ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون


يتكرر في كتاب الله - تبارك وتعالى - المقابلة بين الحق والشرع وبين اتباع الهوى، فهما نقيضان لا يجتمعان، فحيث يأتي الأمر باتباع الشرع يأتي النهي عن اتباع الهوى [ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون].

والحكم بالشرع يأتي مناقضاً للهوى [وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم] وجاء هذا التحذير للأنبياء السابقين [يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله]. قال الشاطبي: \"فقد حصر الأمر في شيئين: الوحي وهو الشريعة، والهوى فلا ثالث لهما. وإذا كان كذلك فهما متضادان. وحين تعين الحق في الوحي توجه للهوى ضدُه. فاتباع الهوى مضاد للحق\" (الموافقات 2/129) . ولقد جاء هذا الأمر متسقاً مع فطرة الله - تبارك وتعالى - التي فطر الناس عليها، وبدون ذلك تفسد السماوات والأرض ومن فيها [ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن]. وقد أخبر - تبارك وتعالى - أن الناس قد زينت لهم الشهوات: [زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب]. ومع طول عهد الناس بعصر النبوة، وبعدهم عن الصدر الأول، زادت الأهواء واستولت الشهوات على النفوس، ورق الدين لدى الناس وهان شأنه عندهم. وزاد الطين بلة ارتباط المسلمين بالعالم الغربي الذي سيطرت عليه المادة، واستولت على حياة الناس، وضمرت لديهم المعاني الجادة وتقلصت في حياتهم. وقد يترك هذا الأمر أثره على بعض الدعاة والغيورين، فيحرصون على مجاراة واقع الناس، ويعيدون النظر في كثير مما كانوا يقررونه من الأحكام الشرعيةº لأن الناس قد ثقل عليهم الالتزام بها. ولاشك أن الشرع لم يأت بتكليف الناس بما لا يطيقون، وأن الدين يسر ليس فيه عسر ولا مشقة، وأن من قواعد الشريعة أن المشقة تجلب التيسير، وأنه لا ضرر ولا ضرار. لكن الاستطراد في هذا الباب قد يوقع صاحبه في مجاراة أهواء الناس، وتطويع الشرع وفق شهواتهم ورغباتهمº ومن ثم فلابد من الانضباط والاتزان في ذلكº بالحذر من التضييق على الناس والمشقة عليهم فيما وسعه الشرع، والحذر من الانزلاق في السير وراء الأهواء وتمييع الشريعة.

ومما ينبغي مراعاته في ذلك:

* تربية الناس على تعظيم نصوص الشرع والتسليم لها وترك الاعتراض عليها، وأن النص الشرعي حاكم على حياة الناس ولا مجال لاجتهاد يعارضه.

* تربية الناس على التعلق بمتاع الآخرة، وأن الدنيا دار شهوات وأهواء وظل زائل، وأن الجنة قد حجبت بالمكاره، والنار قد حجبت بالشهوات.

* اليقين بأن ما دل عليه الشرع فهو في مصلحة الناس، وهو وفق طاقتهم وقدرتهم.

* أن من مقاصد الشرع تعبيد الناس لرب العالمين، وتخليصهم من رق الهوى وأسره، قال الإمام الشاطبي:\"المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه، حتى يكون عبداً لله اختياراً، كما هو عبداً لله اضطراراً\" (الموافقات 2/128).

* أن مجاراة الناس في الترخص والتيسير لا تقف عند حد، فماذا نفعل بمن تتبرم من لبس الحجاب، ومن يتبرم من صيام رمضان في الحر، والسفر للحج بما فيه من جهد ومشقة؟ بل ماذا نصنع بالجهاد الذي فيه إراقة الدماء وإزهاق النفوس وذهاب الأموال؟ إن من واجب الدعاة إلى الله اتباع المنهج الشرعي، والتيسير فيما يسر فيه الشرع، وأخذ الناس بالحسنى، ومع ذلك فلا يؤدي الترخص إلى تهوين شأن العبودية والتسليم لله - تبارك وتعالى -، وتعويد الناس على الجرأة على معصيته - عز وجل -، وألا يدعونا فساد الواقع إلى تطويع الشرع لتسويغه.

اللهم ارزقنا الفقه في الدين، واتباع سبيل المرسلين.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply