أبناؤنا يتعلمون الصدق حين نصدق معهم ، وصدقنا معهم يدفعهم إلى الثقة بنا, والاطمئنان إلينا. لا تظنوا أن الصغار يميزون، بل هم يدركون إن كنا معهم صادقين, أو كاذبين.
حدثتني والدتي أنها اشتكت - وهي صغيرة - ألمًا دائمًا في بطنها ، فلما فحصها الطبيب, وجد أنها تحتاج أن تصور صورة شعاعيةº لتقصي سبب المغص, والألم. وكانت الصورة لا تتم إلا بعد أن يتناول المريض, شربة من الملح الإنجليزي, ذي الطعم البشع, والرائحة الكريهة. فلما رأت أمي شكله, وشمت رائحته استبشعته, ورفضت تناوله.حاولت جدتي إقناعهاº بأن طعمه ليس كرائحته، ورغبتها في تذوقه، فما تذوقت بعضًا منه حتى ازدادت عزمًا, وتصميمًا على ألا تشربه مهما حصل، فغضبت جدتي, وسعت إلى إجبارها على تناوله, وهي رافضة متمنعة، فلما أعياها الترهيب, لجأت إلى الترغيب، فراحت تحاول إقناعها مؤكدة أن هذا الدواء, لذيذ الطعم، وهي لا تزدادº إلا عنادًا, وتصميمًا.
سمع جدي (الشيخ علي الطنطاوي - رحمه الله -) الضجيج فجاء من غرفته مستطلعًا الأمر، فلما وقع على تفصيله, طلب من جدتي أن تترك الأمر له، ثم التفت إلى والدتي فقال لها: \" يا بنيتي، سأكون صادقًا معكº لذلك لن أقول لك إن هذا الدواء ذو طعم لذيذ، إنه كريه, ولا يمكن شربه، بل إن طعمه لا يطاق، وقد احتجت يومًا لتناوله فلم أفعلº لشدة كراهته، وآثرت احتمال الألم على تجرع طعمه الكريه، ولكني آمل أن تكوني أشجع مني, وأقوى, وأمضى عزيمة, فتفعلي ما لم أقدر أنا عليه، ويتم لك الشفاء بإذن الله \". قالت أمي: \" عندما صدقني والدي شربته جرعة واحدة, وأنا سادة أنفي, مغمضة عينيº لشعوري بأنه مقدر لمعاناتي غير مستخف بآلامي.
إن الأطفال أذكى مما نتصورº فهم سرعان ما يكتشفوننا إن كذبنا عليهم، فيلجؤون إلى الأسلوب ذاته في تعاملهم معنا، فيكذبون هم علينا. والكذب من أبشع الطباع، ولكنه من أسهلها اكتسابًا, ومن أصعبها علاجًا، وكثيرا ما يلجأ إليه الأطفال للحصول على كسب, أو الهروب من عقاب. ونحن - رغم صدق أهلنا معنا, وصدقنا معهم - حاولنا اللجوء إلى الكذب ( في بعض المرات) خوفًا من العقاب ، فما تساهل جدي - أبدًا - في هذا الأمر ، إلا أنه عالجه بالحكمة البالغة, فإذا شك أن أيًا من أحفاده كذب استدعاه فوعده، إن صدقه القول، ألا يعاقبه، فيفهم منه حقيقة المسألة، ثم يكتفي بتوجيهه, وتعليمه حتى لا يقع في الخطأ مرة ثانية. بهذا الأسلوب الجيد علّمنا قول الصدق، فما زلنا نصدقه, ونصدق أمهاتنا - آمنين من العقوبة, طامعين في العفو ,جزاء الصدق حتى صار الصدق طبعًا من طباعنا، ثم صرنا - من بعد – نصدق, ولو أيقنا بالعقاب.
وكبرت, فتزوجت, وصرت أمًا, ولم أنس هذا الدرسº فكنت أبحث - مع أبنائي - عن الجانب السلبي في أي أمر, فأعترف به بصدق, غير مواربة, ولا متهربة، ثم أعمد إلى الجانب الآخر – الإيجابي - فأغلبه عليه, وأستعين على الإقناع بهº بالترغيب, والتشجيع . وأي أمر - مهما كان صعبًا, وسلبيًا - لا يخلو من الإيجابية, والخير.!
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد