بسم الله الرحمن الرحيم
النص:
ولقد كان لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مواقف كثيرة في الزهد والورع نذكر نماذج منها، فمن ذلك ما أخرجه الإمام أحمد من حديث المسور بن مخرمة - رضي الله عنه - قال: أُتِيَ عمر بمال فوُضِع في المسجد، فخرج إليه يتصفَّحه وينظر إليه فهملت عيناه، فقال عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -: يا أمير المؤمنين ما يبكيك فو الله إن هذا لَمِن مواطن الشكر، فقال عمر: إن هذا والله ما أعطِيَهُ قوم قط إلا أُلقِيَ بينهم العداوة والبغضاء (1).
فهذا يعدٌّ من فقه عمر - رضي الله عنه - فقد أشفق على المسلمين من أن يفتتنوا بالدنيا، فتكون سببا في تباعد قلوبهم وإثارة النزاع بينهم، ولقد بلغ به التأثر من ذلك إلى حد البكاء، وقد اختلفت نظرة الصحابيين الجليلين - رضي الله عنهما - إلى ذلك المال، فنظر إليه عمر على أنه سبب من أسباب الفتنة، ونظر إليه عبد الرحمن بن عوف على أنه نعمة من الله - تعالى -، وكلا النظرتين تَصدُقان على ذلك المال، وكل واحد من هذين الصحابيين يدرك النظرتين كلتيهما، لكن في تلك اللحظة غَلَب على فكر عمر الإشفاق على الأمة من الخطر الذي هي مُقدمة عليه فبكى، وغلب على عبد الرحمن بن عوف ملاحظة شكر النعمة فأظهر الفرح.
ومن ذلك ما أخرجه الإمام أحمد - رحمه الله تعالى -من حديث يحيى بن جَعدة قال: قال عمر - رضي الله عنه -: لولا ثلاث لأحببت أن أكون قد لقيت الله - عز وجل -: لولا أن أضع جبهتي لله - عز وجل -، وأجلسَ في مجالس يُنتقَى فيها طيب الكلام كما يُنتقى فيها طيب التمر، وأن أسير في سبيل الله - عز وجل - (2).
ففي هذا الخبر حدد أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - أنواعا من الأعمال الصالحة يحب البقاء في الحياة من أجلها، فالمؤمن الحق يحب لقاء الله - تعالى -، لأن هذه الحياة الدنيا ليست دار قراره وإنما دار قراره الحياة الآخرة، فهو يشتاق إلى نعيمها المقيم، ولا يحب البقاء في الدنيا إلا للعمل الصالح الذي يرفع من درجاته في حياته الباقية، وقد أشار عمر إلى ثلاثة من أجلِّ الأعمال الصالحة، وهي الصلاة، ومجالس العلم والذكر، والجهاد في سبيل الله - تعالى -، وقد كان - رضي الله عنه - من المكثرين من صلاة النفل، وممن تَعمر بهم مجالس العلم والذكر، أما الجهاد فكان هو القائد الأعلى للجيوش الإسلامية في بلاد العالم، وكان الجهاد شُغلَه الشاغل الذي أهمه وغلب على تفكيره، أما في داخل المجتمع الإسلامي فكان إمام المصلحين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.
وهكذا تكون الأهداف السامية، فكيف بمن يرغبون في البقاء في الحياة الدنيا من أجل أموال يُثَمِّرونها، أو قصور يعمرونها، أو شهوات يغذٌّونها؟! أولئك هم الخاسرون الذين قَصُرت أنظارهم، وتدنَّت أهدافهم، ففضلوا الأدنى على الأعلى والفاني على الباقي.
ومن ذلك ما أخرجه الإمام أحمد من حديث إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: قدم على عمر - رضي الله عنه - مسك وعنبر من البحرين فقال عمر: والله لوددت أني وجدت امرأة حسنة الوزن تَزِنُ لي هذا الطيب حتى أقسمه بين المسلمين، فقالت له امرأته عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل: أنا جيدة الوزن فهلمَّ أزِن لك، قال: لا، قالت: لِمَ؟ قال: - إني أخشى أن تأخذيه فتجعليه هكذا وأدخل أصابعه في صدغيه وتمسحي به عنقك، فأصيب فضلا على المسلمين (3).
فهذا مثل من ورع أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - واحتياطه البالغ لأمر دينه، فقد أبى على امرأته أن تتولى قسمة ذلك الطيب حتى لا تمسح عنقها منه فيكون قد أصاب شيئًا من مال المسلمين، وهذه الدِّقة المتناهية في ملاحظة الاحتمالات التي قد توقع في المحرمات أو الشبهات نورٌ يهبه الله - تعالى -لأوليائه السابقين إلى الخيرات، وفرقان يفرقون به بين الحلال والحرام والحق والباطل، بينما تفوت هذه الملاحظات على الذين لم يشغلوا تفكيرهم بحماية أنفسهم من المخالفات.
ومن ذلك ما أخرجه الإمام أحمد من حديث أبي عثمان النهدي قال: لما قدم عتبة (4) أذربيجان أُتِيَ بالخبيص فأمر بسفطين عظيمين (5) فصُنِعا له من الخبيص، ثم حمل على بعير فسرِّح بهما إلى عمر - رضي الله عنه -، فلما قدم على عمر ذاقه فوجده شيئًا حلوا، فقال: كل المسلمين يشبع من هذا في رحله؟ قال: لا، قال: فلا حاجة لنا فيه فأطَبقهما وردهما عليه، ثم كتب إليه: أما بعد فليس من كدِّ أبيك ولا من كد أمك فأشبع المسلمين مما تشبع منه في رحلك (6).
فهذه نظرة جليلة من أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - في التأكيد على مبدإ المساواة بين المسلمين، فالمطلوب في حياة المسلمين هو الزهد والتخشن في المعيشة الذي أوصى به عمر عتبة بن فرقد، ولكن لو فُرِض أن الخير عمَّ المسلمين فأصبحوا كلٌّهم يحصلون على الأطعمة الشهية فإن تناولها في بعض الأحيان لا ينافي حياة الزهد، ولكن حينما تكون هذه الأطعمة مقصورة على الخاصة فإن ذلك لا يجيز للوالي أن يصرف مال المسلمين لإطعام الخاصة منها، ولذلك قال عمر لعتبة حينما كتب إليه \" فليس من كدِّ أبيك ولا من كد أمك\".
وكذلك ما أخرجه الإمام أحمد من حديث حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال: أقبلتُ فإذا الناس بين أيديهم القِصَاع، فدعاني عمر فأتيته، فدعا بخبز غليظ وزيت، قال: قلت له: أمَنَعتني أن آكل من الخبز واللحم ودعوتني على هذا؟ قال: أنا دعوتك على طعامي فأما هذا فطعام المسلمين (7).
فهذا مثل من زهد أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه -، فإنه لم يُسَوِّ نفسه بعامة المسلمين في الطعام فضلا عن أن يزيد عليهم، وقد كان مقبولا منه أن يأكل من طعام عامة المسلمين، ولكنه لتقشفه وزهده يختار لنفسه طعامًا أقل ثمنًا من ذلك.
وأخرج الإمام أحمد أيضًا من حديث مصعب بن سعد قال: قالت حفصة بنت عمر: يا أمير المؤمنين لو لبستَ ثوبا هو ألين من ثوبك وأكلت طعاما هو أطيب من طعامك فقد وسع الله - عز وجل - من الرزق وأكثر من الخير، قال: إني سأخصمك إلى نفسك، أما تذكرين ما كان رسول الله (يَلقَى من شدة العيش؟ فمازال يذكِّرها حتى أبكاها، فقال لها: إن قلتُ لك ذاك إني والله لَئِن استطعت لأشاركنهما بمثل عيشهما الشديد لعلِّي أدرك معهما عيشهما الرَّخِيِّ (8).
فهذا بُعدُ نظر من أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه -، فهو يرى أنه كلما زاد في الزهد في الدنيا والتقشف في المعيشة فإنه حرِيُّ بأن ينال مزيدًا من العيش الرَّخِيِّ في الجنة، فلهذا قال: \"لئن استطعت لأشاركنهما بمثل عيشهما الشديد لعلِّي أدرك معهما عيشهما الرخي\".
وهو يريد بذلك رسول الله (وأبا بكر الصديق - رضي الله عنه -.
ولقد كان شديد الالتزام بسنة رسول الله (، وذلك حينما ذكَّر ابنته أم المؤمنين حفصة - رضي الله عنها - بمعيشة رسول الله (، وكان ذلك من أسباب عصمته من الدنيا التي انفتحت في عهده بشكل لم يسبق له مثيل في حياة العرب.
ـــــــــــــــــــ
1) الزهد /115.
2) الزهد /117.
3) الزهد /119.
4) هو عتبة بن فرقد.
5) السَّفَط وعاء كالقفَّه والخبيص نوع من الحلوى.
6) الزهد /121. وأخرج نحوه الإمام مسلم صحيح مسلم، رقم 2069 /12 كتاب اللباس.
7) الزهد /121.
8) الزهد /125.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد