن قل: سأبدأ حفظ القرآن اليوم، كل يوم ربع أو ربعين، وتلزم نفسك بذلك إلزامًا صارمًا، ولا تتهاون في عقاب نفسك إن قصرت، وإلا فستصبح من أصحاب المظهرية الجوفاء الذين يكثرون من الوعود والأماني.
أخذ الدين بشموليته: فمن مظاهر عدم الجدية في الالتزام الاكتفاء ببعض الجوانب في الدين دون الشمولية، وقد قال الله:{ يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ادخُلُوا فِي السِّلمِ كَافَّةً...[208]}[سورة البقرة]. فكثير من الملتزمين يلتزم ببعض الجزئيات التي أحبها في الدين، وقد يكون ذلك هوى، فليس الهوى في فعل المحرمات، بل وفي فعل الطاعات أيضًا.
فملاحظة الشمولية في الدين أمر ضروري، فإنني أريدك متكاملاً في جانب العبادة: صوّام قوّام ذكّار لله، تتلو القرآن فتصبح ذا شخصية متألهة متنسكة، وعلى الجانب العلمي فأنت طالب علم مجتهد، حافظ للقرآن، ذو عقل وفكر نير واستيعاب شامل، وفي الجانب الدعوي فنشاط متقدم، سرعة واستجابة، وعدم رضا بالواقع، وتفكير متواصل في الطرق الشرعية لتحويل وتغيير مجرى الحياة، ذو تأثير ملحوظ في المحيط الذي تعيش فيه، كما قال الله - تعالى - في وصف نبيه عيسى - عليه السلام -:{وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَينَ مَا كُنتُ...[31]}[سورة مريم].هذه هي الشخصية التي نبحث عنها، هؤلاء هم الرجال الذين يحق أن يمكن لهم في الأرض.
أما الرضا ببعض جوانب الدين، وتقسيم الدين إلى لباب وقشور، فهذه بدعة منكرة جرت من ورائها تنازلات كثيرة، وشقت الصف لا جمعته، تجد بعض الشباب رضي بالجانب العلمي وترك باقي الجوانب، تقول لأحدهم: لماذا لا تقوم الليل؟ فيقول: طلب العلم يستحوذ على كل وقتي.
وأنا أعجب من هذه التفرقة التي لا أصل لها، من قال أنَّ علماء السلف تركوا الاجتهاد في العبادة والدعوة من أجل طلب العلم؟!
وتجد آخرين لا همَّ لهم إلا الدعوة، يتجولون على الناس لدعوتهم وربطهم بالمساجد- وهذا في حد ذاته جيد- لكن دعوة بدون علم، هذا سرعان ما ينقلب على عقبيه، لأنه لم يفهم دينه، فربما يستجيب مرة أو مرتين بسيف الحياء، أو بفعل تحمس مؤقت، ثمَّ بعد ذلك لا تجده.وآخرون ارتضوا من الدين بالعبادة فلا تعلموا ولا دعوا، فمن أين لهؤلاء بهذا؟!!الدين كلُُ واحد، لا يصلح فيه الترقيع:{...ادخُلُوا فِي السِّلمِ كَافَّةً...[208]}[سورة البقرة]. أي: جملة واحدة بجميع جوانبه.ولابد أن توزع طاقاتك من أجل خدمة هذه الجوانب الثلاثة: علم وعمل ودعوة، ومتى ضاع منك الوقت دون أن تثمر شيئًا في هذه الجوانب فاعلم أنَّ هذا من الخذلان، وأنَّ هذا لا يكون إلا بكسبك، فينبغي أن تتوب سريعًا، وإلا فمن يدريك أن الموت لن يكون أسرع مما تتوقع، وعلى هذا نتعاهد ونتواصى، وليأخذ كل منكم بيد أخيه، فإنها النجاة.
التعاهد على الثبات حتى الممات: فمن مظاهر عدم الجدية: التفلت من الالتزام لأول عارض، فمن أول شبهة، أو أول وارد من شهوة يتفلت، وسرعان ما تتتابع التنازلات، مرة ترك النوافل، ثمَّ مرة ترك الجماعة، بدأ يترك رفقة الصالحين، وفي الملتزمات تجدها تتنازل يوم عرسها فتخلع الحجاب، لماذا؟ لأنه يوم الزفاف ولا حرج، أو تتنازل فتتزوج من غير الملتزمين، وهكذا، تبدأ في خلطة غير الملتزمات، تبدأ في مشاهدة التلفاز، تبدأ في الاختلاط بالرجال، ثمَّ لا تسل بعد ذلك أين هي الآن؟!
هذا ما يورثه الفتور وعدم الجدية، فبهذه النفسيات لا يمكن أن يمكن لنا، لذلك لابد من أن نقف على أرض صلبة، لابد أن نثبت على الدين وإن قويت الرياح، لا نتزعزع، لا تكن انهزاميًا.
بعض الإخوة إذا أصابه شيء من القهر يجزع سريعًا، وآخرون يقعون في أول اختبار في شهوة، فإذا فتحت عليه الدنيا شيئًا ماº نسي ما قدمت يداه، فأين الثبات على الدين؟ أين الاستقامة على شريعة رب العالمين؟
إنَّ هؤلاء الذين يتفلتون من الالتزام لأول عارض شبهة، أو أول وارد شهوة يضيعون قبل ورود العوارض والموارد، لأنهم مهيئون نفسيًا للوقوع والسقوط.
والعلاج هو اليقين، هو الثبات حتى الممات، هو العقيدة الصحيحة الصلبة، والمنهجية في العلم والعمل والدعوة، وهذا يحتاج إلى صبر وتحمل، ولا يكون ذلك كله إذا لم يخلص العبد في الاستعانة بربه - تبارك و تعالى - فالزم.
عدم إكثار الشكوى وتضخيم المشاكل: فمن مظاهر عدم الجدية في الالتزام: كثرة الشكوى وتضخيم المشاكل وإيجاد المبررات، فدائمًا أبدًا شكاء، لا يرضى، وكل مشكلة صغيرة يضخمها، وهذا من البطالة وعدم الجدية.. وآخر صاحب منطق تبريري، فلا يريد أن يواجه نفسه ويلقي باللائمة عليها، بل يتذرع ويعلل ويبرر، وهو يدري أنَّه على غير الحق.
ومنهم: من إذا التزم بالدين صار عالة على الدعاة، ولسان حاله يقول: أنا صنعت ما قلتم لي، فعليكم أن توجدوا لي الحلول لكل مشكلاتي، وهل لما التزمت التزمت من أجل فلان وفلان أم ابتغاء وجه رب العالمين؟!
إن كثرة الشكوى وتضخيم المشاكل وإيجاد المبررات سبيل للنكوص ولابد، واستصحب دائمًا هذه النصيحة النبوية الذهبية: [...وَاستَعِن بِاللَّهِ وَلَا تَعجَز...] رواه مسلم. [وَاعلَم أَنَّ الأُمَّةَ لَو اجتَمَعَت عَلَى أَن يَنفَعُوكَ بِشَيءٍ, لَم يَنفَعُوكَ إِلَّا بِشَيءٍ, قَد كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَو اجتَمَعُوا عَلَى أَن يَضُرٌّوكَ بِشَيءٍ, لَم يَضُرٌّوكَ إِلَّا بِشَيءٍ, قَد كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيكَ رُفِعَت الأَقلَامُ وَجَفَّت الصٌّحُفُ] رواه الترمذي وأحمد.
نصيحة أخيرة:
إننا نحتاج إلى إخوة جادين في كل شئون حياتهم، تبدو عليهم تلك السمات في أفعالهم، جادين في تفكيرهم، الهمّ الأول عندهم هو الدين، ثمَّ تأتي سائر الهموم بعد ذلك، فلا شيء يقدم على دين الله.
فابدأ من الآن إجراء هذه العملية الضرورية، عملية تطهير للأفكار، نريد جدية في الاهتمامات، إن بعضنا يكاد يقتل نفسه من كثرة التفكير، يفكر في وضعه بين الناس، كيف يفكر الناس فيه؟! ماذا يقول الناس عنه؟! ولعله لم يخطر للناس على بال، ولو شغل نفسه بحاله مع الله لكفاه، حينئذٍ, عليك أن تردد في نفسه: ماذا أنت فاعل بي يا غفار الذنوب؟ وما اسمي عندك يا علام الغيوب؟
لا تهتم كثيرًا بالناس، فأصلح ما بينك وبين رب الناسº يكفك أمر الناس.
تجد بعضهم يقع في مشكلات نفسية وعندما تفتش عن الأسباب تجدها أمور تافهة، وهذا حال أهل البطالة سافلو الهمة، فإنَّ النفوس العلوية لا تنظر لمثل هذه السفاهات، وإلا أخلَّ ذلك بها، لكنه فراغ القلب من الله.
أما أهل الهمة العالية، والجادون في التزامهم فإنهم مشغولون بأمور أخرى، مشغول بحفظ القرآن، بالدعوة إلى الله، بكيفية إصلاح فساد قلبه، مشتاق لسجدة يقبلها الله منه، مشتاق لتسبيحة يشعر معها بحلاوة الإيمان، هذا شأن عباد الله الصالحين، فمن أي الفريقين أنت؟!
هذه ـ إذًا ـ قضيتك الأولى، هل أنت ملتزم أم لا؟ هل اعتاد لسانك الذكر فصار رطبًا منه؟ هل اعتادت جوارحك القيام بأداء حقوق الله فصرت تشعر بالوحشة إذا لم تؤدِ شيئًا يسيرًا منها؟ إنَّه إدمان الطاعة، حينها تجد الرجل يقول: الصلاة صارت تجري في دمي، لا أستطيع أن أترك ورد القرآن، أشعر بأنِّي لا أتمالك نفسي، وهكذا ساعتها تعيش الإسلام لأنه يعيش فيك، فتحفظ من التفلت والانتكاس.
أخيرًا: عليكم بالاقتصاد في الهزل والمزاح: فلقد صار الهزل وكثرة الضحك شعار الشباب في هذه الأيام، وليست المشكلة في الدعابة اليسيرة، والمزاح القليل الذي لا يخرج عند حدود الأدب، وإنما في هذا الإفراط والمبالغة حتى أن بعض الشباب يقلب أكثر المواقف جدية إلى هزل وفكاهة، والذي لا يصنع هكذا يتهم بأنه مصاب بالجمود والانغلاق …الخ
آهٍ, … للأسف الشديد ونحن في ذلة وصغار واستضعاف صرنا نعبث ونلهو حتى كأن العصر هو عصر الهزل، والآن هناك أماكن مخصصة للضحك، مسرحيات بالساعات للضحك واللهو والعبث، وكل ذلك بالكذب.
أين الجد في حياتنا يا شباب الإسلام؟ الذي يحلق ببصره ويطوف شرقًا وغربًا ليرى حال المسلمين لا يمكن أن يكون هذا حاله!
اسأل الله العلي الكبير أن تكون هذه الرسالة سبيلاً للمؤمنين للرجوع إلى الجادة، ونفض هذا الغبار الذي لطخهم، لنتعاون سويًا لنصرة دين الله - تعالى -.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد