بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وبعد:
فإن اللَّه جلت قدرته وسعت رحمته كل شيء، قال - تعالى -: {ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون }[الأعراف: 156].
وقد أخبر المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في غير ما حديث عن واسع فضل اللَّه ومغفرته لعباده المؤمنين، فقد روى البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى امرأة تحمل صبيًا وتلقمه ثديها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «تظنون أنها تلقي بولدها في النار؟ » فقالوا: لا يا رسول اللَّه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فالله أرحم بعبيده من هذه بولدها».
وروى الإمام أحمد في مسنده وأبو يعلى من حديث أبي سعيد الخدري : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قال الشيطان: وعزتك يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال اللَّه - تعالى -: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني.
قال المناوي - رحمه الله -: وهذا وعدٌ من الرحمن بالغفران.
ولكن ليتنبه السالك إلى اللَّه - تعالى - أن السلف كانوا مع زهدهم وعبادتهم وقربهم من اللَّه - تعالى - وعلمهم بسعة رحمة اللَّه يخافون ألا يتقبل منهم، قال - تعالى -: {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون} [المؤمنون: 60].
وعند البخاري من حديث عائشة - رضي الله عنها - مرفوعًا: «هم الذين يصومون ويتصدقون ويخشون ألا يتقبل منهم».
والمرويات عن السلف في ذلك كثيرة مما يدل على إخلاصهم وخوفهم من اللَّه - تعالى -، لذلك فمن الأمور الخطيرة والتي ينبغي التنبيه عليها مسألة ردّ العمل أو حبوط الأعمال، وهذه المسألة بيّن اللَّه - تعالى - خطرها وعظم شأنها وضرب لذلك مثلاً في سورة البقرة، فقال - تعالى - : {أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون}، وفي صحيح البخاري عن عبيد بن عمير - رحمه الله - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: ضرب اللَّه مثلاً لعمل، قيل أي عمل؟ قال: لعمل رجل كان يعمل بطاعة اللَّه ثم أحرق الشيطان عليه عمله.
وها هي بعض الأسباب المؤدية إلى حبوط العمل - عسى اللَّه - تعالى - أن يحفظنا ويحفظ علينا ديننا.
أسباب محبطات الأعمال
أولاً: الشرك بالله - تعالى -:
وهو الداء الخبيث والمرض القاتل لا محالة إلا أن يتوب صاحبه، ومن تاب، تاب اللَّه عليه، قال - تعالى -:{ ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين} [الزمر: 65].
وقال - تعالى -: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما} [النساء].
وليعلم المسلم أن الشرك بالله - تعالى - لا تقوم أمامه قائمة من عملٍ, أبدًا لقوله - تعالى -: {ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون} [الأنعام].
ويقول - تعالى - في سورة الإسراء: {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا} قال: وهو مؤمن لأن الكفر والشرك لا يصلح معهما أي عملٍ, قط، ودليله ما رواه البخاري عن عائشة - رضي الله عنها - أنها سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عبد اللَّه بن جدعان وكان رجلاً مشركًا مات في الجاهلية يطعم الطعام وينصر المظلوم وله من أعمال البر الكثير، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «ما نفعه ذلك، إنه لم يقل يومًا رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين».
إن من سنن اللَّه - تعالى - التي لا تتغير أن اللَّه لا يقبل من عباده عملا إلا أن يأتوا بالتوحيد الذي هو حق اللَّه على العبيد، ففي الصحيحين عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: كنت رديف النبي - صلى الله عليه وسلم - على دابته فقال: «يا معاذ». فقلت: لبيك رسول اللَّه وسعديك. فقال: «يا معاذ بن جبل». قلت: لبيك رسول اللَّه وسعديك. فعاد الثالثة. فقلت: لبيك رسول اللَّه وسعديك. فقال: «أتدري ما حق اللَّه على العباد». قلت: اللَّه ورسوله أعلم. فقال: «حق اللَّه على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا».
وما قرر النبي - صلى الله عليه وسلم - النداء إلا لأمر عظيم ينبغي ألا يغفل الناس عنه لأنهم ما خلقوا إلا لعبادة اللَّه تعالىº لقوله - سبحانه -: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56]، أي إلا ليوحدون.
وقال - تعالى -: {وإن من أمة إلا خلا فيها نذير}، قال ابن كثير - رحمه الله -: نذير بالتوحيد ونذير عن الشرك.
كذلك في أمر الشفاعة يوم القيامة، فهي خاصة بأهل التوحيد الذين خلّصوا أنفسهم من دنس الشرك، ودليله ما رواه أحمد في مسنده من حديث أبي موسى ورواه الترمذي وابن حبان عن عوف بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أتاني آتٍ, من عند ربي فخيرني بين أمرين: أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة، فاخترتُ الشفاعة، وهي لمن مات من أمتي لا يشرك بالله شيئًا».
روى الإمام أحمد من حديث الحارث الأشعري - رضي الله عنه -، وذكره ابن كثير في تفسيره عند قوله - تعالى -: يا أيها الناس اعبدوا ربكم، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن اللَّه أوحى إلى يحيى بن زكريا - عليهما السلام - أني آمرك بخمس كلمات أن تعمل بهن وأن تأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فجمع يحيى بن زكريا - عليهما السلام - بني إسرائيل وقال: إن اللَّه أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وأن أمركم أن تعملوا بهن، وأولهن: أن تعبدوا اللَّه ولا تشركوا به شيئًا، فإن مثل ذلك كمثل رجل اشترى عبدًا من خالص ماله من ذهب أو من ورِق فجعل العبد يعمل ويؤدي نتاج عمله إلى غير سيده، فأيكم يسره أن يكون عبده كذلك».
فيا أخي الحبيب: إياك أن تشرك بالله ربك الذي خلقك فسواك فعدلك، وهو الذي أطعمك ورزقك وأعطاك ومنحك وهو الذي بيده كل شيء وإليه يرجع الأمر كله، فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون.
ثانيًا: الرياء
مثل أن يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر الناس إليه.
ثالثًا: انتهاك محارم الله في الخلوة
وفي سنن ابن ماجه من حديث ثوبان - رضي الله عنه -، وصححه الألباني في الصحيحة (5028) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليأتين أقوام من أمتي يوم القيامة بحسنات كأمثال جبال تهامة بيضاء فيجعلها اللَّه هباءً منثورًا، فقال الصحابة - رضي الله عنهم -: صفهم لنا يا رسول اللَّه نخشى أن نكون منهم؟ فقال: هم منكم يصلون كما تصلون ويصومون كما تصومون ويأخذون من الليل ما تأخذون، غير أنهم إذا خلوا بمحارم اللَّه انتهكوها». نسأل اللَّه السلامة والعافية.
رابعًا: المن بالعمل الصالح
الله - تعالى - يقول: {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر} [البقرة]
وفي صحيح مسلم عن أبي ذر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثلاثة لا ينظر اللَّه إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم». فقالوا: صفهم لنا يا رسول اللَّه، فقد خابوا وخسروا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «المسبل إزاره، والمنان بعطيته، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب».
خامسًا: رفع الصوت فوق صوت النبي - صلى الله عليه وسلم -
وقد عدّ العلماء رفع الصوت بعد وفاته كرفعه في حياته أو عند قبره قال - تعالى -: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} [الحجرات: 2].
قال القرطبي: هذا في حال حياته وبعد مماته لأنه محترم حيًا وميتًا - صلى الله عليه وسلم - فقال - تعالى -: {إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم} فعبر بغض الصوت مع أن الغض للبصر، وهذا أعلى مراتب الأدب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
كذلك لا تقدم كلامًا على كلامه وأمرًا على أمره - صلى الله عليه وسلم - وذلك لأن من شروط قبول العمل أن يكون صوابًا (أي على هدي رسول الله) قال ابن القيم - رحمه الله -: وإياك أن ترد الأمر لأول وهله لمجرد مخالفته هواك فتعاقب بتقليب القلب عند الموت، لقوله - تعالى -: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون} [الأنعام: 011]
سادسًا: التألي على الله
روى أبو داود في سننه في كتاب (الأدب) باب النهي عن البغي، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين أحدهما مطيع والآخر مقصر فما زال المطيع بالمقصر يؤنبه في ذات الله حتى قال له المقصر: خلني وربي أكنت علي رقيبًا، فقال المطيع والله لا يغفر الله لك، وفي رواية (والله ليدخلنك الله النار) فقال الله للمطيع: أكنت بي عالمًا أم كنت على ما في يدي قادرًا ادخل النار) قال أبو هريرة: فوالله إنه تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته.
وروى مسلم في صحيحه من حديث جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أن رجلا قال والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله من ذا الذي يتألى عليّ أن لا أغفر لفلان قد غفرت لفلان وأحبطت عملك».
سابعًا: كراهية شيء مما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن عمل به:
قال - تعالى -: {ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم} [محمد: 9].
فكراهية شيء من شرع الله - تعالى - وهدي نبيه الأمين محبط للعمل كالذي يعتقد أن الشرع لا يصلح في هذه الأزمنة ويرونه جمودًا ورجعية.
فهذه بعض أسباب حبوط العمل، أسأل اللَّه - تعالى -أن يحفظنا ويحفظ علينا ديننا، ونسأله التوفيق والرشاد، إنه على كل شيء قدير.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد