اكسب نفسك باستيعاب الآخرين ( 4 )


  

بسم الله الرحمن الرحيم

فمتى صرف همته عن صحبتهم إلى صحبة من أشباحهم مفقودة، ومحاسنهم وآثارهم الجميلة في العالم موجودة، استحدث بذلك همة أخرى وعملاً آخر، وصار بين الناس غريباً، وإن كان فيهم مشهوراً ونسيباً، ولكنه غريب محبوب، يرى ما الناس فيه ولا يرون ما هو فيه، يقيم لهم المعاذير ما استطاع ويحصنهم بجهده، وطاقته، سائراً فيهم بعينين: عين ناظرة إلى الأمر والنهي. بها يأمرهم وينهاهم ويواليهم ويعاديهم، ويؤدي لهم الحقوق ويستوفيها عليهم. وعين ناظرة إلى القضاء والقدر، بها يرحمهم ويدعو لهم ويستغفر لهم، ويلتمس وجوه المعاذير فيما لا يخل بأمر ولا يعود بنقض شرع، وقد وسعهم بسطته ورحمته ولينه ومعذرته، وقفاً عند قوله - تعالى -:\"خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين\". متدبراً لما تضمنته هذه الآية من حسن المعاشرة مع الخلق وأداء حق الله فيهم والسلامة من شرهم. فلوأخذ الناس كلهم بهذه الآية لكفتهم وشفتهم، فإن العفو ما عفى من أخلاقهم وسمحت به طبائعهم ووسعهم بذله من أموالهم وأخلاقهم.

 

فهذا ما منهم إليه، وأما ما يكون منه إليهم فأمرهم بالمعروف، وهو ما تشهد به العقول وتعرف حسنه، وهو ما أمر الله به. وأما ما يتقى به أذى جاهلهم فالإعراض عنه وترك الانتقام لنفسه والانتصار لها.

 

فأي كمال للعبد وراء هذا؟ وأي معاشرة وسياسة لهذا العالم أحسن من هذه المعاشرة والسياسة؟ فلو فكر الرجل في كل شر يلحقه من العالم ? أعني الشر الحقيقي الذي لا يوجب له الرفعة والزلفى من الله ? وجد سببه الإخلال بهذه الثلاث أو بعضها، وإلا فمع القيام بها فكل ما يحصل له من الناس فهو خير وإن كان شراً في الظاهر، فإنه يتولد من الأمر بالمعروف ولا يتولد منه إلا خيراً وإن ورد في حالة شر وأذى كما قال الله - تعالى -:\"إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم\".

 

روى البخاري من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير في قوله: ((خذ العفو وأمر بالعرف)) قال:\"ما أنزل الله هذه الآية إلا في أخلاق الناس\"

 

وقال جعفر الصادق:\"أمر الله نبيه بمكارم الأخلاق في هذه الآية، وليس في القرآن أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية\"

 

قال القرطبي في تفسيره:\"لما نزل قول الله ((خذ العفو)) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:\"كيف يا رب والغضب فنزلت: ((وإما ينزغنك من الشيطان نزغ))

 

قال أبو بكر بن العربي:\"قال علماؤنا: هذه الآية من ثلاث كلمات، قد تضمنت قواعد الشريعة المأمورات والمنهيات، حتى لم يبق فيه حسنة إلا أوضحتها، ولا فضيلة إلا شرحتها، ولا أكرومة إلا افتتحتها، وأخذت الكلمات الثلاث أقسام الإسلام الثلاثة، فقوله: ((خذ العفو)) تولى جانب اللين، ونفي الحرج في الأخذ والإعطاء والتكليف.

 

وقوله: ((وأمر بالعرف))تناول جميع المأمورات والمنهيات، وأنهما ما عرف حكمه، واستقر في الشريعة موضعه، واتفقت القلوب على عمله، وقوله: ((وأعرض عن الجاهلين)) تناول جانب الصفح بالصبر الذي به يتأتى للعبد كل مراد في نفسه وغيره، ولو شرحنا ذلك على التفصيل لكان أسفارا\"

 

- أخي: يقول ابن حزم: إن الذي يسبك خير لك من الذي يمدحك. فالذي يمدحك إما أن يمدحك بما فيك وهذا لم يقدم لك شيئا، وإما أن يمدحك بما ليس فيك فمن الخطأ أن تفرح بالكذب.

 

وأما الذي يسبك فإما أن تسمعه منه ويكون صادقا فهذا هدية تعدل فيها من سلوكك، وإما أن يكون كاذبا فحسنة لم تعملها ومن الخطأ أن تحزن على الكذب. وإما لا تسمعها فهذه حسنة كفيت شرها.

 

وأقول إن الذي يحسدك في هذا الزمان كثيرا ما يكون خيرا لك من الذي يحبك ويثني عليك، إذا الذي يحسدك ينقب عن أخطائك وسيئاتك وزلاتك ويعقد الاجتماعات للبحث والتنقيب عنها فيهديها إليك. بينما الآخر لا تسمع منه إلا التجزية في الخير ولا يعطيك أي ملاحظة أو عيب على عملك أو مشروعك.

 

 عداتي لهم فضل علي ومـنة *** فلا أبعد الرحمن عني الأعاديا

 

 هموا بحثوا عن زلتي فاجتنبتها *** وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا

 

- إن مشكلتنا ليست مع الحدث نفسه إنما من تعاملنا مع الحدث، فلو أنك أهملته ولم تلق له بالا ما ضرك وما آذاك وأصبحت كلمة من الكلمات طار بها الهواء كغيرها. قال - تعالى -: ((وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما)) ((وإذا مروا باللغو مروا كراما))

 

لم تلق بحواسك كلها مع المتحدث والمتكلم فيك، لم يطلب منك الإنصات التام بكل مشاعرك إلا لخطيب الجمعة.

 

السباق يستثمر خطأه ويفيد منه لنفسه وللآخرين

· أخي: إن الانتقام للنفس يضر بك أكثر مما يضر خصمك، ولك مع أذى الخلق أحد عشر بابا من أبواب الخير لو تمعنت بها وتدبرتها.

 

والله - سبحانه و تعالى - أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أبداً إلى يوم الدين. والحمد لله رب العالمين.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply