الحزن عارض بشري يعرض للتقي والفاجر


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد: فإن الله  تعالى عليم بخلقه حكيم في قضائه، وإذا كان الله حكيما عليما فليس لنا إلا الصبر والرضا والتسليم، فهل يعارض الحزن شيئا من ذلك؟ لعل في قول الله تعالى عن نبيه يعقوب -عليه السلام - جواباً: {وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيمِ } [يوسف: 84]، وإذا تقرر أن يعقوب -عليه السلام- نبي كريم، يستحيل عليه الكذب في إثبات الصبر الجميل لنفسه، علم أن الحزن لا يعارض الصبر والرضا والتسليم. إن الحزن شعور لا بد أن يعتري الإنسان السوي، إن وجد سببه، كالألم والغضب، بل كالجوع والعطش، فإن الله - تعالى-  قد ركب في الناس الإحساس، ويكون الشعور بحسب ما يجده الحس من أثر المحسوس وجودا وعدما. ولما كان الحزن من عوارض الطبيعة البشرية، لم يكن يوما من الدهر محرما في شريعة سماوية طالما كان مقتضيه صحيحا، ولهذا قال الله - تعالى - عن أهل الجنة: {وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفورِ شكورِ } [فاطر: 34]، وقال لخير النبيين - صلى الله عليه وسلم- : {يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر} [المائدة: 41]، بل قال -  تعالى - {قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } [الأنعام: 33]، وفي الصحيح عن أنس -رضي الله عنه-   قال: قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهرا حين قتل القراء، فما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -حزن حزنا قط أشد منه(1)، وقال -تعالى- فيما أخبر به عن نبيه وصديق هذه الأمة: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} [التوبة: 40]، وقال للمؤمنين: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } [آل عمران: 139]، {ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون } [التوبة: 92]. فليس الحزن مختصا بضعفاء الإيمان أو الفجار، بل هو مختص بمن ركب فيه الإحساس، فلا غضاضة في الحزن إذن، فقد حزن الأنبياء وحزن الصديقون وحزن الصالحون، قبل وبعد يعقوب -عليه السلام-. فالحزن عارض بشري، يعرض للتقي والفاجر، والمسلم والكافر، فإن كان منشأ الحزن أمرا لا يد للمرء فيه، كقضاء كوني نزل فأصابه، أو كان منشؤه مشروعا كجهاد قتل فيه ابنه، كان صبر المسلم على الحزن خيرا له، وكان حزنه سببا في تكفير سيئاته، فعن صهيب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : (عجبا لأمر المؤمن! إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له).

أما إن كان منشأ الحزن معصية فإنه إما أن يحزن على مقارفتها، أو على فوتها، فإن حزن على مقارفته لها فهذا من جنس الأولº لأنه متعلق بالندم على الذنب وهو أحد أركان التوبة، وأما إن كان الحزن على فوتها فذلك حزن محرم وأثره المترتب عليه مؤاخذ به العبد، ومثله الحزن على فعل واجب لا لعارض، أو الحزن على قضاء كوني هو خير للمؤمنين أو شر على الكافرين، وقد جاء في الحديث: (إنما الدنيا لأربعة نفر.... وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علما فهو يخبط في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقا، فهذا بأخبث المنازل) قال: (وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما، فهو يقول: لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته فوزرهما سواء).  والذي يحزن على فوت المعصية يشبه من عقد العزم على فعلها وليست عنده أسبابها، وقد أمرت الملائكة لوطا لما جاءت تجعل قرية قومه عاليها سافلها لئلا يحزن، قالوا: {وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك} [العنكبوت: 33]، وقال الله  -تعالى- : {فمن تبع هداي فلا خوفِ عليهم ولا هم يحزنون} [البقرة: 38]، وقال سبحانه: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين)} [آل عمران: 139]. وقد جعل من أسباب ذم المنافقين والكافرين فرحهم بما يسوء المسلمين، والحزن بما يفرحهم من قبيله، قال الله - تعالى- : {إن تصبك حسنةِ تسؤهم وإن تصبك مصيبةِ يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون} [التوبة: 50]. وقال: {إن تمسسكم حسنةِ تسؤهم وإن تصبكم سيئةِ يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيطِ } [آل عمران: 120]، وقال: {فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون } [التوبة: 81]. والشاهد أن الحزن عارض كالألم، غير مرغوب فيه أو مرغب إليه من حيث هو، كالجوع والعطش، بل هو مصيبة من جملة المصائب، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -كما في حديث أبي هريرة: (ما يصيب المسلم من نصب، ولا وصب، ولا هم، ولا حزن، ولا أذى، ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه).  وإذا كان كذلك فإن على المسلم أن يدافعه - أيا كان منشؤه - ما أطاق، أو يكظمه ما استطاع، كما أن عليه ألا يخرج به - وإن كان منشؤه مباحا أو محمودا - عن حدود الشرع فهذا ممنوع، فإن كان الذي يجوع لا يسوغ له أن يأكل الخنزير، بل عليه أن يتخير من الحلال الطيب، مع أن أكل الخنزير قد يكون سببا للشبع، فكذلك المحزون ليس له أن يذهِب حزنه بمحرم. ولئن قتل الجائع نفسا بحجة الجوع، أو قارف جرما آخر ليس سببا للشبع بحجة الجوع، كان ذلك من القبح بمكان أظهر. فكذلك الذي يحزن ليس له أن يتكلم بما لا يليق، وليس له أن يشق ثوبا أو يلطم وجها، أو يفعل فعلا يخرج به إلى حد التسخط والجزع، فتلك أفعال محرمة، ولا علاقة لها بدفع الحزن، كحال من يجوع فيقارف جرما ليس سببا للشبع، بل تلك الأفعال مع الحزن أشد حرمة لما تضمنته من الحرمة ولما اشتملت عليه من تسخط قدر الله، فنسأل الله أن يعافينا، وألا يبتلي ضعفنا، وأن يلهم المصابين الصبر، وأن يكتب لهم عظيم الأجر، وأن يذهب عنا وعنهم الحزن إن ربنا لغفور شكور.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply