حصار الشِّعب والدروس المستفادة منه


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

إن الـديــن الإسـلامي ليس مجرد تنظيم للحياة ولكنه دين واقعي يتعايش بأصوله ومبادئه

وأحكامه مع الــواقــع بـعـيــداً عن الافتراضات الخيالية والمثل العائمة التي لا تتوافق مع

طبيعة النفس البشرية.

والسيرة النبوية العطرة هي المثال الحي للتطبيق العملي للمثل والأخلاق والمبادئ والأحكام

الإسلامية، بل هي المنهج الإسلامي الكامل بكل مكوناته في واقع الحياة. وهي بهذا وبكل

ما اشتملت عليه من أحداث وتـوجـيـهات نور ساطع في سجل التاريخ البشري يقتبس منه

من أراد في أي جيل دروساً تهدي الحيارى وترشد التائهين لأحسن السبل وأقومها.

إنـهـا مـنـهـج ينبغي أن نتربى عليه ونربي أبناءنا على ما يشمله من مفاهيم وقيم نرى أن

الناس في هذا الزمان أشد ما يكونون حاجة إليها.

وفـي هــذه الـمـقـالـة نقلِّب النظر في حدث من أحداث السيرة النبوية المشرفة وهو (حصار

الشِّعب) لنستنبط منه بعض الدروس والعبر التي نأمل أن ينفع الله بها..

أولاً: خبر الصحيفة:

قال ابن إسحاق: \"لما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزلوا بلداً

أصابوا به أمناً وقراراً، وأن النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم، وأن عمر قد أسلمº فكان

هو وحمزة بن عبد المطلب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم  وأصحابه، وجعل الإسلام

يفشو في القبائل: اجـتـمـعــوا وائتمروا أن يكتبوا كتاباً يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني

المطلب على أن لا ينكحوا إلـيـهـم ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئاً ولا يبتاعوا منهم، فلما

اجتمعوا لذلك كتبوا في صحيفة، ثـم تـعـاهــدوا وتواثقوا على ذلك، ثم علقوا الصحيفة في

جوف الكعبة توكيداً على أنفسهم. فلما فـعـلـــت ذلك قريش انحازت بنو هاشم وبنو عبد

المطلب إلى أبي طالب بن عبد المطلب فدخلوا مـعه في شِـعـبـه فاجتمعوا إليه، فأقاموا على

ذلك سنتين أو ثلاثاً حتى جهدوا، لا يصل إليهم شيء إلا سراً متخفياً به من أراد صلتهم

من قريش. وقد كان أبو جهل بن هشام ـ فيما يذكرون ـ لقي حكيم بن حزام بن خويلد بن

أســــد ومـعـه غلام يحمل قمحاً يريد به عمته خديجة بنت خويلد، وهي عند رسول الله

صلى الله عليه وسـلـم ومـعـه في الشعب، فتعلق به، وقال: أتذهب بالطعام إلى بني هاشم؟

والله! لا تبرح أنت وطـعـامــك حـتـى أفـضـحـك بـمـكة. فجاءه أبو البختري بن هشام بن

الـحـارث بـن أســد فـقــال: مــا لك ولــه؟ فقال: يحمل الطعام إلى بني هاشم! فقال أبو البختري: طعام كان لعمته عنده بعثت إلــيـــهº أفتمنعه أن يأتيها بطعامها؟ خلِّ سـبـيــل

الرجل. قال: فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه، فأخذ أبو البختري لَحيَ بعير

فــضـربــه بـه فـشـجـه، ووطئه وطئاً شديداً وحمزة بن عبد المطلب قريب يرى ذلك، وهم

يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيشمتوا بهمº ورسول الله

صلى الله عليه وسلم على ذلك يدعو قومه ليلاً ونهاراً سراً وجهراً مبادياً بأمر الله لا يتقي

فيه أحداً من الناس\"(1).

قال السهيلي: \"وذكر ما أصاب المؤمنين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب من

الـحـصـــار لا يبايَعون ولا يناكَحون. وفي الصحيح أنهم جهدوا حتى كانوا يأكلون الخبط

وورق الشجر، حتى إن أحدهم ليضع كما تضع الشاة. وكان فيهم سعد بن أبي وقاص رُوي

أنه قال: لـقــد جعت حتى إني وطئت ذات ليلة على شيء رطب فوضعته في فمي وبلعته

وما أدري ما هو إلى الآن. وفي رواية يونس أن سعداً قال: خرجت ذات ليلة لأبول فسمعت

قـعـقـعــة تـحـت الـبـول فإذا قطعة من جلد بعير يابسة أخذتها وغسلتها ثم أحرقتها ثم

رضضتها وسففتها بالماء فقويت بها ثلاثاً. وكانوا إذا قدمت العير مكة يأتي أحدُهم السوقَ

ليشتري شيئاً لعياله فيقوم أبو لهب عدو الله فيقول: يا معشر التجار! غالوا على أصحاب

محمد حتى لا يدركوا معكم شيئاًº فقد علمتم مالي ووفاء ذمتيº فأنا ضامن أن لا خــســار

عليكم، فيزيدون عليهم في السلعة قيمتها حتى يرجع إلى أطفاله وهم يتضاغون من الجوع

ولـيــس في يديه شيء يُطعمهم به، ويغدو التجار على أبي لهب فيربحهم فيما اشتروا من

الطعام واللباس حتى جهد المؤمنون ومن معهم جوعاً وعرياً\"(2).

الدروس المستفادة من هذه الحادثة:

1 ـ لـقـد فـكـر الأعــداء ـ كـمـا رأيت ـ تفكيراً جماعياً جاداً منظماً ومعتمداً على التخطيط

الدقيق لـضـرب الـحـركة الإسلامية، وذلك حينما بدأت قاعدتها في الرسوخ، ونجحت في

جذب العناصر القوية إليها، وبدأت تفكر في الحماية الأمنية اللازمة حتى تؤدي رسالتها

للعالمين، عندئذ أدرك الأعــداء أنـــه لا بد من القضاء على هذه الدعوة في مهدها، فكانت

فكرة الحصار الاقتصادي وسياسة التجويع أملاً يداعب حلمهم ويطفئ ثورة حقدهم. ولكن

الله خذلهم فأعز دينه وأتم نوره وازدادت الـدعــوة صــلابــة وقوة وازداد أصحابها يقيناً

وتضحياتº فلا بد إذن من اليقين بأن الله متم نوره ولو كره الـكـافــــرون، وأن هذا الدين

سـيـبـلـغ مــا بـلـغ الليل والنهار مهما مكر الأعداء بأهله ((ويَمكُرُونَ ويَمكُرُ اللَّهُ واللَّهُ خَيرُ المَاكِرِينَ)) [الأنفال: 30] .

2 ـ لم تقتصر معاهدة قريش وأذاهــا على أصحاب الدعوة وحدهم بل شملت كل من يعطف

عليهم أو يدافع عنهم أو يمدهم بصـلـة ولو سراً. ولهذا ينبغي لعموم المسلمين أن يكونوا يداً

واحدة مع علمائهم ودعاتهم يؤازرونهـــم وينصرونهم، وعلى الدعاة إلى الله تقوية صِلاتهم

بأكبر قدر ممكن مع جمهور المسلمين ومد الجسور إليهـم بالطــرق الشرعية الصحيحة حتى

يكونوا صفـــاً واحــداً لا تخترقــه سهـــام الأعــداء. قال الله ـ تعالى ـ: ((واعتَصِمُوا بِحَبلِ اللَّهِ جَمِيعاً ولا تَفَرَّقُوا )) [آل عمران: 103] .

3 ـ لقد تجرع الصحابة الكرام ـ رضـــــوان الله عليهم ـ مرارة هذا الحصار وتقلبوا في لظى

هذه المؤامرة الخبيثة عندما أُطبِقَ عليهم بسياج من الظلم المكشوف المتمثل في تلك الصحيفة

الجائرة، فصبروا حتى أتاهم نصر الله. لقد كانو يقدرون مسؤولية تبليغ الرسالة الملقاة على

كواهلهم، وكانوا يدركون حقيقة هذه الرسالة وطبيعتها، وأنها لا بد أن تبلَّغ للناس بجهد

من البشر، وفي حدود قدراتهمº فكان الـصـبر على مثل هذا البلاء نِعمَ الزاد الذي يتناسب

وطبيعة الطريق. لقد كانت التربية الجادة عـلى منهج القرآن الكريم عاملاً مهماً من عوامل

الصمود والتحدي أمام الباطل وأهله، ولقد كانـت تربـيــة الـنـبـي صـلــى الله عليه وسلم

لأصحابة على الصبر مقصودة في حد ذاتهاº لأنه يعلم ـ ويـريـد أن يعلمهم ـ أن النصر مع

الصبــر، وأن البلاء سُنَّة ماضيـة، وأن أهــل الإيمــان لا بد أن يتعرضــــوا للفتن تمحيصاً

وإعداداً. قال الله ـ تعالى ـ: ((أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُترَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وهُــم لا يـُفــتَـنُـونَ))

[العنكبوت: 2].

4 ـ  لقد تجلت التضحيات والمواقف النبيلة للثبات على المبدأ الحق عند الصحابة الكرام

بـمـا يـبـهـر العقول وتعجز عن وصفه الألسن، ولذلك لم يكن مثل هذا المكر السيئ والكيد

المسعور ليـثـنـيـهـم عن واجب عظيم ورسالة قد آمنوا بها وأُشرِبوا حبها وعاهدوا الله على

الـجـهـاد فـي سـبـيـل نـشرها. إن الثبات والاستمرار في الدعوة علامة على صدق الداعية

وإخلاصه وفهمه السليم لطـبـيـعة الدعوة وحقيقتها، وإن التراجع أو الانتكاسة في منتصف

الطريق وعند المنعطفات الـحـرجـة الـتـي تـمـر بـهـا الدعوة يعد علامة على ضعف الإيمان

وتزعزع اليقين وحب الدنيا والخلود إليها. يقول الشيخ محمد الغزالي ـ رحمه الله تعالى ـ:

(وفي أيام الشِّعب كان المسلمون يلقون غيرهم في موسم الحـج ولـم تـشـغلهم آلامهم عن تبليغ

الدعوة وعرضها على كل وفدº فإن الاضطهاد لا يقتل الدعواتº بل يزيد جذورها عـمقـاً،

وفروعها امتداداً، وقد كسب الإسلام أنصاراً  كثراً في هذه المرحلة)(3). فالثباتَ الـثـبــاتَ

أيها الدعاة، وعليكم بمواصلة السير والاستفادة من كل باب مفتوح لتبليغ الدعوة بالحكمة

والمـوعـظــة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن ((ولا تَهِنُوا ولا تَحزَنُوا وأَنتُمُ الأَعلَونَ إن كُنتُم مٌّؤمِنِينَ)).[آل عمران: 139] .

5 ـ لقد وقف الكفار من عشيرة النبي صلى الله عليه وسلم موقفاً حسناًº إذ دخلوا معه ومع

أصحابه في الشِّعب حمية منهم وتقديراً ـ ولا شك في ذلك ـ لما تميز به الرسول الكريم صلى

الله عليه وسلم من حسن الخلق وحسن المعاملة معهم. فما أجمل الإحسان إلى الناس! وما

أحق الأقربين بالمعروف! وأفضلُ الإحسان إلى هؤلاء هو دعوتهم للخير والأخذ بأيديهم إلى

رياض الإيمان. والداعية ـ بلا شك ـ معرض للأذى والخطر من أهل الشر الكارهين للدعوة

ولـمـن يـقــوم بـهــاº ولذلك لا بد له من حماية. وعشيرة الداعية وأقرباؤه هم أكثر الناس

استعداداً لمثل هذه الـحـمايةº وخاصة إذا مَنَّ الله عليهم بنور هذه الدعوة وصبروا على ما

يلاقون في سبيل نشرها من الأذىº فإنهم حينئذ في مقام كريم ((ومَا يُلَقَّاهَا إلاَّ الَذِينَ صَبَرُوا ومَا يُلَقَّاهَا إلاَّ ذُو حَظٍ,ّ عَظِيمٍ,)) [ فصلت: 35].

6 ـ لا بد أن ندرك أن الأعــــداء يـبـذلون الكثير من المال من أجل نشر باطلهم والصد عن

سـبـيل اللهº فمن أجل تلكم الأزمة الاقتصادية دُفعت الأموال الطائلة للضغط على الأجساد

والـبـطـون، ولكنهم لم يجدوا إلى القلوب المؤمنة سبيلاً، وما زال الأعداء ولا يزالون ينفقون

بسخاء في سبيل الظلم والطغيان ونشر الكفر والإلحاد وتشجيع الفجور والإباحية عن طريق

المؤسـســات الإعلامية والمؤسسات التنصيرية والمؤسسات الفكرية وغيرهاº كل ذلك ليصدوا

الناس عــــن الحق ((إنَّ الَذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَموَالَهُم لِيَصُدٌّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيهِم حَسرَةً ثُمَّ يُغلَبُونَ والَّذِينَ كَفَرُوا إلَى جَهَنَّمَ يُحشَرُونَ)) [الأنفال: 36].

وإذا كان أهـــل الباطـل يبذلون الكثير من المال من أجل باطلهم وفجورهم فما بال الموسرين

من المسلمين يمـسـكــون ـ إلا ما شاء الله ـ عن الإنفاق في سبيل الله لنشر الحق ودعوة الحق

ومواساة المعوزين من الـمـسـلمين؟ فالبذلَ البذلَ ـ أيها المسلمون ـ وإلا حق فينا قول الحق ـ

جل ثناؤه ـ: ((هَا أَنتُم هَؤُلاءِ تُـدعَــــونَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبخَلُ ومَن يَبخَل فَإنَّمَا يَبخَلُ عَن نَّفسِهِ واللَّهُ الغَنِيٌّ وأَنتُمُ الفُقَرَاءُ وإن تَتَوَلَّوا يَستَبدِل قَوماً غَيرَكُم ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمثَالَكُم)) [محمد: 38].

ثانياً: حديث نقض الصحيفة:

قــــال ابن إسحاق: \"ثم إنه قام في نقض تلك الصحيفة التي تكاتبت فيها قريش على بني

هاشـم وبني المطلب نفر من قريش ولم يَبلُ فيها أحد أحسن من بلاء هشام بن عمروº وذلك

أنه ابـن أخ نضـلــة بن هاشم بن عبد مناف لأمه، وكان هشام لبني هاشم واصلاً، وكان ذا

شرف في قومه فـكـــان يأتي بالبعير وبنو هاشم وبنو المطلب في الشعب ليلاً قد أوقره طعاماً

حتى إذا أقبل به فـم الـشِّـعـب خلع خطامه من رأسه ثم ضرب على جنبه فيدخل الشعب

عليهم، ثم يأتي به قد أوقره بـزاً فيفعل به مثل ذلك... ثم إنه مشى إلى زهير بن أبي أمية

بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ـ وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب ـ فقال: يا

زهير! أقد رضيت أن تأكل الطـعـام وتلبس الثياب وتنكح النساء وأخوالك حيث قد علمت

لا يباعون ولا يبتاع منهم ولا ينكـحـــون ولا ينكح إليهم؟ أما إني أحلف بالله أن لو كانوا

أخوال أبي الحكم بن هشام ثم دعوته إلى ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه أبداً. قال:

ويحك يا هشام! فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد! والله! لو كان معي رجل آخر لقمت في

نقضها حتى أنقضها. قال: وقد وجــدتُ رجلاً. قال: من هو؟ قال أنا. قال له زهير: ابغنا

رجلاً ثالثاً، فذهب إلى الـمُطعِم بن عــدي، فقال له: يا مطعم! أقد رضيت أن يهلك بطنان

من بني عبد مناف وأنت شاهد على ذلـك مـوافـق لقريش فيه؟ أما والله لئن أمكنتموهم من

هذه لتجدنها إليها منكم سراعاً. قال: ويحك! فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد. قال: قد

وجدتُ ثانياً، قال: من هو؟ قال: أنا، قال ابغنا ثالثاً، قال: قد فعلتُ، قال: من هو؟

قال: زهير بن أبي أمية، قال: ابغنا رابعاً. فذهـب إلـى أبـي البختري بن هشام، فقال له

نحواً مما قال لمطعم بن عدي، فقال: ابغنا خامساً. فذهب إلـى زمعة بن الأسود بن المطلب

بن أسد، فكلمه، وذكر له قرابتهم وحقهم، فقال له: وهل على هـــذا الأمر الذي تدعوني

إليه من أحد؟ قال: نعم! ثم سمى له القوم. فاتَّعدوا خطم الحجون لـيـلاً بأعـلـى مــكــــة

فاجـتـمـعوا هنالك، فأجمعوا أمرهم وتعاقدوا على القيام في نقض الصحيفة حتى ينقضوها،

وقال زهير: أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم. فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم وغدا زهير بن

أبي أمية وعليه حلة فطاف بالبيت سبعاً، ثم أقبل على الناس، فقال: يا أهل مكة! أنأكل

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply