نقولات مختارة من كتاب ( أدب النفس ) للحكيم الترمذي


 

بسم الله الرحمن الرحيم

المجموعة الأولى

قال الحكيم الترمذي - رحمه الله -:

1- إن الله أنشأ خلقهº لإظهار ربوبيته، ولبروز آثار قدرته، وتدبير حكمته، وليكون ذكره ومدحه مردداً على القلوب وعلى ألسنة الخلق والخليقة، لما علم في غيبه، فأنبأنا في تنزيله، فقال - جل ذكره -: [وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرضَ بِالحَقِّ وَلِتُجزَى كُلٌّ نَفسٍ, بِمَا كَسَبَت] الجاثية: 22.

فَأَعلَمَنا لِمَا خلق، فقال: [وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعبُدُونِ] الذاريات: 56. فقال أهل اللغة: إلا ليوحدون، ومثل ذلك قوله - تعالى -: [إِيَّاكَ نَعبُدُ] الفاتحة: 5 يعني نوحد. ص11

2- وأباح ذكره على كل حالº تقديماً له على سائر الحالات وأعمال البر، وحصر ما سواه من الأفعال في أوقات مخصوصة، مع ما ذكر في الكتاب، وجرت به الأخبار عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بتفضيل الذكر على سائر الطاعاتº لأن في الذكر مدحه. ص12

3- وندب العباد في غير آية من كتابه إلى أن ينشروا ذكره، ويذكروا عنه جميل صنائعه، فقال -تعالى-: [وَلِلَّهِ الأَسمَاءُ الحُسنَى فَادعُوهُ بِهَا] الأعراف: 180

في كل ذلك يحثهم على مدحه، وذكره بالجميل، والثناء الحسن، وفي كل اسم له مدحه، وجميل ذكره. ص13

4- ثم إن الله - تعالى - دعاهم إلى أن يوحدوه قلباً وقولاً وفعلاًº فمن قبل ذلك منه جملة، فاستقرت المعرفة بأنه واحد، فاطمأن به قلبه، وترجم به لسانه عما في ضميره، وعزم على الفعل مائلاً له - فقد آمن به، وهذا كله من العبد في وقت واحد، فركب فيه الشهوات والهوى، وجعل للشياطين فيهم وساوس يجرون فيهم مجرى الدم، ويغوصون غوص النون في البحر. ص14

5- وجعل القلب ملكاً على الجوارح، فالشهوة تحرك البدن الساكن، وتزعج القلب، والشيطان يمنِّيه، ويزين له، ويَعِدُه، والهوى يميل به، ويقودهº فالمؤمن قلبه مطمئن بالإيمان، والتوحيد ظاهر على لسانه.

فإذا جاء وقت فعل الأركان عمل فيه الشهوات، وزين له العدو، ومال به الهوى حتى يفعل الفعل الذي يخيل إليك في الظاهر أنه لم يؤمن بعد، فهو موحد بالقلب واللسان.

ولكن تغلبه الشهوة وقوتها، فبظلمة هذا الهوى، ووسوسة هذا العدو والتزيٌّن غلب على القلب، لا على ما في القلب، مما في القلب من المعرفة، فالقلب به مطمئن، ولكن صار مأسوراً مقهوراً، وهو أبداً لمن غلب عليه، وقهره. ص14، 15

6- فمَن نَوَّرَ الله قلبه بنور الإيمان قويت معرفته، واستنارت بنور اليقين، فاستقام به قلبه، واطمأنت به نفسه، وسكنت، ووثقت، وأيقنت، وائتَمَنته على نفسها، فرضيت لها به وكيلاً، وتركت التدبير عليهº فإن وسوس له عدو بالرزق والمعايش لم يضطرب قلبه ولم يتحيرº لأنه قد عرف ربه أنه قريب، وأنه لا يغفل، ولا ينسى، وأنه رؤوف رحيم، وأنه رب غفور رحيم، وأنه عدل لا يجور، وأنه عزيز لا تمنع منه الأشياء، وأنه يُجِير ولا يُجار عليه. ص16، 17

7- فعامة أهل التوحيد قد أيقنوا بهذا، إيماناً به، وقبولاً له، ولم يستقر ذلك الإيمان في قلوبهم حتى إذا كانت وقت الحاجة اضطربت قلوبهم، وتحيرت، واشتغلت عن خالق الأشياء ومالك الملوك.

وأهل اليقين الذين قد استنار الإيمان في قلوبهم فسكنت القلوب، واطمأنت النفوس إلى ضمان ربها، وقربه منهم، وقدرته عليهم. ص17

8- وإنما تقع حلاوة صنع الصانع في قلبك على قدر حبك للصانع، وإنما تحب الصانع على قدر معرفتك بقدره، وكلما كنت به أعلم، وكان هو أرفع منزلة في الأشياء كان قدره عندك أعظمº فهو إليك أحب. ص26

9- قال له القائل: وما رياضة النفس؟ وكيف يكون ذلك؟ قال: يسير على من يسره الله ووفقهº فأما الرياضة فهي مشتقة عربيَّتها من الرضِّ، وهو الكسر، وذلك أن النفس اعتادت اللذة والشهوة، وأن تعمل بهواهاº فهي متحيِّرة، قائمة على قلبك بالإِمرة، وهي الإمرة بالشهوة، فيحتاج إلى أن يفطمها، فإذا فطمها عن العادة انفطمت. ص34

10- ويقال في اللغة: راض، ورضَّ، بمعنى واحد، فمن قال: رضَّ، فلما أدغم الألف في الضاد شدَّد، ومن أبرز الألف خفَّف الضاد، فقال راض، فالرَّض الكسر، فقيل في الأشياء المكسورة: رضَّ، وقيل في الأخلاق المكسورة: راضº فهذه النفس إذا فطمتها انكسرت عن الإلحاح عليك، ومنازعتك في الأمورº فإن النفس اعتادت اللذة والشهوة، وأن تعمل بالهوى، فإذا فطمتها عن العادة انفطمت، ألا ترى أن الصبي إنما اعتاد ثدي أمه، كيف سكوته بذلك الثدي، إنما يحنٌّ إليه إذا فقده، وكيف يفرح به إذا وجده. فكذلك النفس الشهوانية، فإذا فطم الصبي انفطمº حتى لا يلتفت إلى الثدي بعد ذلكº لأنه وجد طعم ألوان الأطعمة، فلا يحن إلى اللبن، كذلك النفس إذا وجدت طيب اليقين، وروح قرب الله -تعالى- وحلاوة اختيار الله - عز وجل - وجميل نظره لها، لم تَحِنَّ إلى تلك الشهوات. ص34، 35

11- قيل له: فبماذا يوجد اليقين؟ قال: بطهارة القلبº لأن اليقين طاهرº فيطهر مكانه ومستقره.

قيل له: وما طهارته؟ قال: ترك ما اضطرب القلب عليه ورابك منهº تورٌّعاً دق أو جل، ثم تطهره من التعلق بالشهوات والاشتغال بها، فإذا أنت فعلت ذلك صقلت قلبك فصار لك مرآة بالتورع، فكلما تفكرت شيئاً من أمر الآخرة، تمثَّل ذلك في مرآتك، حتى تصير الآخرة لك معاينة. ص35، 36

12- ألا ترى أن البازي كيف كان نفاره من الآدميين في الجبال الشامخات، فلما رُبَّ وأُمسِكَ على التربية أنس بصاحبه، وأخذت التربية بقلبه، واعتاد السكون معهº فنزع عن النفار، وترك همَّ الطيران، واطمأن إلى صاحبه، حتى إذا أرسله وحثَّه على الطيران طار، فأصاد وأمسك عليه صيدهº تحرِّياً لموافقته مولاه، ثم إن دعاه من الطيران رجع، وآثر هواه على هوى موافقة نفسه، فأجابه منقضَّاً إلى حبله وسباقه.

أفلا يحق على مؤمن أبصر هذا أن يموت كمداً وعبرة، وأسفاً على فوت هذا من نفسه أن يكون طيره أسمع له وأطوع، وأشدَّ تحرِّياً لموافقته، وألزم لنصيحته من العبد المؤمن لربه؟ ص37، 38

13- فكذلك يصير العبد إذا راض نفسه بترك الشهوات، وقطع الأسباب، وانقطع عن اللذات، ومجاهدة الهوى، وامتناعه عما يريد حتى تذلَّ، وتنقمعº فحينئذ ينقاد القلب والعقل، وتستقيم في سيرها على حدِّ ما أمر به، ولا تهاب أحداً في أموره، ولا تخاف فيه لومة لائم. ص41

14- فإذا غفلت عن النفس بعد رياضتها فلا تأمن أن تعود إلى بعض عاداتها ما دامت الشهوات منها حية، والهوى قائماً، ألا ترى أن القوس إذا تُرك استعمالها وتعاهدها وعتقت[1] وكيف يأخذ البيت الأسفل من البيت الأعلى؟ فكلما رميت بها سهماً أخطأ الغرضº كذلك النفس إذا تركتها حتى تقوى شهواتها، ويشتد حرٌّها في الجوف، وتقوى ظلمة الهوى أخذت من البيت الأعلى، وهو نور العقل، ونور المعرفة، ونور الروح، ونور العلم، فتحرق بنيران الشهوات من هذه الأنوار التي في القلب بقدر قوتها.

وإذا قويت بنيران الشهوات ضعفت الأنوار، فيظلم الهوى على اليقين، فيتولد الشك على القلب من هذه الآفات، فتغلب على القلب هذه الآفات. ص58

15- أفلا ترى كيف تعالج القوس، وتحمى حتى تلين، فإذا لانت سويت، حتى يرجع البيت الأعلى إلى مكانه، وإنما زال عن مكانهº لأن البيت الأسفل لما قوي وصلب مُدَّ بالبيت الأعلى بفضل قوَّته، فكذلك النفس لما قويت وصلبت شهواتها، انتشرت وهاج هواها، فأحرقت أنوار القلب، والقلب هو رطب بالأنوارº لأن النور هو من الله - تعالى - رحمة، والرحمة باردة، والقلب ليِّن منقاد برطوبة تلك الأنوار.

فإذا احترق النور، صلب القلب، وقسا، ويبس، فخفَّ عن ذكر الله، ولها عنه. ص59، 60

 

----------------------------------------

[1] عتقت من العتيق، وهو القديم من كل شيء. 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply