لنا الصدر دون العالمين أو القبر

يحلو لبعض المصلحين الكرام وهم يربون إخوانهم ويدعونهم إلى تزكية نفوسهم أن يكثروا من تذكيرهم أو تخويفهم من داء تربوي خطير وهو داء حب الرئاسة، ودليلهم في ذلك قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: \" إنا لا نولي هذا من سأله ولا من حرص عليه\".( رواه البخاري)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - لعبد الرحمن بن سمرة: \" يا عبد الرحمن بن سمرة، لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها. ( رواه البخاري).

لا شك أن حب الرياسة مرض خطير، محبط للعمل، وممحق للبركة، يطعن الإخلاص في الصميم، ولا ينبغي للدعاة أن يغفلوا عن أنفسهم لتحيط بهم هذه الأمراض، فيأتي أحدهم يوم القيامة بأعمال كالجبال يجعلها ربي هباءً منثوراً.

ولكن مع أهمية التذكير بهذا المعنى ينبغي أن ينتبه الدعاة إلى معنى آخر لا يقل أهمية عن هذا المعنى وهو الإمامية، وبمعنى آخر أن يتربى الداعية على الطموح ليكون إماماً وقائداً وقدوة للآخرين.

إن كثرة الحديث عن حب الرئاسة جعل بعض الدعاة ينزوون على أنفسهم، ويرضى أحدهم أن يكون تابعاً في ذيل القافلة، يرضى أن يكون هامشاً في التأثير، وربما صفراً على الشمال، ويكفيه أن يساهم في تكثير سواد المسلمين، ويكفيه حضور المناشط الإسلامية والعيش في دائرة التلقي، وتأبى نفسه أن تقوده إلى دائرة العطاء والإنتاج، وإذا ما اتجه إلى دائرة العطاء فيكفيه العطاء ذو التأثير المحدود.

لم يفكر يوماً أن يكون قائداً في مقدمة صفوف الدعاة المجاهدين. لم يفكر يوماً أن يرتقي بنفسه ليفوق أقرانه فضلاً عن أن يفوق من سبقه.

بعض المسلمين يرضي أن يسجن عقله في نوع من أنواع القناعة المزيفة التي يُخشى أن تكون من صنع إبليس، والتي تنم عن جهل بحقيقة هذا الدين، أو ربما تُخفي وراءها عجزاً أو قصوراً أو ضعف همة، فهو يرضى بالدون ويجهد نفسه في إقناعها بحاله المتردي المتأخر.

إن الله - تعالى - أثنى على الأئمة من الدعاة والصالحين فقال: \" والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرةَ أعينٍ, واجعلنا للمتقين إماماً، أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقّون فيها تحيةً وسلاماً، خالدين فيها حسنت مستقراً ومقاماً\".( الفرقان: الآيات 74-76).

إن فك الاشتباك بين داء حب الرياسة وبين الطموح هو: إن حب الرئاسة يعنى أن يعمل الإنسان وأن يجهد نفسه لا لله وإنما للحرص على منصب ووجاهة ورئاسة، كما أنه لا يعمل بجهد واجتهاد إلا إذا كان رئيساً.

في حين أن الداعية الطموح هو ذاك المخلص الذي يريد وجه الله بعمله، ويجتهد في محاسبة نفسه، ويسعى في تنقية إيمانه من الشوائب، ولكنه مع ذاك يريد أن يعم خيره على أكبر قدر ممكن من البشر ليجني أكبر قدر ممكن من الأجر، كما أن همَّ هذا الدين وهمَّ المسلمين قد ملأ قلبه فلم يعد يطيق انتشار الباطل، لذا فهو يبذل أقصى ما أوتي من جهد حتى ينقذ الناس من ظلمات الباطل إلى نور الحق.

فعلى الدعاة أن يفقهوا هذا المعنى العظيم، وأن يقودوا أمتهم إلى ما يرضي الله، ولكَم يتمزق القلب عندما نرى علمانياً أو شيوعياً أو قومياً أو منحرفاً يظهر أمام الناس وكأنه منقذ هذه الأمة فيقودها إلى الهاوية، ونجد في الوقت ذاته بعض الدعاة منزوين في بيوتهم لا تسمع لهم همساً.

إنه طريق الأنبياء والمرسلين ومن سبقنا من الصالحين، وصدق الشاعر العربي حين قال:

ونحن أناس لا توسط عنـــــدنا

                          لنا الصدر دون العالمين أو القبـر

تهون علينا في المعالي نفوسنا

                          ومن يطلب الحسناء لم يغلها المهر