القدوة وأثرها في الدعوة النسائية ( 2 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

ميادين القدوة:

1ـ العبادة والطاعات المحضة، وذلك بالمحافظة على الفرائض والواجبات، والتزود بالإكثار من النوافل والقربات، فذلك ميدان مهم من ميادين الدعوة بالقدوة، كما كان التأثير بذلك قوياً في هدي المصطفى                         - صلى الله عليه وسلم - في عبادته وقيامه بحق ربه، ومن ذلك أيضاً أمره لنسائه بقيام الليل حينما رأي تنزل الفتن والخزائن على أمته ليقتدي بهن النساء، خاصة والناس عامة في كل زمان، ولاسيما زمن كثرة الفتن.

 

2ـ علاقة القدوة بالناس وتعامله معهم وكسبه لحبهن واحترامهم وثقتهم من خلال حسن تصرفه وتحليه بمكارم الأخلاق والسماحة والكرم والعدل وطيب العشرة وطلاقة الوجه وحسن القول، إلى غير ذلك من مجالات الدعوة بالقدوة في التعامل، ولنا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الميدان أعظم أسوة وأرقاها.

 

3 ـ تكوين النفس وتربيتها علماً وأدباً وسمتاً ومظهراً، وهذا ـ كما أشرنا سابقاً ـ لا تتحقق القدوة إلا به، وهو في الوقت ذاته مجال من مجالات الدعوة وأسلوب مؤثر من أساليبها. فيقع التأثر في نفوس الناس بمظهر القدوة وسمته ووقاره موقعاً بليغاً يفوق أحياناً الاستفادة من أقواله وعلمه. وقد ورد أنَّ الذين كانوا يجلسون على الإمام أحمد بن حنبل في مجلس درسه يبلغ المئات، مع أنَّ الذي يطلب عليه ويدون علمه عدد قليل من ذلك الحشد الكبير الذي إنما حضر انتفاعاً بهدي الشيخ وإقتداء بسمته وأدبه.

 

أهمية القدوة في أوساط النساء:

إننا في ظل الظروف الحالية والمرحلة الخطيرة المقبلة بحاجة ماسة إلى قدوات من نساء فقهن دينهن ووعين دورهن في المجتمع، إذ إن هناك مجالات وميادين نسائية كثيرة تفتقر إلى التوجيه القيادي العملي، ولاسيما في مجالي التربية في البيوت والتعليم في المدارس والجامعات. ومع ذلك فهناك من النساء الرائدات كان لهن التأثير الكبير بفضل الله على أزواجهن وأسرهن وطالباتهن من خلال أسلوب القدوة الفعَّال.

 

ومع أنَّ الصحوة العلمية والحركة الدعوية في أوساط النساء قد بلغت في وقتنا الحاضر من القوة والنشاط ما لم يسبق له مثيل فيما مضى، إلا إنه لا يزال الأمر محصوراً في طبقة المتدينات والراغبات في الخير إجمالاً، بينما هناك في أوساط النساء جماعات كثيرة وشريحة ضخمة لا يبلغهن ذلك الخير ولا تصلهن الدعوة، وذلك في الغالب بسبب الغفلة والانشغال بأمور الدنيا.

 

فكيف يمكن إيصال الدعوة إليهن والتأثير عليهن؟

إنه عن طريق القدوة الصالحة لتلك المرأة الواعية الفاضلة التي لا بدَّ أن تكون موجودة بين صفوف أولئك النسوة.

 

عندها يفهم الجميع هذا الدين ويدركون المطلوب منهم والمحذور عليهم، من خلال النساء الصالحات القدوات.

 

نصائح وتوجيهات لكل موفقة اصطفاها الله - جل وعلا - لتكون أسوة تحتذى ومنارة للهدى:

إنَّ الذي ينحدر للتهافت على الملذات ذلك الذي رضي لنفسه أن يعيش دائماً في القاع، وأما من يرقى في سلم الطاعات ومجاهدة الملذاتº فذلك صاحب الإمامة في الدين وقدوة المتقين ومضرب الأمثال للعالمين، وإن كانت امرأة {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمرَأَةَ فِرعَونَ}.. وكذلك {َمَريَمَ ابنَتَ عِمرَانَ الَّتِي أَحصَنَت فَرجَهَا..}.

 

فلذلك أيتها الموفقة، يا من هداك إلى طاعته وبيَّن لك سبيله، يا طالبة العلم الشرعي، يا من نشأت في بيوت الصلاح والدعوة، يا أم وزوجة وأخت وبنت الداعية، يا نساء بيوت العلم والصحوة.

 

إلى المثل التي يحتذي بها غيرها من النساء، إلى القدوة الصالحة لغيرها من المؤمنات، إلى المثال الحي الواقعي لحياة ملأتها المغريات والملهياتº حتى ظنَّ بعض المفتونات أنَّ بلوغ ذلك المستوى من تكوين الذات وإنشاء مثل تلك البيوت من الأمور المستحيلة.

 

وإليك ـ أختي القدوة الداعية بأفعالك ـ هذه التوصيات والتنبيهات:

1ـ الحذر من التساهل الذي يفتن العامة ويلبس عليهم، مثل الأخذ بالرخص وبعض أقوال أهل العلم الشاذة أو المرجوحة. ولما نهى عمر - رضي الله عنه – عبد الرحمن بن عوف عن لبس الخفين في الحج ـ أخذاً بالرخصة في ذلك ـº لخشية عمر أن يتوسَّع الناس في ذلك، قال له:\"عزمت عليك إلا نزعتهما، فإني أخاف أن ينظر الناس إليك فيقتدون بك\". ومن ذلك في الوقت الحاضر: تساهل كثيراً من الخيرات، بل وبعض طالبات العلم الشرعي في ركوب السيارة مع السائق لوحدها وحصول الخلوة بذلكº أخذاً بقول بعض من رخص، وكذلك التساهل في الوقوع في بعض الأمور المستحدثة التي ترجح تحريمها، كما في مسألة تشقير الحاجبين ليبدوا أدق قريباً من وصف النمص، وذلك مما أفتت اللجنة الدائمة للإفتاء بعدم جوازه.

 

بل إن صاحبه الأسوة الحسنة قد تحتاج إلى ترك بعض المباحات أو التقليل منهاº احتياطاً لأمر دينها وبعداً عن الشبهات وصيانة لنفسها عن مواطن سوء الظنº لأنَّ ذلك ينفر الناس من الاقتداء بها. ككثرة المزاح والضحك وكثرة الخروج والزيارات وامتدادها الساعات الطويلة بغير حاجة ولا مبرر شرعي.

 

2 ـ إنَّ مما يساعد المرأة المسلمة على الارتقاء بذاتها إلى درجة القدوة: أن تتخذ مع اقتدائها بنبيها وسلفها الصالح ـ من بعض من تلقاه من الصالحات العالمات بدينهن مثلاً تقتدي بهº لأنَّها لا بدَّ وأن تجد فيمن عاشرته وتلقت عنه سمتا وهديا فائقا يجذبها إليه، فتستطيع من خلال التأمل أن تقف على أفضل ما يحمله من حولها من الصالحين والصالحات من صفات، ثم تستلهم من ذلك الدافع القوي لتربية ذاتها، فقد تجد عند البعض حسن التعامل مع الآخرين.. كالصفح عن المسيء وحسن الظن ولطف الخطاب وسعة الصدر والتواضع وإنكار الذات، وقد تلمح عند أخريات الإسراع إلى فعل الطاعات وبذل الصدقات، ثم قد يجذبها عند الأخرى حسن مظهرها المتلائم مع تعاليم دينها مع احتفاظها ببهائها وجمالها ونظافتها، كل ذلك من غير إسراف ولا مخيلة.

 

ولهذا التوجيه أصل عظيم في كتاب الله - تعالى -، حيث قال الله - تعالى - آمراً نبيه بالنظر في أحوال وأوصاف الأنبياء قبله متخذاً هديهم أسوة له، فقال - تعالى -: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقتَدِه..}.

 

3 ـ لا بدَّ وأن تكوني واضحة وصادقة مع نفسك لاكتشاف نوعية التصرف والخطأ الذي لا يصلح معه أن تكوني قدوة ويسقط هيبتك الدينية، ومن ثم انتفاعهم بكلامك، بل قد يكون ذلك سبباً في فتنة الآخرين وضلالهم تأسياً بخطاك، وذلك الأمر يتطلب الوقوف على النفس بالمحاسبة ومراجعة الذات ثم العمل على تهذيبها ومجاهدة ما شقّ عليها.

 

4ـ الحذر من بعض الأمور الدارجة في هذا العصر، والتي تهافت عليها الكثير من النساء لقصورهم العلمي ونقص ديانتهم، فأصبحت في بعض المجتمعات والأسر من المشاهد والظواهر المألوفة، مع مخالفتها الصريحة للدين وبيان حكم تحريمها، ولكن لغلبة ممارستها وكثرة الوقوع فيها استسهلها وتأثر بها كثير من الصالحات والقدوات، وشاكلن الجاهلات في ذلكº فاختلط الأمر على العامة وتلبس الباطل والمنكر بلبوس الحق والمعروف.

 

ومن ذلك:

أ ـ ما يتعلق بالمظهر واللباس، سواء في لبس الحجاب عند الخروج، أو لبس الثياب والزينة عند النساء، فأما مظاهر القصور والخلل في الحجاب متنوعة، منها: التساهل في لبس النقاب الواسع والبرقع، وانتشار ذلك، ولبس العباءة على الكتف والجلباب، والتساهل في ستر القدمين والساق بالجوارب، ولنا في عائشة - رضي الله عنها - أسوة حسنة عندما كانت تشدّ خمارها حياء من عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو ميت في قبره عندما كانت تدخل البيت الذي دفن فيه. وأمَّا التساهل في المظهر واللباس والزينة بشكل عام، فقد عمَّت به البلوى في أوساط بيوت الصالحين، وتقلَّد حملها ووزرها كثير ممَّن هم مظنة القدوات لغيرهن.. فلبسن الملابس الضيقة المحجمة لأجسادهن بشكل تأباه الفطر السليمة ويحرمه الدين القويم كما صحَّ في حديث الكاسيات العاريات. وكذلك الملابس شبه العارية التي تكشف عن أجزاء من الجسم شأنها أن تُستر، وللأسف.. لقد عظم الخطب، وقد كان النكير من قبل على عامة النساء اللواتي وقعن في هذه المظاهر الخداعة من التقليد الساذج للغرب، ولكن ـ للأسف ـ نجد هذه المظاهر انتقلت إلى كثير من الصالحات وتساهلن بها في أنفسهن وفي أهليهن.

 

ب ـ كثرة الخروج للأسواق والتجوال بها، وكذلك الملاهي والمطاعم التي يكثر فيها المنكرات وتجمع الفساق. والأصل قرار المرأة في بيتها لغير حاجة شرعية {وقرن في بيوتكن}.

 

 ج ـ السفر بغير محرم، وفي الحديث المتفق عليه:\"لا يحل لامرأة أن تسافر يوما وليلة إلا مع ذي محرم\".

 

د ـ الخلوة مع الرجل الأجنبي، كالبائع في المحل والطبيب في العيادة والسائق في السيارةº لحديث\"لا يخلون رجل بامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما\".

 

هـ ـ التعطر عند الخروج من المنزل أو أثناء الزيارات والتجمعات النسائية وتقديم العطر والبخور لهن ومنهن من ستركب سيارتها مع سائق أجنبي يجد ريحها، ونسيت قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -:\"أيما امرأة استعطرت فمرَّت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية\".

 

و ـ الاختلاط بالرجال في البيوت بالجلسات الأسرية، أو إقرار ذلك أثناء جلوسها معهم، والسماح للبنات بمخالطة الشباب الذكور من الأسر القريبة، مع غياب الغيرة على الأعراض وعدم مراقبة المولى - جل وعلا -.

 

ز ـ الإسراف العام في شؤون الحياة، والمبالغة في الاهتمام بالتوافه من أمر الدنيا، كتزيين المنازل واقتناء الأواني والإسراف في الملابس والحلي والولائم، على وجه التفاخر والتكاثر المحرَّم والذي غرق فيه أرباب الدنيا ـ نسأل الله العافية ـ.

 

5 ـ إنَّ الفرق الذي بيننا وبين أسلافنا وقدواتنا الصالحة أنَّ المسلمات كنَّ جميعاً قدوات بعضهن لبعض {وَالمُؤمِنُونَ وَالمُؤمِنَاتُ بَعضُهُم أَولِيَاء بَعضٍ,..}º وذلك بسبب قوة علاقتهن بالله - تعالى -،\"ومن كان بالله أعرف كان منه أخوف\".. كانت القلوب بالله متصلة وحريصة على تأدية أمانة هذا الدين.

 

والآن قلَّ أن نجد هذه البواعث فينا إلا من رحمه اللهº لغلبة الغفلة والتعلق بالدنيا وشهواتها، وكلما بعد الزمن عن زمن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ازداد هذا الجهل وقلَّ التأثر وتساهل الناس في أداء الأمانة وغابت قيادة القدوة.

 

قال - صلى الله عليه وسلم -: \"وإذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة\".

 

وفي الختام أخاطب أختي المسلمة فأقول:

انظري إلى نفسك: هل تريدين الدنيا أم الآخرة؟

 

فإن كانت تريد الدنيا فروّضيها على حبّ الآخرة، وجاهديها على الاستعداد لها وأكثري الدعاء. وإن كانت تريد الآخرة فاغتنمي وقتك واستزيدي من العمل الصالح واضربي أروع الأمثلة وأرقى النماذج للمسلمات من بنات عصرك.

 

تأملي سيرة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم القدوة، ادرسيهاº لعلها تكون زادك إلى الله والدار الآخرة، وكذلك سير أسلافك من الصالحين العابدين العالمين من رجال ونساءº طلباً لشحذ همتك ودفعاً لنفسك للتأسي بهم.

 

سائلين ربنا ومولانا - جل وعلا - أن يتولانا فيمن تولى من عباده الصالحين، ويدخلنا برحمته في زمره أوليائه أئمة الهدى، ونسأله - جل وعلا - أن يجعلنا للمتقين إماماً.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply