بسم الله الرحمن الرحيم
جمع العلماء أدلة كثيرة على وجود الله، وأفردوا لها البحوث وأدرجوها في أمهات الكتب، وقام بعض المحدّثين بجمعها في كتيبات صغيرة، لكني أرى أنهم نسوا دليلاً مهماً على وجود الله لم يضمنوه كتبهم ولم يهتموا به هو \"الاستخارة\"! مع أنه لا يقل أهمية عن الأدلة الأخرى التي اهتموا بها وتتبعوها، فآليت على نفسي أن أذكّرهم بهذا الدليل المهم جداً، وأسوق إليهم البراهين ليقتنعوا به وليدرجوه في كتبهمº فالاستخارة دليل قوي في حجته بارع في إشارته باهر في نتائجه.
ولقد التزمت الاستخارة منذ أن كنت في السادسة عشرة من عمري وحتى الساعة، واستخرت في كل صغيرة وكبيرة وفي كل ما أثار حيرتي وجعلني أتردد، فلا بد أنني قد استخرت آلاف المرات إذن! وبعد أن يمضي الأمر وتظهر نتيجة الاستخارة كنت أكتشف أن ما اختاره الله لي هو الأفضل والأحسن بلا جدال، وكنت أشعر بوجود الله وبحكمته في تقدير الأمور.
إن الاستخارة دليل عظيم على وجود الله، ومن حافظ على الاستخارة ولجأ إلى الله ودعاه بصدق (بأن يختار له الأفضل) علم أن ما تسير الأمور عليه بعد الاستخارة لا يمكن أن يحدث صدفة بلا ميعاد، وإنما هو بتدبير مطّلع عليم، الأمر الذي يدلل من جديد وبقوة وبطريقة محسوسة وملموسة على وجود مُسيّر عظيم لهذا الكون يرتب الحوادث ويسلسل الوقائع، ثم يرشد من التجأ إليه إلى الخير وإلى الأحسن عن علم ودراية وعن قصد وتصميم.
وسأروي بعضاً مما حدث معي حين استخرت في وقائع بسيطة وصغيرة ومن صلب الحياة اليومية:
منذ بضعة أسابيع مثلاً اضطررت إلى أخذ أولادي إلى الطبيب بسبب مرض شديد أَلمَّ بهم، وكنت أعرف طبيبين ممتازين في الاختصاص الذي أريده، فاستخرت الله هل نذهب إلى هذا أم ذاك؟ ومتى نذهب قبل صلاة المغرب بنصف ساعة أم بعدها مباشرة؟ وكانت النتيجة أن أذهب قبلها، ولما وصلت إلى هناك كان الطبيب مشغولاً بمعاينة مريض وصل قبلي فجلست أنتظر دوري، وطال انتظاري وتأخر المريض زيادة عن الوقت المعتاد وأخذ أولادي يتململون، وبدا عليهم الإعياء من الجلوس الطويل، وصاروا يرجونني أن أعيدهم إلى البيت ليناموا.
وتساءلت في سري عن السبب الذي جعلني أترك ما في يدي وأتسرع في الحضور إلى المستوصف؟ وتعجبت لماذا رست الاستخارة على هذا الوقت وعلى هذا الطبيب؟!
وقبل أذان المغرب بدقائق معدودة وصل إلى عيادة ذلك الطبيب ستة مرضى تباعاً وجلسوا ينتظرون، وحين خرج المريض كان دوري فأدخلوني إلى الطبيب قبلهم، ولو أني أخرت حضوري إلى ما بعد المغرب لجلست أنا أنتظرهم كلهم ولانتظرت ما لا يقل عن ساعة ونصف الساعة، ولتأخر أولادي عن النوم وهم مرضى يحتاجون إلى الراحة.
وعلمت فيما بعد أن الطبيب الآخر (الذي لم ترسُ الاستخارة عليه)، أخذ يومها إذناً اضطرارياً قبل المغرب بساعة وترك العمل، ولو أني ذهبت إليه لعلقت في زحمة السير ولما وجدته.
وذات صباح مدرسي استيقظ أحد أبنائي بصعوبة بالغة وبدا نعسان متعباً، وبينما كنت أوقظ أخويه غفا من جديد، فصليت استخارة: هل أوقظه وأحمله على الذهاب إلى المدرسة أم أدعه نائماً؟ وكانت النتيجة أني أبقيته نائماً. وعلمت في اليوم التالي أن أستاذه كان مريضاً فلم يحضر ولم يدرسوا شيئاً، وقضى التلاميذ النهار كله في اللعب والعبث والشجار وإزعاج الأساتذة وتلقوا عقاباً جماعياً.
واحتجت إلى خدمة من صديقة لي فاستحييت أن أطلبها منها، وكَبُرَ عليّ سؤال الناس، وخشيت أن تردني خائبة...وحين حسمت الأمر بالاستخارة أحجمت عن سؤالها ودعوت الله بالفرج من عنده، ولم تمض إلاّ ساعات حتى اتصلت بي تلك الصديقة وعرضت عليّ (بما تعرفه من ظروفي) الخدمة ذاتها التي كنت سأطلبها منها! فوفرت عليّ السؤال وأسعفتني وفرّجت عني من نفسها أي بلا طلب ولا استشراف مني، وهذا أحفظ لماء الوجه وأرضى للنفس.
وأردت منذ سنوات السفر من عمان إلى الشام بالحافلة، فاستخرت الله هل أسافر بحافلة الواحدة أم الثالثة، وقدر الله لي أن أسافر في حافلة الثالثة. وحين وصلنا إلى الحدود السورية وجدنا الحافلة الأولى ما زالت هناكº فقد تعرضت إلى أعطال أخرتها عن متابعة السير، واضطر الركاب إلى الانتظار ساعتين في الحر ريثما تم إصلاحها، وكانت النتيجة أن وصلت الحافلتان إلى دمشق معاً بنفس الوقت!
بعد وفاة جدي تركت جدتي (- رحمهما الله -) سكنى جدة ورجعت إلى بيتها في مكة، وتعودنا أن نزورها في نهاية الأسبوع (إن يسر الله)، وفي نهاية أحد الأسابيع كان أسبوع امتحانات وكان ولدي في الثانوية العامة ومادة يوم السبت هي الرياضيات، واحترنا هل من المنطق أن نذهب إلى مكة لزيارة جدتنا وابننا يمتحن الامتحان الذي سيحدد مستقبله وهو بحاجة لكل دقيقة ليدرس فيها؟ أم الأفضل أن نؤجل الزيارة لحين انتهاء الامتحانات (أي أسبوعاً واحداً فقط)؟
ثم وبعد الاستخارة ذهبنا إليها، فسرت أيما سرور بحضورنا (لأنها لم تكن تتوقع زواراً واليوم يوم جمعة وغداً يوم العمل والدراسة والامتحانات)، وبقينا عندها طويلاً نزولاً عند رغبتها، وحكت لنا ذكريات قديمة لم نسمعها منها من قبل، وتأخرنا عندها وسعدنا بصحبتها وأنهينا الزيارة آسفين، وكانت زيارة ممتعة حقاً.
والحمد لله أن ابني لم يتأثر سلباً بهذه الزيارة وأبلى بلاء حسناً في الامتحان، وهذه النتيجة الأولى الجيدة للاستخارة والتي لمسناها في اليوم اللاحق... أما النتيجة الثانية للاستخارة والتي لم يتوقعها أحد فهي التالي: لم تمض على زيارتنا لجدتي إلا ثلاث ليال (ليلة السبت وليلة الأحد وليلة الاثنين) لنصحو بعدها على رنين الهاتف الذي حمل إلينا نبأ وفاتها!؟ لقد ماتت جدتي صباح الاثنين فجأة بلا مقدمات، وكنا آخر من رآها من أفراد العائلة جميعاً، وقد غبطنا الجميع على ذلك، وكله بفضل الاستخارة، ولولاها ما شددنا الرحال ولا ذهبنا إليها.
تلك بعض ثمرات الاستخارة أسعفتني بها الذاكرة، وما لم يتسع له المجال ولم تسعف به الذاكرة أكثر. فكم من كنوز في السنة نغفل عن ذكرها، وكم من أدلة على لطف الله بنا وإرادته الخير لنا، نحن عنها غافلون.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد