ثانيًا: واقع المسلمين ورصد للظواهر السلبية:
الخلل في التكوين الاعتقادي السليم : من أخطر الظواهر في حياة المسلمين اليوم:\' الخلل الاعتقادي\' فتجد عقائد فاسدة، وإيمان متذبذب، وعقيدة يتشدق بها كثيرون ولا أثر لها في الواقع، وشركيات خطيرة يقع فيها السواد الأعظم من المسلمين، فلا زلنا نعاني من \' شرك القبور\' ولا زلنا نسمع في شوارع المسلمين سبًا لله وللرسول وللدين، ولا يزال شرع الله مهمشًا لا يتحاكم إليه في أغلب بلاد المسلمين، أمَّا الولاء والبراء فحدِّث ولا حرج، فنوالي للمصلحة الشخصية والانتماء القومي وإن كان من أشد أعداء الدين، ونعادي من لا يوافقنا في طريقتنا، ومن يخالف مصالحنا وإن كان من أولياء الله الصالحين .
إنَّه غياب الوعي بحقيقة التوحيد، فليس المهم أن تلمَّ بصورة التوحيد فحسب، بل أن تعي حقيقة التوحيد فينتج هذا الوعي إيمانًا قلبيًا راسخًا تصدقه الأعمال الصالحة الظاهرة، والخلل في هذا الجانب هو السبب الحقيقي وراء هذه الظاهرة الخطيرة .
المسلم المعاصر يواجه تحديًا عقديًا رهيبًا، وتيارات عاصفة من الشبهات، وليس ثمَّ سبيل سوى أن يعي المسلم حقائق الحياة بصورة صحيحة، فتتفتح أمامه منافذ البصر والبصيرة، وحوافز العمل والتحديº ليكون أقدر على الثبات في مجال الصراع و الإغراء 0
هذا الوعي المنشود يجعل المسلم يفهم معنى الإيمان و حقائق الإسلام فيرتبط العمل بمرضاة الله، ويقيم المسلم سلوكه على هدى شريعة الله، و يهذب المسلم عواطفه حتى لا يندفع في حب الفتنة و مظاهر الفساد، فالوعي ميزة مهمة للأمة تنمو بنمو الإيمان و عمقه في نفس المسلم، و تزداد بتزايد يقظة الوجدان الذي يراقب الله سبحانه، و يظل ينظر إلى يوم الدين و يحسب حساب الآخرة،و تتوسع مع توسع العلم والمعرفة والتجربة،
ولتدارك هذا الخلل لابد من رصد الأسباب التي أدت إليه.
أسباب الخلل الاعتقادي في المجتمع الإسلامي:
الغزو الثقافي و تيارات التبشير والتغريب: فمنذ فشل الحملات الصليبية تغيرت استراتيجية الصراع بين الغرب الكافر والشرق الإسلامي، وتحول إلى الميدان الثقافي والفكري . وقد ظهرت وثيقة خطيرة للويس التاسع ملك فرنسا وقائد الحملة الصليبية الثامنة التي منيت بالفشل، أشار فيها: إلى أنَّه لا سبيل إلى النصر على المسلمين عن طريق القوة الحربيةº لأنَّ تدينهم بالإسلام يدفعهم إلى المقاومة والجهاد صونًا لدينهم وأعراضهم، وأنَّ السبيل الناجع هو: تطوير التفكير الإسلامي، وترويض المسلمين عن طريق الفكر بدراسة ثقافتهم على يد العلماء الأوربيين ليأخذوا منها السلاح الذي نغزو به المسلمين مستقبلاً . وتبنى هذا الاتجاه جماعة من المستشرقين والمبشرين، وعمد هؤلاء إلى تشكيك المسلمين في دينهم، وإبعادهم عن مبادئه، وتفتيت وحدتهم، وتهيئة أذهانهم لقبول الفكر الغربي تمهيدًا للغزو العسكري .
وانتشرت البعثات التبشيرية في أرجاء العالم الإسلامي ورصدت لها المليارات من الدولارات، وافتتحت المدارس التبشيرية في كل مكان، وشجعت البعثات العلمية من أبناء الدول الإسلامية إلى الدول النصرانية الغربية، وعقدت المؤتمرات التبشيرية ووضعت المخططات، وإذا كان التبشير لم ينجح في تنصير المسلمين فإنَّه ساعد على تخلي المسلمين عن عقائدهم ومبادئ دينهم، وخلق أجيالاً مستهترة بالقيم الدينية، وهذا هو الهدف الأساسي الذي سعى له الغرب، يقول القس زويمر في مؤتمر للمبشرين:\' مهمة التبشير التي ندبتكم دول النصرانية للقيام بها في البلاد المحمدية، ليس هو إدخال المسلمين في النصرانية، فإنَّ في هذا هداية لهم وتكريمًا، وإنما مهمتكم أن تخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقًا لا صلة له بالله\'[\'المخططات الاستعمارية\' محمد الصواف ص217].
وعلى نفس المنوال سارت حركة الاستشراق، فعملت على تشويه صورة الإسلام وحجب محاسنه عن الشعوب النصرانية للحيلولة بينهم وبين الدخول فيه، وعمدوا إلى تفتيت الوحدة الإسلامية، وتحطيم المقاومة ـ كما هو الحال اليوم ـ وقاموا بتثبيط همة المسلمين، وصرف أنظارهم إلى متع الحياة ليشتغلوا بها عن الجهاد في سبيل الله ودفع الغزاة، وقاموا بدراسة الشخصية الإسلامية بقراءة متعمقة في تراث المسلمين، وعملوا على إضعاف روح الإخاء الإسلامي بين المسلمين في مختلف الأقطار .
ومن بعدها تفشت تيارات التغريب في البلاد الإسلامية، ودعوا إلى أن يسير المسلمون سيرة الغربيين ويسلكوا مسلكهم في حياتهم بالفكر الغربي بكل نظمه وتقاليده وعاداته وتصوراته، وعمدت تلك التيارات إلى زعزعة الثقة بين الشباب المسلم في دينهم، والزعم بأنَّ تخلف المسلمين من جراء اعتقاداتهم البالية، فركزوا جهودهم في تفريغ العقل والقلب المسلم من القيم الإسلامية المستمدة من التوحيد والإيمان بالله، ودفع هذه القلوب عارية أمام عاصفة هوجاء تحمل معها السموم عن طريق التعليم والصحافة والكتابة، والسينما والمسرح وبيوت الأزياء، وللأسف نجحوا في ذلك إلى حد بعيد، ومن ثمَّ خرج هذا الجيل المنهزم نفسيًا، والذي حمل معول الهدم في صرح المجتمع الإسلامي، وسار بالأمة تحت شعارات فارغة كالتقدم والمدنية والحضارة، ولا هي تقدمت ولا هي تمدنت وإنَّما صارت بلا هوية، فلا دين ولا ثقافة ولا علم، وإنَّما تبعية للغرب الكافر .
انتشار العقائد الفاسدة على يد المبتدعة:فمن ذلك: انتشار\' عقيدة الجبر\' رغم بعدها عن عقيدة الإسلام الصافية، وكان انتشار هذه الفكرة بين المسلمين في عصور الانحطاط والبعد عن صفاء الاعتقاد الذي كان عهد السلف الصالح، وأدى ذلك لإشاعة روح التواكل والكسل، والقعود عن العمل، وأنت لا زلت تسمع من عامة النَّاس: أننا مسيرون لا مخيرون .
ومن ذلك: انحراف التصوف ونشره للبدع، لاسيما في عصر التصوف الفلسفي ورواج مذاهب \' وحدة الوجود \' و \' الحلول والاتحاد \' و\'فكرة الظاهر والباطن \' و\'إسقاط التكاليف الشرعية \' وهي الأفكار التي لا زال كثير من المسلمين يؤمن بها، فأنت تراهم يصورون الحلاج المقتول ردة على أنَّه شهيد الاستبداد، ولا زالوا يعظمون من قدر شخص كابن عربي القائل بوحدة الوجود، ويرى الساسة إلى يومنا هذا أنَّ الصوفية أفضل التيارات والاتجاهات الإسلامية لأنَّها تدعو إلى التعامل مع الأحداث بسلبية، وتدعو للتواكل، وعلى كلٍ, فقد نبتت البدع والخرافات، وظهرت الطرق الصوفية التي انحدرت إلى هوة سحيقة، ولا تزال البلاد الإسلامية تشهد أنواعًا من الشرك العلني بتعظيم قبور الصالحين، والتوسل إليهم، وشد الرحال إلى قبورهم .
انتشار الجدل الكلامي: فمع ظهور الفرق كالخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية ونحوهم، دار جدل كبير حول مسائل الاعتقاد، شغل المسلمين بمشاكل عقدية مزعومة، وصار هناك من يرى أنَّ عقيدة السلف أسلم وعقيدة الخلف أعلم!
انحراف رجال الدين وانفصام العمل عن العلم: الأمر الذي أذاع روح الشك في صدور كثير من المسلمين، وجعلهم يعيدون النظر في كل شيء،حتى في معتقداتهم، فقد ظهر بين علماء المسلمين من يقول ما لا يفعل، ومن صار الدين عنده كجملة الصناعات التي يتكسب من ورائها، فانحرفوا عن روح الإسلام، وفصلوا بين العقيدة والعمل، وانصرفوا إلى الجدل، والمناقشة في الجزئيات والفروع، وتملق الولاة والحكام، وجعلوا الدين مطية للدنيا .
القهر واستبداد بعض الحكام: لا شك أنَّ الضرب بيد من حديد للاتجاهات الدينية كان من شأنه الحيلولة بين كثير ممن يودون الالتزام بشريعة الإسلام وبين دينهم، فتربى الكثير على المداهنة، وإيثار السلامة، والخوف من كل ما سوى الله، وركب آخرون الموجة فباع دينه موالاة للطغاة، ويوالى أعداء الله تعالى، ويتأول الدين لأهواء الأمراء، ومن شأن هذا أن يحدث خللا عميقًا في البناء الاعتقادي للمجتمع، لأنَّ اليقين يتزعزع.
هذا غيض من فيض من جملة الأسباب التي تسببت في إحداث الخلل في البناء الاعتقادي للأمة الإسلامية .
الأمل المنشود في إعادة البناء الاعتقادي السليم : نحتاج أن يوجد فينا \'رجل العقيدة\' الشامخ بأنفه، المعتز بانتمائه لهذا الدين، الذي يعمل له آناء الليل وأطراف النهار، وإيجاد هذا النموذج الفريد يحتاج منَّا أن نعود للنبع الصافي الذي كان: عصر النبوة والخلافة الراشدة، ونربي أجيالنا القادمة كما ربى النبي أصحابه، نزرع فيهم اليقين برب العالمين، والعزة بهذا الدين، وننصب أمام أعينهم نماذج الأسوة والقدوة من سلفنا الصالح، نحصنهم بكتاب الله تعالى قراءة وحفظًا ومدارسة وتدبرًا، نجعل معينهم الذي لا ينضب من مشكاة سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، نعلمهم حب النبي و الصحابة، نربط قلوبهم استعانة وتوكلًا على الله .
◄ انظر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يربي ابن عمه:عبد الله بن عباس وهو بعد غلام صغير فيقول له في نصيحة غالية: [ يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ, احفَظ اللَّهَ يَحفَظكَ احفَظ اللَّهَ تَجِدهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلتَ فَاسأَل اللَّهَ وَإِذَا استَعَنتَ فَاستَعِن بِاللَّهِ وَاعلَم أَنَّ الأُمَّةَ لَو اجتَمَعَت عَلَى أَن يَنفَعُوكَ بِشَيءٍ, لَم يَنفَعُوكَ إِلَّا بِشَيءٍ, قَد كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَو اجتَمَعُوا عَلَى أَن يَضُرٌّوكَ بِشَيءٍ, لَم يَضُرٌّوكَ إِلَّا بِشَيءٍ, قَد كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيكَ رُفِعَت الأَقلَامُ وَجَفَّت الصٌّحُفُ] رواه الترمذي وأحمد . انظر إلى هذه التربية الإيمانية الخالصة:
[ احفَظ اللَّهَ] ربط القلوب بعلام الغيوب..مراقبة الله في السر والعلن:}وَاعلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُم فَاحذَرُوهُ...[235] {[سورة البقرة].. }إِنَّ السَّمعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلٌّ أُولَئِكَ كَانَ عَنهُ مَسئُولًا[36] { [سورة الإسراء].
امتثال الأوامر واجتناب المناهي، كمال الخضوع والذل والحب شرط ذلك، وهذا هو توحيد الألوهية .
[ يَحفَظكَ] الله ربك وخالقك، وشأن الرب أن يرعى ربيبه ويحفظه، فالله أحق بالتعظيم والمودة والإجلال والخضوع والذل من أبيك الذي يرعاك .. وهذا: توحيد الربوبية . والطريق موحشة، والزاد قليل، والصعاب كثيرة، فقل من ينجو، وليس إلا حفظ الله للعبد في دينه وإيمانه فيحفظه في حياته من الشبهات المضلة، ومن الشهوات المحرّمة، ويحفظ عليه دينه عند موته فيتوفاه على الإيمان . فتتعلم الناشئة صدق اللجأ والإخبات وهذه من أعمال القلوب .
[ احفَظ اللَّهَ تَجِدهُ تُجَاهَكَ] زرع محبة الله في القلوب، فالله ذو الجلال، له الأسماء الحسنى والصفات العلى، من تقرب منه شبرًا تقرب منه باعًا، ومن أتاه يمشي أتاه هرولة، فحري بك أن تحبه، وإذا أحببته أطعته وإذا أطعته لم يخذلك، فكن لله كما يريد يكن لك فوق ما تريد .. وهذا توحيد الأسماء والصفات .
[ وَاعلَم أَنَّ الأُمَّةَ لَو اجتَمَعَت عَلَى أَن يَنفَعُوكَ بِشَيءٍ, لَم يَنفَعُوكَ إِلَّا بِشَيءٍ, قَد كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَو اجتَمَعُوا عَلَى أَن يَضُرٌّوكَ بِشَيءٍ, لَم يَضُرٌّوكَ إِلَّا بِشَيءٍ, قَد كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيكَ رُفِعَت الأَقلَامُ وَجَفَّت الصٌّحُفُ] تحقيق عقيدة \' القضاء والقدر\' . يقول ابن رجب رحمه الله:\'مدار الوصية في هذا الحديث على هذا الأصل وما ذكر قبله وبعده فهو متفرع عليه وراجع إليه، فإنَّ العبد إذا علم أن لن يصيبه إلا ما كتب الله له من خير وشرّ ونفع وضرّ، وأن اجتهاد الخلق كلهم على خلاف المقدور غير مفيد البتةº علم حينئذ أن الله وحده هو الضارّ النافع، المعطي المانع، فأوجب ذلك للعبد توحيد ربه عز وجل، وإفراده بالطاعة، وحفظ حدوده، فإنَّ المعبود إنما يقصد بعبادته جلب المنافع ودفع المضار، ولهذا ذم الله من يعبد من لا ينفع ولا يضر، ولا يغني عن عابده شيئاً، فمن يعلم أنه لا ينفع ولا يضرّ، ولا يعطي ولا يمنع غير اللهº أوجب له ذلك إفراده بالخوف والرجاء والمحبة، والسؤال والتضرع والدعاء، وتقديم طاعته على طاعة الخلق جميعاً، وأن يتقي سخطه ولو كان فيه سخط الخلق جميعاً، وإفراده بالاستعانة به، والسؤال له، وإخلاص الدعاء له في حال الشدة وحال الرخاء، خلاف ما كان المشركون عليه من إخلاص الدعاء له عند الشدائد، ونسيانه في الرخاء، ودعاء من يرجون نفعه من دونه\'.
◄ أخي .. دينك دينك، فإن سلم لك دينك سلمت، فإنَّه لحمك ودمك، وإن تكن الأخرى فإنها نار لا تطفئ، ونفس لا تموت، إنَّك معروض على ربك ومرتهن بعملك، فخذ مما في يديك، لما بين يديك عند الموت، وعندها يأتيك الخبر.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد