الجدية في الالتزام 1-2


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 
لماذا دبَّ الوهن فينا؟ لماذا لا يعتقد أي منَّا أنه أهل لأن يمكن له؟ لماذا انتكس من انتكس؟ لماذا تولى من تولى؟ لماذا صرنا إلى نقصان بعد أن كنا في زيادة؟ … إنه داء الفتور في الالتزام .

أخي في الله:هل كنت:

تحفظ القرآن ثم تركت؟!

تقوم الليل ثم نمت؟!

ممن يطلب العلم ثم فترت؟!

ممن يعمل في الدعوة ثم تكاسلت؟!

هذا واقع مرير يمر به كثير من شباب الأمة:

فكم من أعمال بدأت ولم تتم بسبب مرض الفتور!

وكم من أعمال بمجرد أن بدأت ماتت وانتهت، وهي مازالت مشروعات على الأوراق!

وكم من أناس ما زال الفتور بهم، وتقديم التنازلات حتى وصل إلى ترك الدين بالكلية، والبعد عن الدين بالمرة، ونسيان الله بالجملة .

كم من أناس هم موتى اليوم، وهم لا يشعرون ولا يعلمون، هل هم أحياء أم ميتون؟!

إنَّ أكبر سبب من أسباب الفتور: هو فقدان الجدية، فأنت ترى الجدية واضحة عند كثير من المسلمين في طلب الدنيا، فهو إذا افتتح مصنعًا، أو شركة، أو نحو ذلك فإنه يبذل أقصى جهده، ويستولي هذا العمل على جهده ليلاً ونهارًا، فهو يعيش وينام لهذا العمل الدنيوي .. أما أهل الدين ففي الخذلان والكسل والتواني والإخلاد إلى الأرض والرغبة في الدعة والراحة – إلا من رحم الله - .

إخوتاه ..

إنني أتعجب من لاعبي الكرة كيف يبذلون جهدهم وطاقتهم إخلاصًا للكرة ! وهؤلاء الممثلون في إخلاصهم من أجل الشهرة ! ونفقد نحن هذا الإخلاص في الملتزمين بشريعة رب العالمين، فمن يعملون لأجل جنة عرضها السموات والأرض متكاسلون فاترون.. إنَّ أحدنا ليستحي من لاعب كرة يتدرب ويلعب ليل نهار، من أجل حطام الدنيا الفاني، وللأسف إنَّ أي طالب في الثانوية العامة يبذل جهدًا أضعاف أي طالب علم يطلب العلم لله !

يا شباب الإسلام .. إنه واقع مر يستوجب منا وقفات: لماذا يدب الوهن في قلوبنا؟ لماذا تفتر سريعًا عزائمنا؟ لماذا يولي بعضنا الأدبار عند أول صدمة؟!

والجواب: لأننا أخذنا ديننا بضعف، كانت لي محاضرة بعنوان: \' بين سحر الحواة ولعب الهواة ضاع الدين \' ضاع الدين لأن كثيرًا من شباب المسلمين حملوا هذا الدين هواية، كهواية لعب الكرة، فدخل الدين هواية، ونحن نواجه ملحدين وكفارًا محترفين، ولا يمكن للهواة أن يقفوا في وجه هؤلاء، فلابد من احتراف الدين .

إنني لا أطلب منك أن تترك دراسة الهندسة-مثلا- º لتطلب العلم الشرعي، وإنما أطالبك أن تكون مهندسًا محترفًا في أعمال الهندسة وإخضاعها للدعوة إلى الله، وخدمة الدين.. أن تكون تاجرًا ولكن عبدتّ المال لخدمة رب العالمين .

أسباب ضعف الالتزام :

عدم الجدية في أخذ الدين: لم نأخذ هذا الدين في الأصل بجد، بل دخلنا فيه هوى وهواية، وكثيرًا جدًا ما أطالبكم بأن يراجع كل منا نفسه: لماذا تصلي؟! يا من أعفيت لحيتك لماذا أعفيتها؟ لماذا قصرت ثوبك؟! لماذا تركت أشرطة الأغاني وأقبلت على سماع القرآن؟! لماذا خلا بيتك من الدش والفيديو والتليفزيون؟ لماذا اقتنيت مصحفًا؟ لماذا بدأت تقرأ القرآن؟ لماذا تحفظ القرآن؟ لماذا تحضر دروس العلم؟ لماذا لا تصاحب إلا مؤمنًا؟ ….لماذا .. لماذا؟ إن لم يكن كل هذا للهº فإنه مردود عليك، فيضمحل ويتلاشى ويتواري ويعود كأن لم يكن، قال تعالى:} وَقَدِمنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِن عَمَلٍ, فَجَعَلنَاهُ هَبَاءً مَنثُورًا[23]{ [سورة الفرقان]. لابد أن نمحص نياتنا على جمرات الإخلاص، ارجع وصحح نيتك فهذا هو الأصل .


الترف: والترف مفسدº إذ يتعلق قلب صاحبه بالدنيا، وللأسف الشديد إنَّ أكثر الأمة اليوم يعيش ترفًا غريبًا عجيبًا، فالفقراء يحاولون أن يفتعلوا الترف، ولو في بعض الأشياء، تجده لا يجد إلا قوته الضروري ولكنه يقتطع منه من أجل أن يقتني المحمول، ويشتري أفخر الأثاث، ويشتري أحدث الأجهزة، ليشتري الدش فيدخل الفساد على أهله ويقره في بيته دياثة، وهذا يقتطع من قوت أطفاله لكي يصيّف هنا أو هناك، والقائمة طويلة تعرفونها جيدًا، وإلى الله المشتكى .

ترف يخجل، فلأجل الله يَشِحٌّ ويبخل، ويقدم لك الاعتذارات لضيق الوقت وضيق ذات اليد و …الخ لكن للدنيا وللشهوات يحارب ويدبر ويفكر.. إنه التنافس على الدنيا، وكأنه لو لم يحصل هذه الأمور سيعيش في الضنك، وسيبلغ به الحرج المدى .

لا شك أنَّ الترف أفسد أبناءنا، فوجدنا فينا من يتفاخر يقول: أنا لا أجعل ابني في احتياج إلى شيء أبدًا فأنا ألبي له جميع طلباته ورغباته، ومثل هذا يظن أنه أحسن إلى ولده . ومن لا يستطيع أن يفعل ذلك يظل مهمومًا بهذه الرغبات من الأولاد والتي لا يستطيع أن يلبيها لهم، والحقيقة أنَّ هذا ليس من التربية في شيء، فأنت بذلك تفسد الولد، وليس من التربية أن تلبي جميع متطلبات أولادك فينشأ الواحد منهم عبد شهواته، كلما تاقت نفسه إلى شيء طلبه، فإنَّه إن لم يجده سيسرق ويزنى ويخون من أجل أن يحقق ما يشتهي .

إن لابنك حقًا أعظم من الدنيا، وهو أن تعلمه كيف ينجو من النار، قال الله تعالى:} يَاأَيٌّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا قُوا أَنفُسَكُم وَأَهلِيكُم نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ عَلَيهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُم وَيَفعَلُونَ مَا يُؤمَرُونَ[6]{ [سورة التحريم].

نحتاج إلى صفات \' الرجولة \' والرجل الحق لا يعرف الترف، قال عمر:\' اخشوشنوا فإنَّ النعمة لا توم\' .

ليسَ أمرُ المرءِ سهلاً كله إِنَّما الأمـرُ سهـولٌ وحزون

ربما قـرَّت عيونٌ بشجى مُرمضٍ, قد سخنت عنه عيون

تطلبُ الراحةَ في دارِ العنا خابَ من يطلبُ شيئاً لا يكون

إن الترف مفسد، وكثرة المال تلهى، والناس في هذا الزمان لا يطلبون ما يكفيهم، بل يطلبون ما يطغيهم، لا يكتفون بما يرضيهم بل يطلبون ما يعليهم، انظر لطلبة العلم الآن، فأكثرهم لم يختم القرآن حفظًا، فإذا سئلت لماذا لم تحفظ القرآن؟ فالجواب عادة: لأنني لا أجد الوقت . لماذا لا وقت عندك؟ لأنك تضيعه في طلب الدنيا، أو طلب شهوات النفس، أليس لله حق في وقتك، فاتقِِ الله .

رواسب الجاهلية: يدخل طريق الالتزام وفي داخلة نفسه رواسب من رواسب الجاهلية مثل: حب الدنيا، والاعتزاز بالنفس، والآمال الدنيوية العريضة، وعدم قبول النصيحة، وكثرة الأكل، وكثرة النوم، وكثرة الكلام…الخ .

قال الله عن قوم موسى الذين لم يستطيعوا أن يدخلوا معه الأرض المقدسة:}فَمَا ءَامَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِن قَومِهِ عَلَى خَوفٍ, مِن فِرعَونَ وَمَلَئِهِم أَن يَفتِنَهُم...[83]{ [سورة يونس].

هؤلاء الذين أسلموا لموسى بعد السحرة، ربٌّوا على القهر والذل والاستعباد، وسياقهم كالقطيع، نشأوا على ذلك، عاشوا على هذا، فلما آمنوا ظلت فيهم رواسب من هذا فلم ينجحوا مع موسى عليه الصلاة و السلام، فأتعبوه، وبدأت الجاهليات تظهر، فتارةً قالوا:} لَن نٌّؤمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهرَةً [55]{ [سورة البقرة] . وتارة قالوا:}لَن نَّصبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ, وَاحِدٍ, [61]{ [سورة البقرة] . وتارةً:} قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا فَاذهَب أَنتَ وَرَبٌّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ[24]{ [سورة المائدة].

والشاهد: أن سبب هذا أنهم آمنوا أصلاً:}...عَلَى خَوفٍ, مِن فِرعَونَ وَمَلَئِهِم أَن يَفتِنَهُم{، فإذا اجتمع الالتزام مع رواسب الجاهلية، تظل الرواسب تشدك للماضي .

بعض السبل العلاجية لظاهرة ضعف الالتزام والفتور:

قف مع نفسك وقفة صادقة جادة: لابد من وقفة جادة مع النفس، اصدق نفسك، ولا تبخل في بذل النصح لها . هذا أول سبيل للعلاج، سل نفسك: ماذا تريدين؟ هل تريدين الجنة أم النار؟ فإن قلتِ: الجنة فبماذا تطمعين فيها وأنت في هذا البلاء، وأنت تعصين الله، إنَّ هذا لهو الغرور عينه .

سل نفسك: مالك تشتهين الدنيا وقد علمت حقيقتها؟

إن أهل الآخرة يكفي أحدهم أقل القليل من حطام الدنيا، فمن كان همٌّه الآخرة لم يبالِ بما حصَّل الناس من الدنيا، إذا رأى الناس يتنافسون في الحصول على المرأة الجميلة تذكر هو قول الله في الحور العين:}إِنَّا أَنشَأنَاهُنَّ إِنشَاءً[35]فَجَعَلنَاهُنَّ أَبكَارًا[36]عُرُبًا أَترَابًا[37]لِأَصحَابِ اليَمِينِ[38]{ [سورة الواقعة]. فصرف رغبته إليهن، وشمَّر عن ساعد الجد لنيلهن، وهكذا تلمح دائمًا الفرق بين أهل الدنيا وأهل الآخرة فممن أنت؟ž! إننا نريد موقفًا جديًا، نمحص به نياتنا، نعيد من خلاله ترتيب أهدافنا، وابدأ بسؤال نفسك ماذا تريدين؟ ثم الأمر يحتاج بعد ذلك إلى قرارات صارمة .

مخالفة النفس طريق الهوى: انظر لربك وهو يعاتب موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام في تربية قومه يقول عز وجل:} وَكَتَبنَا لَهُ فِي الأَلوَاحِ مِن كُلِّ شَيءٍ, مَوعِظَةً وَتَفصِيلًا لِكُلِّ شَيءٍ, فَخُذهَا بِقُوَّةٍ, وَأمُر قَومَكَ يَأخُذُوا بِأَحسَنِهَا...{ لماذا؟ } ...سَأُرِيكُم دَارَ الفَاسِقِينَ[145]{ [سورة الأعراف] .

فهذا أول السبيل: تهذيب النفس بمخالفة الهوى، فلا تتابع نفسك في كل ما تشتهي، فلا تجبها في كل ما تطلب .

مثال ذلك: أن تعرف من نفسك أنها لا تصبر على طاعة، فإذا قالت لك: هيا لنأكل، أو لنذهب لزيارة فلان، أو نحو ذلك من المباحات، فقل لها: ليس قبل أن أقرأ وردي من القرآن . فستظل تلح عليك فإن خالفتها ولم تفعل ما تطلبه منك المرة بعد المرةº فسوف تتحكم فيها، ومن هنا تعلو همتك، وتكون صاحب إرادة، وهذه هي الرجولة الحقيقية.

كذلك أنت أيتها الأخت المسلمة: إذا حادثتك النفس في أن تكلمي فلانة أو فلانة، فقولي لها: لا ليس قبل أن أنتهي من حفظ هذا الجزء من القرآن، أو ليس قبل أن أنتهي من أذكار الصباح والمساء، وهكذا .

فإن من تابع نفسه في كل ما تطلب أهلكته، لذلك قال تعالى في عاقبة من يخالف نفسه في هواها:}وَأَمَّا مَن خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفسَ عَنِ الهَوَى[40]فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأوَى[41]{ [سورة النازعات]. و النفس قد تكون طاغوتًا يعبد من دون الله دون أن يدري الإنسان منا، قال تعالى:} أَفَرَأَيتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلمٍ, وَخَتَمَ عَلَى سَمعِهِ وَقَلبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهدِيهِ مِن بَعدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ[23]{ [سورة الجاثية] . فاتباع الهوى سبب الضلال، قال تعالى:} فَإِن لَم يَستَجِيبُوا لَكَ فَاعلَم أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهوَاءَهُم وَمَن أَضَلٌّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهدِي القَومَ الظَّالِمِينَ[50]{ [سورة القصص].

فهذب نفسك، وأعلمها حقيقتها، فهي أمة لله، فلابد أن تقيم حاكمية الله على النفس، فالله هو الذي يحكم نفسك، وليست الشهوات، ولا الشيطان . وأعداء الإسلام لا ينفكون في تزيين الباطل للناس، حتى تتحطم عقيدة المسلمين في خضم الشهوات والملذات، إنها كما قيل: صناعة الغفلة!

لما أراد الله أن يربي يحيى ليحكم صبيًا قال:} يَايَحيَى خُذِ الكِتَابَ بِقُوَّةٍ, وَءَاتَينَاهُ الحُكمَ صَبِيًّا[12]{[سورة مريم]. وهو صبي يحكمº لأنه تربى على الجدّ والرجولة، لا على الترف، ولا على الشهوات، ولا على متابعة النفس، ومطاوعة الرغبات، ولا على توفير المطالب:} يَايَحيَى خُذِ الكِتَابَ بِقُوَّةٍ, وَءَاتَينَاهُ الحُكمَ صَبِيًّا[12]وَحَنَانًا مِن لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا[13]وَبَرًّا بِوَالِدَيهِ وَلَم يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا[14]{ [سورة مريم]. فأين هذه الصفات في شبابنا الآن؟!

إن الله أمرنا بالجدية في الإسلام، فقال:} إِنَّهُ لَقَولٌ فَصلٌ[13]وَمَا هُوَ بِالهَزلِ[14]{ [سورة الطارق]. فالأمر ليس هزلًا.. إننا اليوم نرى سمات الصالحين في الظاهر، ولكن على قلوب فارغة، على عقول فارغة- وأنا آسف إن قلت هذا- ولكن هذا واقع للأمة لابد من تصحيحهº لأنه عار علينا، ووصمة للدعوة، وقد بدأت تظهر أمور لا تمت بصلة للإسلام، في المعاملات، وأكل أموال الناس بالباطل، والمشاكل الأسرية والطلاق، والأولاد الذين كنَّا نعقد عليهم آمالنا، أولاد الملتزمين الذين لم يعرفوا الجاهلية التي مرَّ بها آباؤهم، فوجدنا من كبر منهم ـ وللأسف ـ بعضهم أسوأ من أبيه، فلابد من وقفة للتصحيح، لابد من ضبط مواقع الأقدام، قبل أن تذل بنا في جهنم.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply